يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
محاور البحث في المسؤوليات المجتمعية للمجموع:
في مساق بحثنا عن مؤسسات المجتمع المدني، وفي النظرة التحليلية للمجتمع وجدنا أن هنالك فرداً، وهنالك جماعات، وهنالك دولة، وهنالك مجموع، وكل مفردة من هذه المفردات لها مسؤولية تجاه الأفراد و الجماعات وتجاه الدولة و المجموع، فمجموع الصور- كما ذكرنا- ست عشرة صورة، وقد تطرقنا للمجاميع الثلاثة الأولى، وبقيت المجموعة الرابعة، وهي مسؤولية (المجموع) تجاه الأفراد والجماعات، وتجاه المجموع بنفسه، وتجاه الدولة أيضا.
وهذا البحث طويل، ولكن في هذا الإيجاز سنقتصر على منطلق واحد من منطلقات البحث، حيث نبحث في محورين عن المجموع: مجموع الشعب ومجموع المؤمنين وعامة الناس، حسب تعبير الآية الشريفة (ويتبع غير سبيل المؤمنين[1]) من خلال الكاشفية عن روح الأمة وضميرها، وبؤر التركيز فيها بما يخلص إلى أدوار مرجعياتها الدينية والمجتمعية.
الكواشف عن ضمير الأمة وبُؤَر تركيز المجموع فيها:
نبحث بإذن الله سبحانه وتعالى في عنوان مسؤولية (المجموع) عن محورين، المحور الأول: هو الكاشفية، والمحور الثاني: هو التجسيد، أو بؤرة التركيز، وتوضيح ذلك.
المحور الأول: (الكاشفية)، فما هو الكاشف عن رأي المجموع، وعن تطلعاته وحاجاته؟ وما هو الكاشف عن ضمير الأمة؟ وهذا التعبير أكثر تداولاً، وأشد مأنوسية لبعض الأذهان، ولهذا المحور بمفرداته جوانب فقهية عديدة في أنحاء الفقه، كما له زاوية حقوقية مطوّلة، وله حقل خاص في علم النفس الإجتماعي، وفي علم الاجتماع أيضاً، والبحث مطروح بعناوين أخرى، وسنشير لاحقاً لبعض العناوين.
ينصرف البحث في هذا المحور- بإيجاز- إلى أنواع الكواشف عن المجموع، أو عن ضمير الأمة؛ إذ إن مما يكشف عن ذلك:
1- الشهرة:
والظاهر أن بناء العقلاء على حجيّة الشهرة[2] وكذا الروايات، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر[3])، (فإن المجمع عليه) أي المشهور بقرينة ما سبق (لا ريب فيه)، من غير فرق بين كون الشهرة روائية أم شهرة فتوائية. [4]
ثم إن الشهرة الروائية على قسمين: شهرة روائية للرواية نفسها، أن تكون مذكورة في كتب حديث مختلفة وفي عدة من المصادر والقسم الثاني من الشهرة الروائية: هو أن تكون رواية واحدة مشتهرة في الأفواه، ومستندة إليها الفتاوى، وإن لم تكن مذكورة في أكثر من كتاب، فإن هذا مما يقوّي هذه الرواية ويجبر ضعفها، وهذا بحث تخصصي له محله، ولكن صفوة القول: إن المستظهر هو أن الشهرة سواء أكانت فتوائية أم روائية ليس فيها اقتضاء الحجية وحسب، بل هي حجّة بالفعل، إلّا إذا عورضت بحجة أقوى منها، كخبر الثقة فإنه حجة، ولكن لو عورض بحجة أقوى فإن تلك الحجة تتقدم.
2- الشياع:
والشياع كالشهرة- أيضاً - كاشف، فإن الشياع يعدّ حجة في بحوث كثيرة، كبحث القبلة وكبحث النسب، وصحيحة ابن أبي يعفور تدل على ذلك، والوالد (رحمة الله تعالى عليه) في (الفقه) يذهب إلى أن الشياع حجة حتى لو لم يفد علماً ولا ظنّا- أي الظن الشخصي- فهو مثل خبر الثقة، فهو حجة نوعية من باب الظن النوعي، فحتى لو لم يفد ظنّا شخصياً فهو حجة، وهذا هو المهم، والحاصل أن الشياع كاشف نوعي عن الحقيقة، كما أن الشهرة تكشف عن الحقيقة، كما في القبلة والنسب كما سبق، وكما في الملكية، وكذلك في الهلال، فحجية الشياع ليست خاصة بالهلال كما قد يتوهم البعض، إلا أن الشياع –عادة- يذكر في الموضوعات، والشهرة تذكر في الأحكام، كشهرة فتوائية، أو في الروايات، فهذه تعد -أيضاً- من الكواشف عن ضمير الأمة، ومن الكواشف عن المجموع كما هي كواشف عن مثل النسب والملكية والهلال.
3- الارتكاز:
ومن الكواشف أيضاً (الارتكاز)[5] الذي يسمونه الآن باللاوعي الجمعي، فالارتكاز حجة، مثلاً (النكاح المعاطاتي) ما هو الدليل على بطلانه؟ والوالد (رحمة الله عليه) يذكر في الفقه عدة أدلة - لعلها عشرة – ومنها (الارتكاز)، وإن ارتكاز المتشرعة على استقباح ذلك، وعلى عدم صحة ذلك، والنكاح المعاطاتي يعني الاكتفاء برضا الطرفين العملي، وبدون أن تقول المرأة أنكحتك نفسي أو زوجتك، وبدون قبول لفظي من الرجل، مع أن هذا الاعتبار يتوقف على الكلام في ارتكاز المتشرعة وفي ارتكاز العقلاء، إضافة إلى الأدلة الأخرى، مثل الرواية (انما يحلل الكلام ويحرم الكلام).
فالارتكاز – أيضا- من الأدلة، وهو على قسمين:
أ- ارتكاز عامة الناس، وهو حجة؛ لأن مرجعه إلى الفطرة، فإنه يكشف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، فكلما كشف الارتكاز عن تلك الفطرة كان حجة.
ب- ارتكاز المتشرعة، فمثلاً: لابد أن يكون مرجع التقلید إمامياً، ومن الأدلة على ذلك ارتكاز المتشرعة، والمسائل التي يستند فيها إلى الارتكاز ليست بالقليلة.
مثال آخر: يدخل أحدهم السوق ويشتري سلعة، لنفرض أنها ثلاجة أو غسالة أو سيارة، لكنه عندما اشتراها وجدها غير سليمة، فله خيار الفسخ، وهذا شرط ارتكازي؛ إذ إنه لم يقل إني اشتري منك هذه السيارة على شرط أن يكون محرّكها سالماً؛ فإنه شرط ارتكازي، والارتكاز لا يراد به الارتكاز الشخصي، بل الارتكاز عند عامة الناس.
والحاصل: إن الإرتكاز سواء أكان عاماً أم كان ارتكاز المتشرعة، فإنه حجة؛ لأنه يكشف عن الفطرة أو يكشف عن المستقلات العقلية.
فالارتكاز إذن -وبتعبير آخر- هو من الكواشف عن ضمير الأمة وعن المجموع.
4- الاستبيان والاستطلاع:
ومن الكواشف الاستبيان أو الاستطلاع[6]، وهذان أمران ضروريان، وما أقلهما في مجتمعاتنا مع الأسف، والغرب تقدم علينا في ذلك ونظائره، رغم سيئاته؛ إذ إنهم باستمرار يقومون باستطلاعات واستبيانات لمعرفة رأي الناس في هذه القضية السياسية، أو تلك المسألة الاقتصادية أو الاجتماعية، أو حول أداء أو موقف الحكومة من هذا الأمر أو ذلك.
وهذه الاستطلاعات والاستبيانات تنشر في الصحف والمجلات على نطاق واسع، وتشكل ضغطاً كبيراً على الحكومة؛ لأنها تصنع وعياً عاماً حركياً فاعلاً، أما في دولنا فنلاحظ أن اللجوء إلى الاستطلاع والاستبيان أمر نادر، سواء في شؤون الدولة أم في شؤون الجامعات، أم في شؤون المدارس، أم في شؤون الأحزاب أو العشائر أم غير ذلك.
إن الاستطلاع ظاهرة إيجابية؛ لأنه يكشف عن الشهرة أو الشياع، ويكشف في الجملة عن روح الأمة، وعن ضميرها، وعن اللاوعي الجمعي.
والاستطلاع له فنونه وآلياته وسُبُله وقواعده، فهو علم من العلوم، فإنه ليس مجرد أن يُسأل خمسة أشخاص مثلاً، بل يجب أن تؤخذ بعض العيّنات من الفلاحين والعمال والتجار، والجامعيين والحوزويين في انتخاب عشوائي، لعيّنات عشوائية، ولكن وفق قواعد وأصول حتى يكون هذا الاستبيان مرآة كاشفة بالفعل، وبهامش خطأ بسيط كواحد بالمائة، عن رأي الجميع أو رأي المجموع أو ضمير الأمة.
إن هذا البحث يستدعي مقاماً مفصلاً لمقاربة المرآة الكاشفة عن ضمير الأمة، وعن رأي المجموع، فلنكتف منه ههنا بهذا المقدار.
محطات تجسد إرادة الأمة وضميرها:
المحور الثاني: من محاور البحث في المسؤوليات المجتمعية للمجموع ينصرف لبيان بؤرة التركيز لهذا المجموع، وبتعبير آخر: مكان تقبّضه[7]، فكيف نقبض على المجموع؟ أي أين نشهده ونلمسه؟ ذلك إن الشخص نراه وهو يعبر عن أرائه حقيقة، ويتكلم ويطالب ويتحرك، وكذا (الجماعة) نراها ونلمسها متحركة وفاعلة، وذلك مثل مجلس الإدارة أو هيئة الأمناء، فإنهم أمر مشهود كمجموعة بشرية، والعشائر كذلك، لكن المجموع أين نقبّضه ونلمسه ونشهده؟ وأين هي بؤرة تركيز المجموع؟
ولقد كان ذلك عملياً وسهلاً فيما مضى، فقبل خمسة آلاف سنة مثلاً، كان يعيش في القرية مائة إنسان، وفي المدينة عشرة آلاف شخص مثلاً، وكانت تجمعهم ساحة واحد فقط، ولكن العشرة ملايين إنسان، أو المائة مليون إنسان، كيف يمكن أن نقبضهم ونشهدهم ونرصد حركتهم؟ فمثلاً: في الصين هنالك مليار وخمسمائة مليون نسمة، والظاهر أن سكان الهند قد تجاوز المليار ومئتي مليون أو ثلاثمائة مليون نسمة كما يقال، فكيف نقبض هذا الكم من الناس المنتشرين في أرض الله الواسعة؟
القادة الجماهيريون ومراجع التقليد:
الجواب على ذلك هو: إن بؤرة التركيز هو الوجودات الإجمالية التي تتجسد فيها تلك الوجودات التفصيلية، وهي بؤر التركيز الطبيعية التي نصطلح عليها بالقادة الجماهريين، مثل مراجع التقليد.
ويتضح هذا الأمر جلياً عند دراسة الإجابة على السؤال التالي: ما هي أهمية مرجع التقليد في المجتمع؟
ونقول في الجواب:
أ- إضافة إلى قيمة مرجع التقليد الذاتية، من كونه عالماً ورعاً تقياً صالحاً.
ب- وإضافة إلى قيمته التي اكتسبها من المعصومين (عليهم السلام) من الرسول(صلى الله عليه وآله) ومن أهل بيته الأطهار حيث ورد في رواية، عن الإمام (عليه السلام): (فإني قد جعلته عليكم حاكماً).
ج- وإضافة إلى قيمتهم الطريقية؛ إذ (الفقهاء حصون الإسلام) أي إضافة إلى قيمته الذاتية، وموضوعيته وقيمته الطريقية، وقيمته الاعتبارية الاستنادية.
د- فإن له قيمة رابعة، وهي أن مرجع التقليد يجسد ضمير الأمة؛ ولذا جاء في الحديث: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله).
إن الله سبحانه وتعالى قد حفظ مصالح المجموع؛ إذ أقر نظام المرجعية التي تجسد ضمير الأمة؛ فإنهم يضعون اليد على حاجات الأمة ويتابعون همومها، وهذا ما أثبته التاريخ، فإن نظام المرجعية يكشف عن ضمير الأمة، ويدافع عن مصالحها، وعلى مر التاريخ كان مراجع التقليد كذلك، وهذا هو سر قوة مراجع التقليد، علىٰ الرغم من أن الظلمة والحكومات الإستعمارية -على مر التاريخ- كانت تعادي مراجع التقليد وبشدة، ولا تألوا جهداً في ضربهم وقصقصة أجنحتهم، وهذا البحث يستدعي دراسات معمقة لها مجالها.[8]
وبكلمة: فإن مصالح المجموع والأمة تتجسد وتتبلور وتظهر وتتقبض على يد القادة الجماهريين، الذين في طليعتهم مراجع التقليد، وكذلك تتجسد بما يسمّى (بالبرلمان) أو المجلس النيابي إذا كان حقيقيا، فإنه بؤرة تركيز وتجسيد لإرادة مجموع الأمة.
خاتمة الكتاب
من يشكّل المرجعية العظمى للأمة؟ وما هو مقياس الحق والباطل؟
وفي الختام[9]، لابد أن نشير إلى المقياس الأول والأخير الذي على الأمة أن تضعه نصب عينها دائماً، لتفوز بالسعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، وهو ما صرحت به الرواية الواصلة إلينا عن الإمام العسكري (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لبعض أصحابه ذات يوم[10]: (يا عبد الله،أحبب في الله)،أي لا يكون حبك للمصالح الشخصية وشبهها، (وأبغض في الله) وليس لأنه يعاديك أو يعادي حزبك أو عشيرتك، فقد يكون معادياً لي شخصياً لكنه إنسان صالح، فيجب أن أحبّه لله، وبذلك يزداد هذا الإنسان سمواً.
(ووال في الله، فإنه لن تنال ولاية الله إلا بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك) فيحب في الله، ويبغض في الله، لكن المشكلة الكبرى أن (قد صارت مؤاخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادون، وعليها يتباغضون)، فمن أعطاني المال أحبّه، ومن لم يفعل أعاديه وإن كان معذوراً، ومن أعطاني رئاسة ومنصباّ أحبّه، والذي لم يفعل أصير عدوه، مع إن المفروض في المؤمن أن لا يجعل مقياس الرضا والسخط إلا الحق، فإذا ما أعطاك بحق فعليك أن تحبّه، وإذا لم يفعل ذلك بحق عليك أن تحبه أيضا في الله (وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً) أي لا يغني من غضب الله عليهم شيئاً أو لا ينفعهم شيئاً.
(فقال له) أي قال الرجل:يا رسول الله (وكيف لي أن أعلم إني قد واليت في الله؟ وعاديت في الله عزّ وجلّ، ومن وليُّ الله حتى أواليه؟ ومن عدوه حتى أعاديه؟) فأين هو التجسيد للحق وللعقل والفطرة ولـ(الأمة الوسط)؟ فأشار رسول الله (عليه السلام) إلى علي (عليه السلام)، فإن الإمام علياً (عليه السلام) هو تجسيد الحق، وتجسيد مصالح الأمة، بل هنا مظهر ومجلى إرادة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
فأوضح له بهذه الإشارة إلى علي: (عليه السلام) فقال: أترى هذا، فقال: بلى، قال: (وليّ هذا وليّ الله فواله؛ لأن علياً مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار، وعدو هذا عدو الله فعاده، والِ ولي هذا ولو أنه قاتل أبيك وولدك وعاد عدو هذا ولو أنه أبوك أو ولدك).
والبحث عن مقام ومنزلة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لا تسعه الموسوعات ولا الأرضون والسماوات[11]، فلنكتف بالقول إن القرآن الكريم هو كتاب الله الصامت، وأمير المؤمنين هو كتاب الله الناطق، وهل فوق كتاب الله شيء؟ ولو إن الأمة ألقت إليه زمام أمورها (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)، و(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والعاقبة للمتقين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لمرضاته ولخدمة دينه وعباده، إنه سميع الدعاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق