عندما ظهرت المؤلَّفات التي تتَّخذ هذا السبيل في التعاطي مع ثقافة العصر سجالاً وحواراً على مستوى تقديم النظريات والأطروحات الإسلامية الجديدة على يد علماء من الحوزة الشريفة من أمثال السيد الشهيد محمَّد باقر الصدر، وسماحة الشيخ محمَّد جواد مغنية، ومطهَّري إلخ، وأصابت نجاحاً ورواجاً في الأوساط العالمية والإسلامية التي تمثِّل المعاقل الرئيسية لانتشار النخب الثقافية الكبيرة، وجعلت مسألة تجاوز الزمان للمسائل التي تتعلَّق بالدين عموماً، وبالإسلام خصوصاً مسألةً ليست غير مفروغٍ منها فحسب، ولا قابلةً للنظر فقط، بل جعلتها مسألةً تدلُّ على سطحية التفكير وسذاجته بالنسبة إلى كلِّ فلاسفة العالم ومفكِّريه الذين يحملون في رؤوسهم هذه الفكرة، ويروِّجون لها في كتبهم وبحوثهم ومقالاتهم.
فعندما حصل كلُّ ذلك، تصوَّر الوسط الحوزويُّ السائد آنذاك أنَّ سبب نجاح هذه المؤلَّفات وانتشارها وتأثيرها في الأوساط الثقافية النخبوية هو أنها جنحت نحو استعمال اللغة الحديثة المتداولة، ولم تصل تلك النظرة إلى مستوى الحفر الداخليِّ في هذه النصوص والكتابات، لمعرفة العوامل الحقيقية التي حسمت الموقف لمصلحتها في الصراع الحضاريِّ بين الفكر العلمانيِّ الملحد والإسلام، ولم تكن تلك النظرة الخاطئة لترسم مساراً صحيحاً لما يجب أن تكون عليه الكتابات الإسلامية الجديدة، بل أنا أزعم أنها أضافت خطأً آخر إلى الخطأ القديم، وإليكم توضيح ذلك:
1- إنَّ تلك النظرة ركَّزت مفهوم القدامة في التفكير إلى حدِّ أنَّ مشروع الإصلاح على مستوى الكتابة الحوزوية صار عسير المخاض، ومتعثِّر الخطوات فعلاً، فهي تمثِّل عملية سحب البساط من تحت أرجل المشروع الإصلاحيِّ للكتابة الإسلامية، لأنها اختزلت الخلاف بين التقليديين والتجديديين، وحجَّمته إلى درجة جعله مجرَّد خلافٍ لفظيٍّ من الممكن أن يتمَّ تجاوزه كما هو معروفٌ في الدراسات العقلية داخل الحوزة العلمية الشريفة، ولم يكن مثل هذا الإختزال للمشكل المعرفيِّ صحيحاً على كافَّة المستويات، بل كان الخلاف قائماً على قدمٍ وساقٍ بين التجديديين والتقليديين حول العقلية والأطر الذهنية العامَّة التي يجب أن تتأطر بها العلوم الدينية في العصر الحديث، لكي تكون على قدر المسؤولية في تحمُّل أعباء النهضة، وهذا ما وقفت تلك النظرة الإختزالية السطحية عائقاً كبيراً دون توضيحه، ودون أن يأخذ طريقه إلى أن يصبح إشكاليةً تستحقُّ النقاش في الصميم.
2- إنَّ شيوع هذه النظرة وممارستها عملياً من قبل مؤلِّفين لم يكونوا مزوَّدين بذلك الإطار الذهنيِّ الذي يؤهِّلهم لإنجاز مشروع الكتابة الجديدة، جعل الأجيال القادمة في الحوزة العلمية تحافظ على اعتقادها الإزدرائيِّ لكلِّ المشاريع الفكرية الدينية الجديدة، بل إنَّ نظرتها تستبطن شعوراً بالإمتهان نحو ذلك النوع من الكتابات حتى الزمن الحاضر، لأنهم يعاملون كلَّ منجزات الكتابة الإسلامية الحديثة باعتبارها معالجاتٍ سطحيةً قد تمَّت معالجتها في التراث الإسلامي الحوزويِّ التقليديِّ الموروث، وهم يعتبرون أنَّ الوسط الثقافيَّ الإسلاميَّ النخبويَّ نفسه ليس مؤهَّلاً لاستيعاب هذه المعالجات في تلك الموسوعات العلمية التي خرجت من الحوزة، ولهذا فإنهم يعتقدون أنها خاليةٌ من هذه المعالجات التي تغني عن كلِّ ما يحملونه في رؤوسهم من هذه الفلسفات والرؤى والتصوُّرات الحديثة، وبما أنهم مكلَّفون شرعاً بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، فإنهم يتنزَّلون عن علمهم السامق ليترجموا تلك المضامين الحوزوية العسيرة على فهم هذه النخب في لغةٍ متداولةٍ سهلةٍ، ليفهموها وليستوعبوا هذا القليل الذي أفلحت في نقله الترجمة، أما ذلك الجانب العميق من الفكر والثقافة في تلك النصوص الحوزوية الأصلية، فإنها من نصيب عقولهم هم وحدهم، ولا يمكن لهؤلاء أن يحظوا به، لأنهم لم يكسبوا الإستعداد اللازم لذلك.
3- إنَّ الكتابات السطحية لهذ الفئة من المؤلِّفين الذين يدَّعون زوراً أنهم امتلكوا ناصية المدرستين، أعني ناصية المدرسة الفكرية التقليدية، وناصية المدرسة التجديدية الحداثية فيما يخصُّ الفكر الدينيّ، أساؤوا كثيراً إلى هاتين المدرستين معاً، لأنهم لم يفلحوا في تقديم خطابٍ ثقافيٍّ إسلاميٍّ حديثٍ فعلاً من جانبٍ، ولم يحافظوا على الخطاب الحوزويِّ ورصانته من جانبٍ آخر، فكانت التضحية إلى مستوى الفاجعة في الجانبين معاً، وكان من الخير لهم أن يحافظوا على الخطاب التقليديِّ في أصوله المعروفة، بدلاً من أن يفقدوه هذه الرصانة التي تضفي عليه الأهمية التي يستحقُّها بعملٍ لا يتجاوز معنى الترجمة والشرح السطحيِّ المبسَّط في كلِّ الحالات.
4- إنَّ النزعة العامَّة عند هؤلاء هي التوجُّس من قيمة المنهجيات والعلوم الإنسانية الحديثة، وكأنَّ سقراط أو أفلاطون أو أرسطو كانوا يوماً من المسلمين، إذ تعاملت معهم الثقافة الإسلامية في العصور الإسلامية الأولى بصفتهم كائناتٍ قادرةً على أن تضيف إلى العقل الإسلاميِّ ما يجعل فكره أرقى، أما التعامل الجديُّ الحديث مع علوم اللسانيات والأنثروبولوجيا وعلوم الإجتماع والفلسفة الحديثة فلا يمكن أن يقوم بمثل هذا الدور، وتلك لعمري قسمةٌ ضيزى طبقاً لكلِّ المقاييس، فلو أنهم اعتزلوا الصراع ومشروع تحديث الفكر الإسلاميِّ من الأساس لكان خيراً لهم ولنا من هذه الجهة، لكنهم أقحموا أنفسهم في خضمِّ المحيط، وهم لا يحسنون فنَّ السباحة بالمستوى البسيط الذي يؤهِّلهم لعبور نهرٍ صغير، فكانت المأساة التي سبَّبوها لمشروع إصلاح الفكر كارثيةً طبقاً لهذه النظرة السطحية الساذجة.
إنَّ تحديث الفكر الإسلاميِّ يمثِّل ضرورةً قصوى لا يمكن التنازل عنها، دون أن يكون الإتهام بأنَّ هذه المطالبة بالإنخراط في مشروع تحديث الفكر هي امتدادٌ لأية نزعةٍ أو رغبةٍ بالإنسلاخ عن الدين نفسه وارداً، بل إنَّ لهذا الإتهام إن كان وارداً باتجاه مطالبات الواعين من هذه الأمَّة بالإشكال الحضاريِّ والمعرفيِّ الذي يواجهه الفكر الإسلاميُّ عموماً، لوازم لا أعتقد أنهم يوافقون عليها، وهي كما يلي:
اللازم الأوَّل: إنَّ هذا الفكر الذي أبدعته عقول البشر هو في نفس الدرجة من الأهمية والإعتبار مع النصوص الدينية المقدَّسة ذاتها، وأعتقد أنَّ هذا يناقض الإعتقاد الدينيَّ الصحيح مناقضةً لا يناقش فيها أحد أصلاً.
اللازم الثاني: إنَّ هذه الموسوعات والمجلَّدات الضخمة في علم التفسير وعلم الكلام الإسلاميِّ والفلسفة الإلهية وغيرها، إنما هي خروجٌ صريحٌ عن الإسلام، باعتبارها علوماً تأثرت مئة بالمئة بالتراث الفلسفيِّ اليونانيِّ والرومانيّ، ولا شكَّ أنه تراثٌ أبدعته عقول غير المسلمين، فإذا قيل إنَّ هؤلاء المفكِّرين المسلمين أخذوا من أولئك العلوم المحايدة التي لا تستبطن أيَّ بعدٍ دينيٍّ أو عقائديٍّ، بل هي علومٌ خادمةٌ للنصِّ الدينيّ، ومساعِدةٌ على استخراج درره ومعانيه ودلالاته المختلفة، كعلم المنطق وبعض مقولات الفلسفة وغير ذلك، قلنا فليكن الأمر كذلك في مقامنا الذي نتحدَّث فيه، فلنستفد من العلوم الإنسانية المعاصرة التي هي محايدةٌ بدورها، وتساعدنا على تأدية الدور نفسه اتجاه النصوص التشريعية والدينية المقدَّسة، فحكم العقل في الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحدٌ كما يقال.
اللازم الثالث: أن نطرح جانباً كلَّ المؤلَّفات التي استثمر فيها العلماء والمجتهدون الكبار كالسيد محمد باقر الصدر ومطهري وغيرهما تلك المنهجيات والعلوم الإنسانية في تحديث الفكر الإسلاميِّ خلال حقبةٍ زمنيةٍ معينةٍ، وعلى سبيل المثال فإنَّ السيد محمَّد باقر الصدر استثمر منهج الإستقراء، وهو منهجٌ تجريبيٌّ محضٌ، لإثبات وجود الله سبحانه، وهذا منهجٌ مستحدثٌ لا علاقة له إطلاقاً بعلم الكلام القديم كما هو بيِّنٌ، وهو مستفادٌ من العلوم الإنسانية الحديثة دون شكٍّ، فإذا قيل إنَّ هذا جائزٌ وما تدعون إليه ليس بجائزٍ كان كيلاً بمكيالين، ومجانبةً صارخةً لحكم البداهة في كون الحالين واحداً، فما جاز هناك جاز هنا، ولا ضرورة للتفكيك بين الموقفين.
لا أعتقد أنَّ حسم المعضلة الحضارية على مستوى المواجهة بين الإسلام والأفكار المناهضة يتمُّ من خلال الرؤية الضيِقة التي تدعو إلى الإنطواء على الذات وعزل الفكر الإسلاميِّ عن معرفة المحيط العالميّ، مع اعترافنا التامِّ بأنَّ هناك اجتياحاً ثقافياً وحضارياً يستغلُّ كلَّ منجزات التقنية ووسائل الإتصال ومراكز البحوث والمعلومات وغيرها من المؤسَّسات العاملة في إطار الترويج لثقافةٍ بعيدةٍ كلياً عن الإسلام، ولا شكَّ أنَّ قيم العولمة الغربية والأمريكية في العصر الحديث تقدَّمت إلى مصافِّ المواجهة العلنية، لتصطدم بحضارة الإسلام في الصميم، وهذا أمرٌ لا نقاش فيه، لكنَّ المسألة هي أننا كيف نواجه هذا التحدي، وكيف نقترح المعالجات والحلول العلمية والصحيحة لكلِّ هذه المشكلات الحضارية على مستوى الهمِّ الدينيِّ للمثقف وللمفكر المسلم، فهل يكون ذلك بالإجابة على مختلف الأسئلة المطروحة فعلاً والمقترحة أو المتوقع طرحها على الإسلام في المستقبل بما كان يتحدَّث به العلماء السابقون جزاهم الله خيراً، أم أنَّ خوض المغامرة المعرفية والفلسفية الحضارية تتطلَّب منا أن نكون على معرفةٍ تامةٍ بما لدى الخصم من الأسلحة الفكرية التي توفِّرها المنهجيات العلمية الحديثة؟
إنَّ الإجابة على هذا السؤال تتطلَّب منا قدراً عالياً من الشجاعة في الحقيقة، لكي نعترف أنَّ منهجيات القوم لم تعد قادرةً على أن توفِّر الإجابات الشافية على آلاف الأسئلة التي لم تكن مطروحةً في حينها، بل إنَّ الأسئلة التي طرحت في السابق هي نفسها تحتاج إلى إعادة الصياغة من جديدٍ، الشيء الذي يعني أنَّ نوع الإجابة سيكون مختلفاً تبعاً لذلك، ولو أنَّ المسلم المعاصر أجاب على الإشكال المعيَّن المطروح بالجواب التقليديِّ الموروث من عصر الشيخ الطوسيِّ أو من عصر العلامة الحليِّ لما أغناه كثيراً، بل ربما كانت إجابته تلك سبباً في إثارة الكثير من السخرية في الأوساط الثقافية والفلسفية اليوم.
نحن الآن نمتلك رصيداً ممتازاً من التجربة العملية التي تجعلنا واثقين من هذه النتيجة في العالم الإسلاميِّ أجمع، بعد أن أصبح على فكرنا الإسلاميِّ الحديث أن يكون في مواجهة فلاسفة الغرب والمثقَّفين السائرين على خطاهم في عالمنا الإسلاميِّ نفسه من خلال الإعلام والفضائيات على وجه الخصوص، فكم من لقاءٍ متلفزٍ تعرضه إحدى الفضائيات بين مفكِّرَين، أحدهما إسلاميٌّ والآخر علمانيٌّ أو ليبراليٌّ أو أيُّ شخصٍ آخر ممَّن لا ينتهجون النهج الدينيَّ في تفكيرهم، فإن كان الطرف الإسلاميُّ في النقاش رجل دينٍ تقليدياً فإننا نحدس أنه سيكون الطرف الخاسر في النقاش مهما كان حظُّه من العلوم الحوزوية التقليدية كبيراً، وليس هذا فحسب، بل إنه باسلوبه في الحوار، وبنوع الطرح الذي يتقدَّم به في مواجهة الخصم يجعل العديد من المتابعين للحوار بينهما متعاطفاً مع وجهة النظر العلمانية أو الليبرالية غير المتِّفقة مع الإسلام، إلا أن يكون المرء منحازاً بحكم إيمانه المسبق إلى الدين، فيكون تعاطفه مع الدين الذي يؤمن به على وجه الحقيقة، وليس مع الطرف الذي يخوض الحوار بذلك الإسلوب التقليديِّ الفجِّ الذي لم يعد قادراً على إقناع أحدٍ في العصر الحديث.
كما انَّ نوع الإشكاليات المطروحة من نوعٍ مختلفٍ، وهي من الطراز الفلسفيِّ في الغالب، فإنها تتطلَّب حلولاً وإجاباتٍ من الطراز الإشكاليِّ الفلسفيِّ نفسه، تلك قضيةٌ في غاية البداهة لا أعتقد أننا كنا بمستوى فهمها فهماً موضوعياً كاملاً مع شديد الأسف، فكانت النتائج على هذا الصعيد كارثيةً ومروِّعةً، حتى انَّ أكثرنا لا يريد أن يفيق من هول الصدمة، ويفضِّل أن يظلَّ على حاله سادراً عن الحقيقة، وإن خفَّف من غلوائه قليلاً، فلم يعد يبدي الحماسة الكبيرة للوقوف صفاً واحداً ضدَّ من يختارون هذا السبيل في التفكير والكتابة.
إنَّ التوجُّه إلى العلوم الإنسانية الحديثة لا يعني بالضرورة الأخذ بقضِّها وقضيضها من جهة وجود ما لا يتَّفق مع المنهجيات الصحيحة لمقاربة النصوص الإسلامية المقدَّسة فيها، فإنَّ هذا الجانب مأخوذٌ في نظر الإعتبار أثناء الدعوة نفسها، بل إنَّ كلَّ ما يعنيه هو أن نجدِّد مناهج بحثنا على صعيد مختلف المقاربات التأريخية والأصولية والفقهية والفلسفية وغيرها، طبقاً لما أصبح واضحاً أنه نافعٌ جداً في مجال البحث المنهجيِّ داخل هذه العلوم والإختصاصات، وأن نقتدي اقتداءً فعلياً بمن أخذوا بهذا النهج في التفكير خلال العقود السابقة، فحدَّثوا الكثير من وسائل تفكيرهم ومقارباتهم، فكانت النتائج التي خرجوا بها في هذا المضمار مما يدعو إلى الإعجاب فعلاً، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يشكَّ ولو طرفة عينٍ بمدى ما كان يبديه الأستاذ مطهَّري أو السيد محمَّد باقر الصدر أو العلامة محمد جواد مغنية من الإخلاص للإسلام، وهل يُعقل أننا أكثر حرصاً من هؤلاء على الدين وعلوم الدين لنبدي اعتراضاً على مثل هذه الدعوة للأخذ الجدِّي بالكثير من منهجيات العلوم الإنسانية الحديثة، أم أننا نشاء أن نبرِّر عجزنا عن أن نكون مثلهم في هذا المجال حسب، فنقول إننا نخشى على إسلامنا وقرآننا وأحاديث نبيِّنا وكلمات المعصومين من مثل هذا الإجراء؟!.
اضف تعليق