q

تلك معزوفةٌ لا أظنُّ أنها سوف تنتهي يوماً، ما دام الفضاء مفتوحاً أمامها إلى النهاية، وإنَّ كلَّ ما في العصر يشجِّع عليها ويعتبرها الصيحة التي يجب على كلِّ باحثٍ أن يستجيب إليها وإلا لم يكن في نظر العلم باحثاً حقيقياً خليقاً بأن يقدِّم الأطروحات في أيِّ مجالٍ من مجالات المعرفة الإنسانية الواسعة، وهي المعزوفة الخاصَّة باعتبار الدين شيئاً ما من نتاج التأريخ، ولا علاقة للواقع الموضوعيِّ بوجوده من قريبٍ أو بعيد.

إنَّ كثيراً من الباحثين منغمسون حتى هامة الرأس في هذه القناعة، ولا يشاؤون مطلقاً مراجعة أفكارهم أو وضعها على محكِّ النقد والفحص العلميِّ الدقيق، بعد أن تلقوها جاهزةً من الكتب الإستشراقية والإلحادية التي نظَّرت للدين في المجال الغربيّ، وكانت منطلقةً من العقد التأريخية التي حكمت علاقة الإنسان الغربيِّ المتطلِّع إلى الحرية وحياة العلم الجديد مع الكنيسة التي لم تألُ جهداً في وضع العراقيل أمام هذا النزوع مما هو معروفٌ في الكتب التي أشبعت هذا الموضوع بحثاً ودراسةً، سواءٌ في المجال الغربيِّ نفسه، أو في المجال الإسلاميِّ الذي لا يمكن النظر إليه من الزاوية العقائدية الخالصة، حيث يكون الإنحياز إلى الدين وتفسيره تفسيراً إلهياً منسجماً مع معطى الوحي والتنزيل تاماً، بل إنَّ هناك في هذا المجال كثرةً من الباحثين والدارسين والمبدعين في الميادين الثقافية والفلسفية المختلفة من لا يوافق على النظرة الإلهية الخالصة للدين، ويحاول أن يترسَّم في تفسيره لهذه الظاهرة خطى الباحثين الغربيين أنفسهم، وهم في الغالب يعبِّرون عن موقفٍ معارضٍ للدين على وجه العموم، وللدين الإسلاميِّ على وجه الخصوص.

لكنَّ الدين لم يفقد مبرِّر وجوده بالرغم من هذا كما هو واضحٌ ومشاهدٌ للعيان في كلِّ أنحاء الأرض، بل إنَّ ظاهرة التديُّن والرجوع إلى التعلُّق بأهداب الإيمان لهي الظاهرة الأبرز في كلِّ أنحاء العالم، حتى في تلك البلدان التي نبعت منها فكرة الإلحاد الفلسفيِّ في العصور الحديثة، فالغربيون اليوم غير الغربيين بالأمس القريب، فهم لم يعودوا يعتبرون الدين ظاهرةً تناقض العلم في شيءٍ كما كان عليه الحال في الزمن الذي سادت فيه الفلسفات الوضعية المنطقية والماركسية والوجودية في النصف الأوَّل وشيءٍ من النصف الثاني للقرن العشرين المنصرم، بل بات الغربيون اليوم يشاركون الشرقيين في هذا النزوع الحادِّ نحو الإيمان، حتى وإن بقي هذا الإيمان مجرَّداً عن لوازمه العبادية والتكليفية في الكثير من الأحيان، لكنَّ الإيمان موجودٌ بشكلٍ بارزٍ وظاهرٍ للعيان، ويشكِّل ظاهرةً تستدعي الرصد والملاحظة، وهذا في رأينا هو المهمّ.

ومع ذلك، فإنَّ العديد من الدارسين في المجال العربيِّ والإسلاميِّ ممن تأثروا في دراساتهم بالمعطى الإلحاديِّ للفلسفة الغربية لا ينفكّون ينحون باللائمة على تغلغل العقيدة الدينية في حياة الإنسان الشرقيِّ عموماً، والعربيِّ على وجه الخصوص، لكي يفسِّروا في رأيهم ما عليه هذا الشرق والأوضاع العربية والإسلامية من التخلُّف والإنحطاط، في مجال الحكم وما يتعلَّق به من شؤون الديمقراطية والإستبداد، وعدم رسوخ فلسفة حقوق الإنسان في البنية الإجتماعية والسياسية والحقوقية لهذه المجتمعات، وقد يعزون التخلُّف في مجال التكنلوجيا والعلم التطبيقيِّ بشكلٍ عامٍّ إلى هذا السبب بالذات أيضاً، حتى ليكاد القارئ يعجب من شدَّة غباء هؤلاء، إذ لا يراجعون أنفسهم ولو مرَّةً في كلِّ عشرين عاماً على سبيل المثال، ليكتشفوا ما في تفسيراتهم وتحليلاتهم السابقة من الخطل والإبتعاد عن دائرة الصواب، فلقد اتَّضح أنَّ لكلِّ هذه المظاهر التي يتكلَّم عنها هؤلاء الجماعة من الباحثين المتأثرين بالفلسفة الإلحادية التي سادت في أجواء القرن العشرين أسباباً وعللاً أخرى غير تلك التي كانوا يتخيَّلونها في السابق، فلا الإيمان بالدين هو السبب في هذا التخلُّف، ولا الصلاة والصيام وسائر التكاليف التي يقوم بها المسلمون هي المسؤولة عن فقدان الوعي بضرورة أن تكون هذه المجتمعات على نصيبٍ وافرٍ من حيث الأهلية السياسية والحقوقية والعلمية وغيرها، كما انَّ الدين ليس مسؤولاً عن انتشار ظاهرة التفكير الأصوليِّ الطارد للآخر والمتقاطع معه إلى درجة الإقتتال، فكلُّ ما يوجد من المظاهر المؤسفة في هذا النطاق يمكن تتبُّعه ودراسته واستقراء تجلِّياته بحيث يقودنا التفسير الموضوعيُّ لها إلى اكتشاف عللها الواقعية التي ليس من بينها الدين في حقيقته وجوهره بطبيعة الحال.

ليس من همِّنا أن نشعِّب الحديث أكثر، فإنَّ مقصدنا الأساسيَّ هو أن نتناول ظاهرةً واحدةً من الظواهر التي يركِّز عليها هؤلاء الكتاب في الزمن الحاضر، وهي الظاهرة الأصولية المتزمِّتة التي أصبحت تتنامى في العالم العربيِّ والإسلاميِّ بزعمهم إلى درجةٍ لم يعد معها ممكناً الحديث الهادئ، أو اللجوء إلى الوسائل السلمية في معالجتها، إذ لا بدَّ من أن تكون مسألة اللجوء إلى الإستعانة بالقوَّة العسكرية لأمريكا والعالم الغربيِّ حاضرةً في كلِّ حين، وليس من الصحيح تفسير هذه الظاهرة التي انتشرت في العالمين العربيِّ والإسلاميِّ انتشار النار في الهشيم إلا بأنَّ بذورها موجودةٌ في التفكير الدينيِّ بأيِّ شكلٍ من الأشكال، مهما قيل عن براءة الدين من هذه الظواهر العنفية الموجودة في كلِّ أنحاء المعمورة على الجانب الإسلاميّ، فأينما وجد الإسلام وجد العنف بزعم الكثيرين من أقطاب التفكير في هذا الإتجاه، وعلى هذا الأساس فإنَّ الغرب نفسه لو عاش فيه المسلمون زماناً طويلاً وتربَّوا هم وأولادهم على طراز الحياة الغربية بكلِّ ما تزدهر به من المدنية وأسباب التحضُّر، فإنهم يحملون في أذهانهم جينات العنف والتفكير الأصوليِّ ماداموا على دين الإسلام.

بل إنَّ الأمر ليتَّخذ مدىً أبعد، فلو أنَّ الإنسان الغربيَّ نفسه انتقل إلى الديانة الإسلامية وآمن بالقرآن دستوراً وبمحمَّد بن عبد الله نبياً خاتماً لأصبح مزوَّداً بهذا النزوع إلى العنف والتفكير الأصوليِّ بالدرجة ذاتها، فلا فرق من هذه الناحية بين المسلم الغربيِّ والمسلم الشرقيّ، لأنه مسحوبٌ بالإسلام نفسه إلى منطقة العنف وكلِّ سلبيات الفكر الأصوليِّ الذي هو محلُّ الإستهجان من العالم الحديث بأسره.

إنَّ الأصولية الإسلامية هي الخطر الكبير على الحضارة العالمية وليس الغربية فقط بحسب رأي هؤلاء، فليكن الأمر كذلك، ولكن أليس من المنطقيِّ أن نمتحن هذا الفرض، أم أنه آيةٌ منزَّلةٌ من السماء لا تحتمل نقاشاً من أحد، ولا يمكن أن تُجابَه إلا بالسمع والطاعة والجثوِّ على الركب فرط التسليم والإنقياد؟!.

ولنا أن نسأل طبعاً: من حفَّز الإنسان المسلم على أن يتَّخذ لنفسه هذا المسلك من التفكير، بعد أن عاش العقود الطوال مسالماً هادئاً، إلا ما كان منه من أمر مقاومة الإحتلالات المتعاقبة على أرضه وأوطانه أيام كانت الدول الإستعمارية تتقاسم بلدان العالم الإسلاميِّ كأنما ورثته عن أجدادها القدامى ملكاً خالصاً صرفاً، من دون أن يعني هذا بالطبع أنَّ الإحتلال قد وضع لنفسه حداً في الزمن المعاصر، بل إنه اتخذ لنفسه أساليب جديدةً أكثر خبثاً في استعمار البلدان ذاتها، مع الإشارة إلى أنَّ نمط الإستعمار الأوَّل ما زال مستمراً إلى الآن في بعض الجهات الإسلامية، ومن بينها طبعاً العراق، إذ احتلَّته أمريكا في وضح النهار، ونصَّبت عليه حاكماً مدنياً في حينها، ثمَّ أعقبته بالكثير من التحوُّلات السياسية التي لم تخرج عن تبعيتها للمحتلِّ الأمريكيِّ في جميع الأحوال، ناهيك عن الإحتلال المستمرِّ منذ الفترة الأولى التي ساد فيها ذلك النمط الصريح للإستعمار إلى الآن في فلسطين، بكلِّ ما تحمله بقعة الأرض هذه من الرمزية الدينية المقدَّسة العالية في ضمائر المسلمين جميعاً، شيعةً وسنةً ومذاهب أخرى.

كما إنَّ السياسة الغربية وأمريكا بما تمتلك وسائل السيطرة على إدارة شؤون العالم هي التي ترسم الخارطة السياسية للقوى الفاعلة في عالم اليوم، ولا يشذُّ منها إلا القليل من المفاجآت السياسية التي تحصل في هذه المنطقة من العالم أو تلك، وسرعان ما تحكم الطوق عليها من جديدٍ أيضاً، بحيث لا تسير الأمور في الآخر إلا في المسار المرسوم من قبلهم، وهكذا فإنَّ السياسة الغربية وأمريكا مثلاً هي المسؤولة عن إيجاد الكيان الطالبانيِّ الذي انتهى إلى ما انتهى إليه من الوضع الأصوليِّ السيِّء، فهل يتحمَّل الإسلام وجود هذه الفئة الأصولية المتعصِّبة في العالم ولا تتحمَّل السياسة الغربية والأمريكية ذاتها وزر دعم هذه الجماعة وتمكينها من الوصول إلى السلطة يوماً ما لمصلحةٍ استراتيجيةٍ كان الغرب والأمريكان يريان أنها رهينةٌ بوصول هؤلاء إلى الحكم.

من الحقيق بالغربيين والأمريكيين أن يراجعوا أنفسهم قبل كلِّ شيءٍ، وأن يحاسبوا ساستهم وأحزابهم الكبيرة التي تحكم عن اتِّباع هذا النمط من الممارسة السياسية في العالم، وعليهم أيضاً أن يعترفوا بتلك الحقيقة المُرَّة، وهي أنَّ الأصولية المتعصِّبة شيءٌ يتمُّ تصنيعه في معامل السياسة الغربية والأمريكية أوَّلاً، ثمَّ يتمُّ تصديره إلى الأصقاع الأخرى من العالم، لكن من الطبيعيِّ أن يؤدِّي هذا العقار المصنَّع غربياً وأمريكياً فائدةً مؤقَّتةً لمن قام بتصنيعه وتعاطاه أوَّل مرَّةٍ، ثمَّ تكون له من الآثار الجانبية السلبية المستقبلية ما يعود على من تعاطاه بمختلف الأدواء والأمراض المعضلة.

لقد صُدِّعت رؤوسنا بحديث الغربيين والأمريكان عن فلسفة التسامح في الكتب والدوريات وأجهزة الإعلام المختلفة، ونحن لا نعرف من هذا التسامح ولا نرى من مظاهره وتجلِّياته إلا ما جعل الآلاف من البشر يموتون في بعض الثواني من كلِّ يومٍ أو من كلِّ أسبوعٍ أو من كلِّ شهرٍ، ولا فرق لدينا طبعاً بين أن يكون فاعل هذه الكوارث المأساوية أصولياً متزمِّتاً من المسلمين الذين عملوا في حقبةٍ من التأريخ بأجنداتٍ غربيةٍ وأمريكيةٍ محضةٍ، أو كان من الغربيين والأمريكان أنفسهم بعد أن أنزلوا البارجات والطائرات في المياه الإقليمية والدولية لاحتلال البلدان المسالمة، وقاموا باحتلالها فعلاً ولم يمنحوا أبناءها أيَّ حقٍّ من حقوق البشر في أبي غريبٍ أو في سجن بوكا أو في سجون الحكومات التي تأتمر بأمر الإحتلال بالطبع، فكان من الطبيعيِّ أن تقاوم هذه الشعوب وأن تعترض على هذه السياسات الإستعمارية الفاشية القاتلة، ثمَّ لا يكون جزاؤها إلا القتل والدمار، فإذا ما اندلعت مقاومةٌ لمشاريع الإحتلال هنا أو هناك في المنطقة الإسلامية قيل إنَّ هذه المقاومة من نتائج التفكير الأصوليِّ المتعصِّب الذي يغرسه الإسلام في أذهان وضمائر هذه الأمم والشعوب.

ثمَّ تعالوا معي إلى مسألة السلام في العالم، فلننظر من يُعدُّ مسؤولاً عن قطع دابره في جميع أرجاء المعمورة في شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، طيلة القرن العشرين والعقد الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، هل هم المسلمون الذين يصلُّون ويصومون ويحجُّون ويؤمنون بفريضة الجهاد طبقاً للقواعد الشرعية التي أرساها القرآن وسُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام، أم هي أمريكا والسياسة الغربية التي لا تشاء أن تخطَّ لها مساراً آخر غير المسار الأمريكيِّ الذي أصبح العديد من المفكِّرين والفلاسفة الأمريكان بالإضافة إلى القطاعات الواسعة من الجماهير الأمريكية يوجِّهون إليه النقد الموضوعيَّ الصارم الذي يصل إلى حدِّ المقاطعة واتخاذ المواقف الصارمة منه، فإذا كان الجواب هو الأوَّل فإنَّ البداهة العقلية وحدها كافيةٌ لتفنيد تلك الإجابة، فليس من المعقول أن يكون ذو الموقف الأضعف هو الذي يغذِّي أسباب الصراع مع الجانب القويِّ المدجَّج بمختلف أنواع الأسلحة الأسطورية الفتاكة، فإن فعل ذلك فلا بدَّ أنه في مستوىً من الجنون لم يعد معه يصلح للسير للكون في الأماكن والطرقات العامَّة بسلامٍ وأمانٍ، وتلك نتيجةٌ غير معقولةٍ بالطبع، وإن كان الجواب هو الثاني، ولا بدَّ أن يكون هو على وجه التحديد، على أساس الإستناد إلى البداهة العقلية، مضافاً إلى آلاف القرائن من مختلف الأنواع، وهي تدلُّ بأجمعها على أنَّ هذا القويَّ المتجبِّر من الجانب الغربيِّ والجانب الأمريكيِّ معاً هو من أوصل الأمور إلى هذا المستوى من التقاطع والتخاصم والتشاجر والصراع.

مع ذلك، فإنَّ الحقَّ لا بدَّ أن يكون من حصَّة الأقوى في نظر الأخوة الليبراليين العرب في الواقع، فلو عادت إلى الحياة قوَّة الإسلام وسيطرته على أكثر بقاع المعمورة لما كان الحقُّ إلا في جانب الأصوليات التي يشخِّصونها في أماكن محدَّدةٍ من العالم الإسلاميِّ ثمَّ يعمِّمونها على المسلمين في كلِّ أنحاء الأرض، ولصار أبشع من أنجب رحم الإسلام في العصر الحديث من الشخصيات الطالبانية البغيضة هم أولو المشاريع التنويرية الحداثية التي تدافع عن حقوق الإنسان، وتحاول أن تنقذ البشرية من كلِّ المنعطفات التأريخية التي أودت به في مهاوي الدكتاتورية والإستبداد.

بل هم يعلمون أنَّ هناك في الجانب الغربيِّ أو في الجانب الأمريكيِّ من هو على شاكلة هؤلاء الذين يعمِّمون أنموذجهم على الإسلام من الطالبانيين وغيرهم، ولكنهم مع ذلك يغضُّون النظر عنهم ولا يلتفتون إلى ما يشكِّلونه من الخطر على العالم، أو إلى ما يتمتَّعون به من الفاعلية والنفوذ في تحديد العديد من مسارات السياسة في الغرب وأمريكا على وجه التحديد. فإذا ما التفتوا إلى وجودهم -وقليلاً ما يفعلون ذلك بالطبع- فإنهم يحاولون أن يهوِّنوا من خطرهم هذا، ويوحون للقارئ بأنَّ الأمور في تلك البلدان التي تخطِّط لمشاريع الهيمنة والإحتلال تحت الراية الليبرالية مسوَّرةٌ ضدَّ هؤلاء الأصوليين المتزمِّتين، وأنهم يعيشون هناك كما لو أنهم كائناتٌ متحفيةٌ لا تجذب اهتمام أحدٍ إلا من باب أنها تمتُّ بصلةٍ وثيقةٍ إلى الأطوار الأولى من حياة البشر.

فانظر إلى ما يتحدَّث به الأستاذ هاشم صالح، وهو واحدٌ من كبار المتحمِّسين لليبرالية في العالم العربيِّ في الوقت الراهن، إذ يقول: "الفرق بين الأصولية البروتستانتية في أميركا والأصولية الإسلامية هو أنَّ الأولى تصطدم بقوىً مضادَّةٍ تردعها وتوقفها عند حدِّها إذا لزم الأمر، أما في العالم العربيِّ أو الإسلاميِّ بشكلٍ عامٍّ فالقوى الليبرالية التي تفهم الدين بشكلٍ عقلانيٍّ منفتحٍ لا تزال ضعيفةً ولا تجرؤ على رفع صوتها كثيراً" [معضلة الأصولية الإسلامية هاشم صالح ص101].

هذا هو النهج الذي يتبعه الكتاب الليبراليون العرب في تبرير الأمور عندما لا يجدون مندوحةً من الإعتراف بما هو موجودٌ هناك في أميركا أو في الغرب عموماً من الأصوليات الدينية المسيحية المتشدِّدة، فلا يبتهج القارئ العربيُّ أو القارئ المسلم قليلاً أو كثيراً بمثل هذا الإعتراف حتى يواجهه سيلٌ من كلمات التبرير التي مؤدّاها أنَّ التسوير بالليبرالية لهذه الحركات الأصولية حاصلٌ هناك، ومفقودٌ هنا في الجانب العربيِّ أو الإسلاميِّ على وجه العموم.

وما معنى أن تكون الليبرالية على وجه التحديد هي السور الوحيد الذي يحصِّن المجتمع ضدَّ هذه الحركات الأصولية الهدّامة، ألا يمكن أن تحصِّن البشرية نفسها بسورٍ آخر ضدَّ هذا الخطر الداهم سوى الليبرالية وما جرَّته على الإنسان من ويلات التحلُّل الأخلاقيِّ وفقر الحالة الروحية والمعنوية في كيان الإنسان العالميِّ الحديث في نظر هؤلاء، أم أنهم يعتبرون الليبرالية وما تستوجبه من الأمور التي تهدم الكيان الروحيَّ والمعنويَّ للمجتمع ديناً لا ينبغي الخروج على تعاليمه وطقوسه في قليلٍ ولا كثيرٍ، بل إنهم لينهجون نهجاً أصولياً متشدِّداً في اعتناق هذا الدين الليبراليِّ الجديد، ويُسقطون عليه كلَّ ما يذمُّونه من الصفات التي يحاربونها في شخصية الإنسان الأصوليِّ المتعصِّب لدينٍ معيَّنٍ أو مذهبٍ معيَّنٍ ضدَّ الأديان والمذاهب الأخرى.

وهل الليبرالية مبرَّأةٌ من النزعات المضادَّة للسلام والحرية وما إلى ذلك من المفاهيم التي ينادون بقدسيتها ليل نهار وهم عميٌ صمٌّ بكمٌ عمّا يقوم به هذا العالم الليبراليُّ نفسه من إشعال الحروب في كلِّ بقاع الأرض تقريباً، ناهيك عمّا تتسبَّب به النظم الليبرالية ذاتها في داخل بلدانها من المظالم الإجتماعية التي تندُّ عن أن يستوعبها الحديث في هذه المقالة، فإذا كانت الليبرالية على هذا القدر من البشاعة من التفكير بالحروب وإثارة البغضاء والشحناء بين الأمم في الزمن الراهن، فلماذا كلُّ هذا الحديث المغالط عنها للإعلان عن إنسانيتها وبغضها لكلِّ ما هو مناهضٌ للحرية أو السلام؟!.

إنَّ هاشم صالح نفسه لا يلتفت إلى ما يتناقض به في الصفحة ذاتها من الكتاب المذكور في الهامش، إذ ينقل مضمون ما تتحدَّث به مؤلِّفتا كتاب ((العلمانية أمام تحدِّيات الأصوليات الثلاث)) معجباً ومطرياً، وهما كارولين فوريست وفياميتا فينيرما، فيقول: "ثمَّ تطرح المؤلِّفتان السؤال التالي: لماذا يؤيِّد المتزمِّتون الأميركان إسرائيل؟ وتجيبان بالقول: من المعلوم أنَّ الزعيم الروحيَّ للتحالف المسيحيِّ ولعائلة بوش بالذات هو القسُّ البروتستانتيُّ الشهير بيلي غراهام، وهو الذي هدى جورج دبليو بوش إلى الإيمان ونجّاه من الضياع! وقد اشتكى أكثر من مرَّةٍ من هيمنة اليهود على وسائل الإعلام في أميركا، وقد فعل ذلك في البيت البيضاويِّ نفسه، وفي حضرة ريتشارد نيكسون الذي كان صديقه، ولكن لسوء حظِّه فإنَّ مكتب الرئيس كان مراقَباً وهكذا سُجِّلت المحادثة السرِّية بين الرجلين على غير علمهما، وعندئذٍ قاموا بحملةٍ إعلاميةٍ عليه في كلِّ أنحاء أميركا" [المصدر نفسه والصفحة].

وهكذا فإنَّ هذا النصَّ يكشف بوضوحٍ عن عمى الألوان الفكريِّ والإيديولوجيِّ الذي يغلِّف عيون هؤلاء الكتاب، فلا ينظرون إلى ما هم ينقلونه من المصادر التي يستشهدون بنصوصها لتأييد أفكارهم وأطروحاتهم، فالنصُّ جريءٌ جداً في الكشف عن هيمنة رجال الدين الأصوليين في البيت الأبيض على السياسة الأميركية، وإلا فما الذي أتى بهذا القسِّ إلى مكتب الرئيس الأميركيِّ ليشكو له من هيمنة اليهود على وسائل الإعلام الأميركية، وما هي القدرات الموجودة لدى الأصوليين الآخرين المناهضين بحيث أنهم تمكَّنوا من تسجيل الحوار السريِّ الخاصِّ بين القسِّ البروتستانتيِّ بيلي غراهام والرئيس جورج دبليو بوش، ومن ثمَّ تمكَّنوا من أن يشنُّوا ضدَّه حملةً إعلاميةً مكثَّفةً في جميع أنحاء أميركا؟!.

والغريب فعلاً أنَّ هاشم صالح في طول وعرض الكتاب المذكور يتحدَّث عن الحكّام في العالم العربيِّ والإسلاميِّ بوصفهم من دعاة الإسلام، ثمَّ ينطلق إلى تقرير الكثير من النتائج على أساس أنَّ العلمانية لو أنها سادت في عموم البلدان العربية والإسلامية لتغيَّر الوضع كثيراً، ولأصبح مستقبل الحركات الأصولية المتشدِّدة معدوماً، ولا يلتفت أيضاً إلى الحقيقة البسيطة التي يعلمها كلُّ إنسانٍ يعيش في ظلِّ هذه الأنظمة، وهي أنها أنظمةٌ علمانيةٌ مئة بالمئة، وأنها مناهضةٌ في الحقيقة ليس للحركات الدينية الأصولية المتعصِّبة فقط، بل هي مناهضةٌ لكلِّ التوجُّهات الإسلامية ولو على مستوى الممارسات العبادية الإعتيادية تقريباً، فأين هي الأنظمة التي تشجِّع الإسلام في نطاق المنطقة العربية أو المنطقة الإسلامية عموماً، إلا ما يُشار إليه من وجود نظام الحكم في إيران، وهل إنَّ مجرَّد الإعتراف الظاهريِّ بالإسلام بوصفه ديناً رسمياً للدولة كافٍ لأن نُضفي على أيِّ نظام حكمٍ في العالم سمة النظام الإسلاميّ، تلك حماقةٌ لا أظنُّ أنَّ هاشم صالح أو غيره من العلمانيين الليبراليين يرضى بأن تُنسب إليه أو أن يكون متَّصفاً بها على الإطلاق.

فإذا ما أبدى هاشم صالح انتباهاً إلى هذه الحقيقة في الأسطر اللاحقة، التفَّ على النصِّ في استخلاص نتيجةٍ لا تُستخلص منه إلا بالكثير من التعمية على النصّ، واتِّباع أصول التفكير المغالط الذي يغضُّ النظر عن كلِّ الحيثيات الحافَّة بالنصّ، ليؤيِّد زعمه بمختلف السبل التي تجانب قواعد التفكير الموضوعيِّ في كلِّ الأحوال، فيقول هاشم صالح في إشارةٍ إلى أنَّ التفكير الأصوليَّ إن كان موجوداً في أوربا وأميركا فهو لا يتدخَّل إطلاقاً في صناعة القرار السياسيِّ هناك: "وهكذا راحت الأصوليات تهيِّج بعضها بعضاً، فأمثال بن لادن عند اليهود والمسيحيين متوافرون بما فيه الكفاية، وهم يحملون نفس العقلية الخرافية عن العالم، والواقع أنَّ الأصوليات المختلفة تكره بعضها بعضاً، وتدعم بعضها بعضاً في الوقت عينه، فعدوُّها المشترك واحدٌ، ألا وهو النزعة الإنسانية العلمانية، أو فلسفة التنوير والحداثة، أو الفلسفة الليبرالية، سمِّها ما شئت"[المصدر نفسه. ص102].

انتبه عزيزي القارئ إلى هذا الأسلوب في التملُّص من النتيجة التي مفادها أنَّ التفكير الأصوليَّ المتزمِّت ليس وقفاً على المنطقة الإسلامية لوحدها، بل هو موجودٌ بوصفه مساهماً في صناعة القرار السياسيِّ كما هو مقتضى النصِّ المقتبس الآنف عن لقاء بيلي غراهام بالرئيس بوش حتى في تلك البقاع التي يعتبرها هاشم صالح وأضرابه المنبع الأوَّل والأخير للفكر المناهض للأصولية تحت اللافتات العلمانية والليبرالية والحداثية، فيحاول أن يوحي إلى القارئ أنَّ الأصولية المتزمِّتة وإن كانت موجودةً في الغرب وأميركا، إلا أنها منبوذةٌ في كلِّ الأحوال، وهذا ما يميِّزها عن الأصولية في البلدان الإسلامية على وجه التحديد.

لكن أين هي الأصولية المتشدِّدة التي يشجِّع عليها المجتمع الإسلاميُّ رجاءً، أفلا يرى هاشم صالح أنَّ هذه الحركات الأصولية المتشدِّدة، خاصةً تلك الحركات التي تمتُّ بصلةٍ إلى بن لادن، وهو العنوان الأبرز لهذه الحركات اليوم، إنما تعمل بشكلٍ سريٍّ، ولا تستطيع أن تظهر ببرامجها السياسية إلى العلن إلا في حال أنها تكون مستعدَّةً لأن يُقضى عليها قضاءً مبرماً في البلدان الإسلامية ذاتها، فالمجتمع الإسلاميُّ إذن ليس مشجِّعاً للتفكير الأصوليِّ المتطرِّف في قليلٍ ولا كثيرٍ كما يعتقد هاشم صالح ومعه العديد من الدارسين العرب والأوربيين والأميركان، بل هو نابذٌ له، مستعدٌّ للقضاء عليه، شأنه في ذلك شأن المجتمعات الغربية التي تنبذ العنف ولا تتقبَّل الإرهاب.

فإذا قال هاشم صالح إنها مساهمةٌ في صناعة القرار السياسيِّ في العديد من البلدان الإسلامية عن طريق الإختراق السياسيِّ مثلاً، فليكن شأنها في هذا شأن الحركات الأصولية المتطرِّفة في الغرب وأمريكا التي يعترف هاشم صالح ومؤلِّفتاه المذكورتان بوجودها هناك، فهي أيضاً لديها وسائلها في الإختراق السياسيّ، بحيث انها تتمكَّن من الإجتماع بالرئيس الأميركيِّ وإملاء الشروط عليه أو شنِّ الحملات الإعلامية ضدَّه في جميع أنحاء أميركا.

أما إذا كان هاشم صالح يقصد أنَّ مجرَّد نزوع الناس في الدول الإسلامية إلى التديُّن، هو دليلٌ على أنَّ هذه المجتمعات مؤهلةٌ لأن تنتج الأصوليين المتطرِّفين في كلِّ آنٍ، فتلك هي الطامَّة الكبرى في الحقيقة، وأنا أظنُّ أنَّ هاشم صالح وأغلب الليبراليين في المنطقة العربية والإسلامية يقصدون ذلك على وجه الدقَّة، لكنهم يحاولون أن يبطِّنوا قصودهم بالعبارات التي ظاهرها أنهم لا يمانعون من أن يكون المجتمع متديِّناً، وأنَّ ليبراليتهم لا تقف بالضدِّ من الدين في الحقيقة، وأنهم إنما يقصدون خير الدين نفسه بهذه الليبرالية، وإنَّ أمرهم هذا عجيبٌ واقعاً، لأنَّ الليبرالية ليست هي النظام الديمقراطيّ الذي يقضي بأن يكون اختيار الأنظمة السياسية بالإنتخاب والتصويت على الدساتير كما يتخيَّل الكثير من الناس، بل هي نظامٌ من الأفكار نما وترعرع ونشأ في أرضٍ لا يمكن أن يقف معها عليها الدين بالكلِّية، لأنها تنطلق من مرتكزاتٍ لا يمكن أن تتيح للدين أو لأية فكرةٍ أخلاقيةٍ أن تزدهر أو أن يكون لها وجودٌ معتدٌّ به على الإطلاق.

بل إنَّ الحيادية التي يطالب بها الليبراليون تجاه القيم والأخلاق العامَّة فضلاً عن الدين نفسها هي عين ما يهدِّد الكيان المعنويَّ والروحيَّ والأخلاقيَّ للمجتمعات، وإنَّ الواقع لهو خيرٍ دليلٍ على ذلك، فإنَّ الناظر إلى الآثار السلبية التي أحدثتها الليبرالية في المجتمعات التي حكمت فيها، برهنت على أنَّ الفضائل الخلقية لا يمكن لها أن توجد أو تنتعش في تلك الأجواء، وأية قيمةٍ للأخلاق ما دام أيُّ خلقٍ في الكون لا يستند إلى معياريةٍ يتَّفق عليها اثنان في المجتمع، وكيف يفضل العفيف الزاني، أم كيف يفضل من يعفُّ نفسه عن سرقة المال العامِّ أو الخاصِّ على من لا يتورَّع من سرقتها وممارسة اللصوصية التي تفلح في الإلتفاف على القانون والجهاز القضائيِّ في الدولة مادامت الأخلاق كلُّها بفضائلها ورذائلها ليست إلا أشياء تابعةً للنظرة الفردية للشخص، فما رآه عملاً أخلاقياً حتى لو كان زنىً أو لواطاً أو لصوصيةً أو غير ذلك من شعب الإنحطاط الأخلاقيِّ كان كذلك، وما رآه الشخص عملاً غير أخلاقيٍّ وإن كان عفافاً وابتعاداً عن كلِّ مواطن الرذيلة كان كذلك تبعاً لقاعدة انعدام المعايير الخلقية التي تميِّز العمل الأخلاقيَّ من سواه في الليبرالية العتيدة لهاشم صالح وأضرابه.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق