إن التعامل مع القضايا الروحية والدينية يتطلب منا أن نكون على جانب كبير من الإحساس بالمسؤولية العقائدية، بحيث لا يتم تناسي الغاية النهائية المتمثلة في تحقيق المصالح الدينية المبدئية لمصلحة الانحياز إلى الأهداف الحزبية الضيقة، ويكاد يكون مثل هذا الكلام شائعاً جداً على ألسنة الإسلاميين المنخرطين في التنظيمات الحزبية الإسلامية، فضلاً عن شيوعه على ألسنة الناس جميعاً، حتى خرج هذا الاعتقاد عن نطاق أن يكون خاصاً بالنخبة الثقافية الإسلامية، فالكل مجمع على هذا، ولا أعتقد أننا يمكن أن نصادف فيه خلافاً بين الناس.
لكن السؤال الهام الذي يجب طرحه في هذا المقام هو: هل يمكن أن يوجد عمل إسلامي خالص لوجه الله تعالى مع تأطيره بشكل تام بالأطر الحزبية المعروفة، إذ من المعلوم أن العمل الحزبي كما انه يحتوي على بعض الإيجابيات المحتملة جراء التنظيم والمركزية اللذين يطبعان العمل الحزبي بطابعها في كل التفاصيل والجزئيات الدقيقة، إلا أنه ينطوي على عناصر تعتبر قاتلة بالنسبة إلى كل عمل إسلامي يستهدف تحقيق المصالح العليا للدين وليس للفئة الحزبية الضيقة حتى لو كانت الإيديولوجيا العامة التي تمارس العمل على أساسها هو الإسلام.
فالتجربة العملية تكشف من خلال الممارسة الواقعية على الأرض أن الأحزاب كلها سواء كانت أحزاباً علمانية أو أحزاباً دينية، فإنها تتعامل مع الأفكار التي ترفعها بصفتها شعارات ذات منحى ايديولوجي مخادع، حتى لو كانت تلك الأفكار في الذروة العالية من القداسة والمبدئية بالنسبة إلى أولئك الحزبيين قبل أن ينظموا أنفسهم في تلك الهيئة السياسية التي يسمونها حزباً، ولهذا فإن التراجع على مستوى الخدمة الواقعية للمبدأ الديني أو العقائدي واقع لا محالة، فإن لم يحصل في الجيل الأول على سبيل الافتراض، فإنه يعتبر نتيجة حتمية بالنسبة إلى الجيل الحزبي اللاحق أو الجيل الذي يأتي بعده، وهذا ما برهنت على حدوثه بشكل متكرر الوقائع المتكررة في نطاق التجربة الحركية للإسلام السياسي في التاريخ المعاصر.
وهل يقف الأمر عند هذا الحد؟ بالطبع لا، فإن ثقة الجماهير الإسلامية عندما تتزعزع بالحزب الإسلامي السياسي المعين، فإنه لا يمكن تطويق فقدان الثقة هذا داخل نطاق هذه الأحزاب نفسها وحسب، بل لا بد أن يمتد شرار ذلك ليطال الإسلام نفسه، في نظر الوعي الجماهيري على الأقل، مع أن الإسلام في وادٍ وعمل هذه الأحزاب في وادٍ آخر في واقع الأمر، هذا هو ما يشكل مبعث الألم والحسرة في نطاق النظرة الإصلاحية في إطار العمل الإصلاحي الإسلامي واقعاً.
ثم إن هناك شيئاً آخر لا بد من التعريج على مناقشته وإفراغ الذمة بالإشارة إليه، وهو أن تلك الفئة النخبوية التي تسمي نفسها حزباً هم أناس طامحون في الغالب، ولهذا لا تجد إنساناً منهم لا يحدث نفسه في أن يكون مستشاراً أو سفيراً أو وزيراً أو رئيساً للحكومة، فإذا حدث وتخلى عن طموحه الباطني هذا فقل عنه إنه يبحث عن فرصة للإثراء يوماً من خلال استغلال منصبه الحزبي في حال أن رئيس الحكومة أصبح منهم، فإذا لم يحدث هذا أيضاً، فقل عنه إنه يمثل نقطة بيضاء في رقعة ليس فيها إلا ما هو منتمٍ إلى لون السواد، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يكون حجة دامغة على خطأ اعتقادنا حول العمل الحزبي عندما يريد مطابقة نفسه مع الإسلام.
وهنالك شيء ثالث، وهو أن هؤلاء الحزبيين هم سياسيون أولاً وبالذات، ودينيون ثانياً وبالعرض في أحسن حالاتهم، ولهذا فإنهم منشغلون بالهمّ الحركي السياسي الخالص، ويعملون طبقاً لما تمليه قواعد السياسة ومبادئها التي يعمل طبقاً لمقتضياتها كل ساسة العالم، سواء كانوا علمانيين أو دينيين، وبناءً على هذا فإنهم مستعدون في أية لحظة للتضحية بكل الإسلام من أجل بعض السياسة، وعلى هذا الأساس ايضاً لا يكون من المناسب للعمل الديني أن يتماهى كلياً في النظام الحزبي، فإن كان مضطراً لاتخاذ هذه الصيغة في بعض المراحل، فليكن هذا، ولكن لا يمكن بحال أن يكون متماهياً فيه تماماً، ومنتجاً للثمرات الإيجابية بشكل تام على مستوى خدمة الهدف الديني في نفس الوقت.
لقد ساهمت صيغة الأحزاب التي اتخذتها الكثير من القوى الإصلاحية الدينية في بعض الفترات لحسابات استراتيجية تعود بمصلحتها على الواقع الإسلامي في المراحل التي أنشئت فيها تلك الأحزاب، في زعزعة ثقة الشعوب الإسلامية بعملها هي وبمستوى إخلاصها للهدف الإسلامي في الإصلاح والتنوير، وفي انعكاس ذلك المعنى السلبي على الصورة التي يحملها المخيال الاجتماعي عن جوهر الدين وحقيقته، وهنا مكمن الخطر كما قلنا، وربما اعترض علينا معترض بأن الأحزاب الدينية التي تأسست في زمن النظام الصدامي لا يمكن أن ينطبق عليها هذا الوصف، وإلا جردناها من كل فضائلها التي هي من حقها، وفي مقدمة تلك الفضائل أنها قاومت النظام الدكتاتوري في فترة هي أبشع الفترات التي مر بها العراق في التاريخ.
لكننا بالرغم من أننا لا نريد أن نصرح بكل رأينا حول هذه الأحزاب بمختلف عناوينها الشيعية والسنية، ولا نريد أن نجرح إحساس أحد في هذا الاتجاه، فإننا ندعو الجميع إلى الاحتكام لدى المواطنين العراقيين، بما في ذلك القطاعات الجماهيرية التي أيدتها في بداية تغيير النظام الدكتاتوري البائد، فإن الرأي العام الإسلامي في العراق محتقنٌ جداً من عمل هذه الأحزاب، بنفس الدرجة من الاحتقان التي يبديها إزاء الأحزاب العلمانية المتطرفة، وهم بلا أدنى شك متحمسون للإسلام، وراغبون فعلاً في أن تكون للإسلام الحاكمية المطلقة على شؤونهم وتفاصيل حياتهم السياسية والاجتماعية وغيرها، فهل كان يمكن أن يحصل هذا الوعي المضاد للعمل الحزبي الإسلامي لولا وجود الخروقات الكبيرة على صعيد العمل والممارسة لكل المبادئ والشعارات التي نادت بها يوماً، وزعمت أنها تمثلها بشكل كامل.
ما أريد أن أتوصل إليه من خلال مقالتي هذه هو هذه النتيجة التي تستحوذ على كل رأيي، وهي أن الحديث عن الصحوة الإسلامية الموجودة بالفعل، لا ينبغي اعتبار العمل الحزبي الاسلامي مظهراً من مظاهرها، فضلاً عن أن يكون دليلاً قاطعاً على وجودها، فليس اعتبارهما وجهين لعملة واحدة مما ينبغي أن يعتقده المراقب المثقف الحصيف بطبيعة الحال، وتلك نقطة أساسية مركزية في رأينا، والواقع نفسه يبرهن بقوة على وجودها في العراق.
إن عالماً حوزوياً بسيطاً يمارس عبادته وزهده، ويقدم للناس أنموذجاً أخلاقياً استثنائياً على مستوى الامتثال لأوامر الله سبحانه يكون قادراً بشكل أكبر من كل أحزاب الدنيا على أن يحدث في النفوس والقلوب زلزالاً معنوياً وأخلاقياً يجر المجتمع بصورة تلقائية وعفوية إلى منطقة التدين والامتثال للاسلام، وليس في كلامنا هذا ما يشير إلى أننا نؤيد عملية التخلي عن العمل الحركي بالنسبة إلى رجال الدين المصلحين، فهذا يقع بالضد تماماً مما نؤمن به وندعو إليه، لكننا نختلف فقط في استراتيجية التعاطي مع هذا العمل الحركي أو السياسي بما يجعل الدين في منأى عن الأخطاء التي لا بد أن يرتكبها السياسيون والتجاوزات على المبادئ الخلقية والوطنية مما يقع في نطاق فساد السلطة وإغراءاتها المتعددة، وهذا ما سوف نتحدث عنه حديثاً مقتضباً من خلال الأسطر التالية.
أنا أعتقد أن الرؤية الدينية للعمل الحركي الإسلامي يجب أن تتخذ لها وجهة أخرى غير أن يتصدى الإسلاميون الحوزويون بأنفسهم للسلطة، فهم يمارسون واجباتهم التوعوية الدينية من منطلق العمل الحركي ومراقبة السلطة السياسية، كما انهم يساهمون بفاعلية مستمدة من سلطة الإسلام على النفوس في خلق حالة من الوعي الإسلامي داخل الأوساط الشعبية بحيث يكون الرأي العام متجهاً بصورة تلقائية إلى مراقبة الحاكم ووزنه بميزان المصالح الدينية دون التفريط بالمصلحة الوطنية التي إن توفرت النوايا الطيبة الخالصة لدى السياسيين فلا يمكن أن تتقاطع مع مصلحة الدين، وهم من هذا الموقع يكونون على قمة الهرم السياسي دون أن يكونوا مسؤولين عن ارتكاب أية شناعة على المستوى الديني والوطني، فالأخطاء يتحملها السياسيون الذين هم يحملون الثقافة الدينية بالتأكيد، ومتوجهون نحو خدمة الإسلام في تاريخهم الطويل، ومزودون بالخبرات الكبيرة اللازمة لتسنم المواقع الخطيرة في إدارة البلاد، فهم إذ لا يكونون من رجال الدين في الزي الحوزوي المعروف، لا تنعكس أخطاؤهم على سمعة الحوزة التي هي شعار الإسلام بالتأكيد، بل يتحمل كل منهم نتيجة أخطائه من الناحية القانونية وينتهي الأمر.
أما في الحالة التي يتصدى بها بعض رجال الدين للمناصب الحكومية بأنفسهم، فإن الأمر سيكون مختلفاً جذرياً بالطبع، فإذا فرضنا أن رجل دين معيناً ارتكب جريمة أو خطأً يحاسب عليه القانون وحوكم على هذا الأساس، فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد طبعاً، لأن صورة الدين نفسه سوف تتأثر سلباً بذلك المشهد في أعين الناس، وهذا ما لا يجب أن يحصل من الأساس، لأن ضرره شامل للضرر على الدين نفسه، وعلى الحوزة العلمية الشريفة ذاتها.
إن المجتمع في غير أوقات المعارضة لا يحتاج إلى مثل هذه الأحزاب الدينية، لأن المجتمع في الغالبية الساحقة منه ديني بطبيعة الحال، وهو حريص على المصالح الدينية ومتجه لخدمتها والعمل من أجل ترسيخها وازدهارها، وإن كان محتاجاً بطبيعة الحال إلى رعاية الحوزة العلمية لشؤونه الدينية والدنيوية معاً، لأن الحوزة لا يمكن أن تستهدف المصالح الشخصية أو الفئوية على حساب المصالح الدينية والاجتماعية العليا، من جهة فلسفتها في الأقل، خلافاً للحال مع الأحزاب الدينية، فإن بنيتها من الأساس تستلزم أن يتجه الحزبيون الدينيون إلى تقديم مصلحتهم الفئوية الضيقة على المصلحة الدينية والاجتماعية العليا، وهي إن فعلت ذلك، ولا بد أن تفعل، فإنها لم تتناقض إطلاقاً مع نفسها، فالمتوقع منها بشكل طبيعي أن تتخذ لها هذا التوجه، وتنحرف عن كل ما يضادُّه ويناقضه.
اضف تعليق