الانتحار يتجاوز المعطيات السيكولوجيّة والفرديّة للإنسان، كما يتجاوز ظروف الحياة الفرديّة الشخصيّة مثل فقدان الوظيفة، أو الطلاق، أو الإفلاس، أو غير ذلك من المعطيات الفرديّة. ومن هذا المنطلق وتأسيساً عليه نظر دوركهايم إلى الانتحار ضمن معطياته السوسيولوجيّة وحاول الكشف عن قانونيّته الاجتماعيّة، واستطاع في سياق ذلك أن يؤسّس لنظريّة...
يقول إميل سيوران (Emil Cioran) [1]: لا أحيَا إلاّ لأنّ في وسعي الموت متى شئت، ولولا فكرة الانتحار نفسها لقتلتُ نفسي منذ البداية".
تبيّن الإحصائيّات العالميّة الرسميّة اليوم أنّ 703000 شخصاً ينتحرون سنويّاً، هذا عداك عن مئات الألوف من المحاولات الانتحاريّة الفاشلة. ومن المؤكّد أنّ كلّ حالة انتحار تشكّل بذاتها مأساة إنسانيّة في المجتمع. وقد صنّف الانتحار بوصفه رابع أهمّ سبب للوفاة بين الأفراد الّذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً على الصعيد العالميّ، والواقع أنّ أكثر من 79% من حالات الانتحار العالميّة تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل.
1- مقدّمة:
احتلّت ظاهرة الانتحار مكاناً استراتيجيّاً في سوسيولوجيا دوركهايم، وشكّلت محوراً أساسيّاً من محاور اهتمامه. وقد عُرف دوركهايم بدراسته التاريخيّة الّتي أجراها عن الانتحار في أوروبا، وهي الدراسة الشهيرة الّتي كرّسها للبحث في ماهيّة الانتحار، وفي عوامل نشأته، ومظاهر حركته وانتشاره، ساعيا إلى استكشاف القانونيّات السوسيولوجيّة الّتي تحكمه. وقد نشر نتائج دراسته هذه في كتابه المشهور الانتحار (Le Suicide)(2) عام 1897. ويشكّل بحث دوركهايم حول الانتحار عملاً سوسيولوجيا كلاسيكيّاً فذّاً، يتميّز ببراعته المنهجيّة، وعمقه المعرفيّ وقدرته الخلّاقة على توليد الإلهام السوسيولوجيّ للمفكرين والباحثين على مدى أجيال متعاقبة. وقد شكّلت دراسته هذه أحد أكثر الأعمال وضوحاً وأهمّيّة في علم الاجتماعيّ الكلاسيكيّ التأسيسيّ، وارتقى هذا العمل إلى صورة نموذج علميًّ سوسيولوجي فريد في بنيته وتكوينه استلهمه علماء الاجتماع وغيرهم من المفكّرين والباحثين في مجال العلوم الإنسانيّة على امتداد القرن الماضي وما يزالون (3). ويعترف معظم النقّاد في مجال علم الاجتماع بأنّ مبحث دوركهايم عن "الانتحار" يتّسم بأهمّيّة تاريخيّة فائقة في مجال علم الاجتماع وذلك لاعتبارات ثلاثة أساسيّة:
يتمثّل الأوّل في أنّ دوركهايم اعتمد في بحثه عن الانتحار- ولأوّل مرّة في تاريخ علم الاجتماع- المنهجيّة العلميّة الّتي أسّسها ورسّخها في كتابه قواعد المنهج (Les regles de la methode en sociologie)، إذ قام بتطبيق المنهج السوسيولوجيّ (قواعد المنهج) بصورة واضحة ورصينة في هذا العمل، وقد أعطى هذا الأمر أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة لهذا العمل، إذ إليه يشار اليوم بوصفه البحث السوسيولوجيّ الأوّل الّذي أخذ صورة طابع بحث ميدانيّ أكاديميّ منهجيّ إمبيريقيّ، وقد اعتمد دوركهايم في هذه الدراسة على معطيات اجتماعيّة إحصائيّة، وانتهج التحليل الإحصائيّ، واعتمد الملاحظات العلميّة الرصينة ليجسّد بذلك المنهج السوسيولوجيّ الرصين الذي نادى به في هذه الدراسة على أكمل وجه ممكن.
ويلاحظ في هذا السياق أنّ دوركهايم اعتمد طريقتين منهجيّتين مترابطتين لدراسة ظاهرة الانتحار: تمثّلت الطريقة الأولى في اعتماد المقارنة بين مجتمعات متعدّدة وجماعات مختلفة. وتمثّلت الأخرى في متابعة التغيّرات القائمة داخل الجماعات المدروسة، وذلك في مسارات الزمان والمكان ووفقاً للمتغيّرات الثقافيّة والتاريخيّة الّتي تدخل في صميم الحركة الديناميّة لظاهرة الانتحار ذاتها. وفي كلتي الطريقتين اعتمد دوركهايم حجّة واحدة، وهي: أنّه إذا كان هناك اختلاف في معدّلات الانتحار بين المجموعات، أو بين الفترات الزمنيّة، فإنّ الاختلاف كما يراه سيكون نتيجة لتأثير التغاير في العوامل الاجتماعيّة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ دوركهايم لم يتجاهل العوامل الفرديّة للانتحار كما شاع عنه، بل اعترف بوجود أسباب فرديّة للانتحار، لكنّ هذه الأسباب ليست هي السبب الحقيقيّ لأنّ الأسباب الفرديّة تولّد في معترك التفاعل الاجتماعيّ تنجم عن الحياة الاجتماعيّة وتأثيراتها القويّة.
وقد أشار دوركهايم في مقدّمة كتابه الانتحار أنّه أراد إجراء دراسته عن الانتحار ليس فقط بهدف المساهمة في فهم مشكلة اجتماعيّة معيّنة والكشف عن قانونيّتها فحسب، بل كي يرسّخ منهجه السوسيولوجيّ المبتكر، ولتكون هذه الدراسة تأصيلاً لعلم الاجتماع الجديد الّذي أراد تأسيس أركانه وترسيخ بنيانه، ولكي تكون بمثابة نموذج حيويّ لمنهجه الاجتماعيّ الجديد.
ويتمثّل الاعتبار الثاني في أنّ دوركهايم تناول في هذه الدراسة، ظاهرة الانتحار بوصفها امتداداً طبيعيّاً لنظريّته في الشذوذ الاجتماعيّ وتقسيم العمل وتأكيداً لمعطياتها بصورة ميدانيّة، ومن المهمّ أيضاً أنّ الانتحار يجسّد مختلف تصوّرات دوركهايم النظريّة والإمبيريقيّة في مجال علم الاجتماع الكلاسيكيّ.
ويتمثّل الاعتبار الثالث في توجه دوركهايم للتأكيد على استقلال علم الاجتماع بوصفه علماً موضوعيّاً يقوم على أسس منهجيّة راسخة، وأراد البرهنة على أنّ علم الاجتماع علم يقوم على الأسس المنهجيّة المعروفة في العلوم الطبيعيّة، وهو يشتمل بالضرورة على الشروط الموضوعيّة الّتي تمكّنه من أن يكون علماً مستقلّاً قادراً على تناول الظواهر الاجتماعيّة وتحليلها واكتشاف قانونيّاتها على أسس موضوعيّة ومنهجيّة. ومن الواضح أنّ دوركهايم أخضع الأرقام الرسميّة المتعلّقة بالانتحار للتحليل الإحصائيّ، وهو الأمر الّذي أكّد فيه الكيفيّة الّتي يمكن لعلم الاجتماع أن يأخذ اتّجاهاً كمّيّاً. ولفترة من الزمن في الخمسينيّات وأوائل الستّينيّات من القرن الماضي، حظي هذا النهج باهتمام كبير من علماء الاجتماع ذوي التوجّهات الكمّيّة والمنهجيّة في علم الاجتماع. ومع انتشار دراسته هذه أصبح الحديث عن علم الاجتماع كعلم موضوعيّ وعن القياس الكمّيّ أمراً شائعاً وممكناً في الوسط الأكاديميّ السوسيولوجيّ (4).
ويرى كثير من النقّاد في هذا المقام أنّ دوركهايم اختار الانتحار؛ لأنّه ظاهرة ملموسة ومحدّدة نسبيّاً يمكن دراستها علميّاً، ولأنّها مؤطّرة بالبيانات الإحصائيّة الجيّدة نسبيّاً. ومع ذلك، كان السبب الأكثر أهمّيّة الّذي دفع دوركهايم لدراسة الانتحار هو إثبات قوّة علم الاجتماع الجديد وقدرته على التجلّي والحضور في صيغة بحث ميدانيّ عميق الجذور مترامي الأطراف. وعلى هذا النحو كان دوركهايم يعتقد أنّه سيتمكّن من إبراز الدور الّذي يمكن لعلم الاجتماع أن يؤدّيه في تفسير ظاهرة الانتحار، وأنّ نجاحه في هذا الأمر سيمهّد عمليّاً وأكاديميّاً لترسيخ علم الاجتماع بوصفه علماً مستقلّاً قادراً على مباشرة الظواهر الاجتماعيّة في مختلف تجلّياتها، وفي أكثر مظاهرها صعوبة وتعقيداً.
ويبدو لنا أنّ دراسة دوركهايم حول الانتحار جاءت تجسيداً لمنهجه العلميّ وتأصيلاً لنظريّته الأنوميّة في مجال الشذوذ الاجتماعيّ أو اللامعياريّة الاجتماعيّة. وينظر إلى دراسته في الانتحار عموماً على أنّها أوّل دراسة علميّة في مجال العلوم الاجتماعيّة، نظراً لأنّها اعتمدت على إجراءات منهجيّة للبحث وتحليلات إحصائيّة وظّفت في استكشاف دوافع الانتحار وأنواعه. ويعدّ عمل دوركهايم حول الانتحار أوّل محاولة جادّة يقوم بها عالم اجتماع في مجال التأسيس لعلم الاجتماع الميدانيّ الإمبيريقيّ باستخدام المنهجيّة العلميّة الّتي أقرّها منهجه العلميّ. وقد بيّن في هذه الدراسة أنّ الظواهر الاجتماعيّة – مهما بلغت درجة تعقيدها- تخضع للقوانين الموضوعيّة، الّتي يجب على عالم الاجتماع العمل على استكشافها وتحديد مساراتها.
سنحاول في هذه الدراسة أن نبحث في مختلف جوانب ظاهرة الانتحار عند دوركهايم، في منشئها وماهيّتها وعوامل ظهورها، وسنعمل على تحديد أنواع الانتحار الدوركهايميّ وتناولها في سياقاتها التاريخيّة والاجتماعيّة. كما سنعمل على دراسة عوامل تشكّل هذه الظاهرة واستقراء أسبابها، واستكشاف متغيّراتها، وسنقوم بتحليل العلاقة بين هذه الظاهرة ومختلف الظواهر الاجتماعيّة المرافقة لها والمؤثّرة فيها. كما أنّنا سنبحث في مواقف دوركهايم من طرق الحدّ من هذه الظاهرة، والكيفيّات الّتي يمكن فيها مواجهتها وتخفيف حدّتها. وأخيراً سنعمل على تقديم رؤية نقديّة نستجمع فيها أهمّ الانتقادات الّتي وجّهت إلى هذه النظريّة وموقف دوركهايم منها.
2- الانتحار بوصفه ظاهرة اجتماعيّة:
عرّف دوركهايم الانتحار في مقدّمة كتابه (الانتحار) بقوله "نسمّي انتحاراً كلّ حالة موت تنجم بنحو مباشر أو غير مباشر عن فعل إيجابيّ أو سلبيّ تنفّذه الضحيّة ذاتها، والّتي كانت تعلم بالنتيجة المترتّبة على فعلها بالضرورة" (5). وقد أراد دوركهايم في تعريفه هذا أن يؤكّد أنّ الانتحار هو ظاهرة إنسانيّة يتميّز بها الإنسان دون غيره من الكائنات الحيّة. ويرى في هذا السياق أنّ الحيوانات تتجنّب الموت، ولا تلجأ إلى الانتحار، وأنّ ما نلاحظه من مظاهر انتحار بعض الحيوانات لا تعدو أن تكون صوراً خادعة لنا، فالحيوانات بصورة عامّة تتحاشى الموت وتتجنّب القتل، وأنّ مختلف الحوادث الّتي يتراءى لنا فيها أنّ الحيوانات تنتحر خادعة وغير صحيحة، "فالعقرب المهيّجة إذا ما لدغت نفسها بحمّتها (وهو ما ليس مؤكّداً مع ذلك)، فمردّ ذلك على الأرجح إلى ردّ فعل آليّ لا إراديّ، فالطاقة المحرّكة الّتي أثارتها حالة هياجها أفرغت على غير هدى، وكيفما اتّفق لها. قد يحدث أن يكون الحيوان ضحيّة لمثل ذلك دون أن يكون بوسعنا القول بأنّه كان يتصوّر مسبقاً عاقبة حركته. وفي حالة الكلاب الّتي تمتنع عن تناول طعامها حينما تفقد صاحبها "فذلك لأنّ الكلاب تصاب بحالة من الكآبة والحزن الّذي يدمّر شيّتها إلى الطعام، وهي تموت نتيجة لذلك، ولكن دون أن تتوقّع الموت أو تنتظره. فلا الامتناع عن الطعام في هذه الحالة، ولا الجرح في الحالة الأخرى كانا مستخدمين كوسيلتين تؤدّيان إلى نتيجة معروفة" (6).
وقد يتمّ الانتحار بطرائق وكيفيّات متعدّدة، مثل: تناول السمّ والطعن بالأدوات الحادّة والسقوط من الأماكن العالية والحرق والغرق وغير ذلك من الحالات الانتحاريّة. ومن خصائص الانتحار الواضحة أن يعلم الضحيّة أنّ فعله سيؤدّي إلى الموت، سواء أراد ذلك أم لا. وبهذه الطريقة كان من الممكن التمييز بين أنواع الوفيات الأخرى. ومن هنا أدّى ذلك إلى تعريف دوركهايم بأنّ الانتحار ينطبق على جميع حالات الوفاة الناتجة بشكل مباشر أو غير مباشر عن فعل إيجابيّ أو سلبيّ يقوم به الضحيّة نفسه، وهو يعلم أنّه سيؤدّي إلى موته(7).
وكان دوركهايم مهتمّاً بشرح الاختلافات في الانتحار المعدّلات بين المجموعات المختلفة. واستطاع الحصول على بيانات الانتحار من سجلّات الشرطة من مناطق مختلفة من أوروبا في فترات زمنيّة مختلفة. وبمساعدة هذه البيانات، أثبت أنّ الانتحار ظاهرة اجتماعيّة ترتبط جوهريّاً بقضايا الحياة في المجتمع الرأسماليّ الصناعيّ ظاهرة وناجمة عن تأثير العوامل الاجتماعيّة المختلفة.
وبيّن في هذا السياق أنّ معدّل الانتحار وأسبابه تتحدّد بدرجة اندماج الأفراد في الجماعة وتكيّفهم مع الحياة الاجتماعيّة. وبحسب دوركهايم، لا يمكن تفسير الانتحار من خلال عوامل نفسيّة، أو جغرافيّة، أو مناخيّة، أو وراثيّة، وقد استخدم البيانات لإظهار أنّه لا توجد علاقة إيجابيّة بين معدّل الانتحار والعوامل غير الاجتماعيّة المختلفة مثل درجة الحرارة والجنون والعرق وإدمان الكحول. ويؤكّد في أكثر من مقام بأنّ الانتحار يشكّل حقيقة اجتماعيّة غير مادّيّة تفرض نفسها بصورة مستقلّة عن إرادة الأفراد، وبين أنّه لا يمكن القضاء على هذه الظاهرة؛ لأنّها موجودة في المجتمع كما هي قوانين الفيزياء مثل الضغط والجاذبيّة. ووجد أنّه مهمّة علم الاجتماع تتمثّل في دراسة هذه الظاهرة واستكشاف مظاهرها وقوانينها ومختلف تجلّياتها.
وفي هذا السياق يؤكّد دوركهايم على الجوهر الاجتماعيّ لظاهرة الانتحار، ويحاول أن يخرجها من دوائرها الفرديّة والسيكولوجيّة، وهو يقرّ من حيث المبدأ بأنّ الناس الّذين ينتحرون لظروف نفسيّة مثل الشعور بالكآبة العائليّة، أو لإصابتهم بجروح في كبريائهم، أو لمكابدتهم الفاقة أو المرض، وفي بعض الأحيان تحت تأثير اقتراف زلّة أخلاقيّة… إلخ. ولكن وفق دوركهايم، فإنّ "هذه الخصوصيّات الفرديّة لا تملك أن تفسّر المعدّل الاجتماعيّ للانتحارات. لأنّ هذا المعدّل يتغيّر بنسب عالية، في حين أنّ مختلف ترتيبات الظروف تلك الّتي تمثّل، على هذا النحو، مقدّمات مباشرة للانتحارات الخاصّة تحافظ تقريباً، على تواترها النسبيّ ذاته، فهي لا تمثّل إذن الأسباب الحاسمة للفعل الّذي تسبقه. والدور المهمّ الّذي تلعبه أحيانا، عبر التفكير مليّاً بالانتحار" (8).
ويؤكّد دوركهايم في هذا السياق "بأنّ ثمّة ميلاً خاصّاً إلى الانتحار لدى كلّ جماعة اجتماعيّة لا تفسّره البنية العضويّة النفسيّة للأفراد ولا طبيعة الوسط الفيزيائيّ. وهو ما ينتج عنه، استبعاد الأسباب الفرديّة والسيكولوجيّة، لذا فإنّ هذا الميل، ينبغي بالضرورة، أن يتعلّق، بأسباب اجتماعيّة، وأن يشكّل بحدّ ذاته، ظاهرة جمعيّة، بل إنّ بعض الوقائع الّتي تفحّصناها، وعلى الأخصّ، التغيّرات الجغرافيّة والفصليّة للانتحار قادتنا بوضوح إلى هذا الاستخلاص" (9).
ودأب دوركهايم على شرح الأسباب الاجتماعيّة للانتحار، وقام بدراسة ربط معدّلات الانتحار في ضوء العوامل الاجتماعيّة والمتغيّرات الديمغرافيّة، واعتمد التحليل الإحصائيّ في تناول البيانات والمعطيات المتّصلة بمعدّلات الانتحار. وفي دراسته هذه تناول عدداً كبيراً من المتغيّرات الاجتماعيّة مثل الحالة الاجتماعيّة، المنطقة، الريف أو الحضر، المتقدّم أو المتخلّف، التوجّه الدينيّ – البعد الدينيّ بروتستانتي أو كاثوليكيّ، يهوديّ أو مسيحيّ، ذكر أو أنثى. وأجرى التحليل الإحصائيّ المتقدّم في دراسة العلاقة بين معدّلات الانتحار والعوامل الاجتماعيّة.
ويقرّر دوركهايم في سياق تحليله لهذه القضيّة، أنّ الانتحار ظاهرة تفرض نفسها في المجتمعات كلها، وهو يحدث عادة بمعدّلات طبيعيّة متقاربة بين مختلف المجتمعات الإنسانية، وأنّ كلّ مجتمع لديه ميل جماعيّ طبيعيّ نحو الانتحار، وهو معدّل قتل ذاتيّ ثابت إلى حدّ ما في كلّ مجتمع طالما بقيت الظروف الأساسيّة لوجوده قائمة. وهو يميّز بين الانتحار العاديّ الّذي يحدث في أيّ مجتمع، وبين الانتحار المفرط الأنوميّ الّذي يحدث في ظروف اجتماعيّة استثنائيّة. ويؤكّد في هذا السياق بأنّ الانتحار يختلف باختلاف الظروف والمتغيّرات والعوامل الاجتماعيّة المؤسّسة له والمؤثّرة في تشكيله. ومن هذا المنطلق عمل دوركهايم على دراسة معدّلات التباين الانتحاريّ بين الجماعات والطوائف والمناطق الجغرافيّة، ومن ثمّ عكف على تحليلها وتفسيرها في ضوء نظريّته السوسيولوجيّة.
لاحظ دوركهايم أنّه خلال أشهر معيّنة كان معدّل الانتحار أعلى، وكان أكثر انتشاراً أثناء النهار منه في الليل. وكان أيضاً أكثر تكراراً خلال أيّام الأسبوع مقارنة بعطلات نهاية الأسبوع. واكتشف أنّ المعدّل يزداد عندما تكون الحياة الاجتماعيّة أكثر نشاطاً؛ ولذلك اقترح أنّ الانتحار هو نتيجة لكثافة الحياة الاجتماعيّة. وقد عزل دوركهايم متغيّراً مستقلّاً يكمن وراء هذه الاختلافات: وهو مدى اندماج الفرد في رابطة اجتماعيّة مع الآخرين. الأشخاص الّذين لديهم روابط هشّة أو أضعف مع مجتمعهم هم أكثر عرضة للانتحار من الأشخاص الّذين لديهم روابط أقوى.
3- الانتحار والتحريم:
أثارت قضيّة الانتحار جدلاً فكريّاً عميقاً في تاريخ الحضارات الإنسانيّة بصورة عامّة في الحضارة الغربيّة على نحو خاصّ، وقد تمحور هذا الجدل -قبل دوركهايم- حول سؤال ثلاثيّ البنية والتركيب، وهو: هل يحقّ للفرد الانتحار قانونيّاً ودينيّاً وأخلاقيّاً؟ وهل يأخذ الانتحار صورة قرار فرديّ حرّ يتّخذه الفرد بنفسه، ويعبّر عن إرادته وحرّيّته؟ أم أنّه يأتي تحت تأثير الضغط الاجتماعيّ أو الحتميّة الاجتماعيّة؟ ومن الواضح أنّ الشقّ الأوّل من هذا التساؤل يدور في فلك الجانب الأخلاقيّ والقانونيّ، ويتعلّق الثاني بمسألة الحرّيّة الفرديّة، أمّا الأخير فيعبّر عن الضرورة الاجتماعيّة وتأثيرها في قرارات الفرد ومصيره بمعنى هل يكون الإنسان مخيّراً أم مسيراً في سلوكه الاجتماعيّ؟ وهل يخضع لثمة حتميّة مصيريّة قدريّة لا يمكنه أن يتجاوزها.
وقبل دوركهايم بزمن طويل كان ميشيل مونتيني (Michel Eyquem de Montaigne) (10) قد أعلن رفضه الصريح لرأي الكنيسة المناهض للانتحار؛ إذ يعلن أنّه "يحقّ للفرد تماماً الانتحار تماماً كما يحقّ له إنفاق المال في جيبه"(11). وتأسّيا على رؤية مونتينيّ، فإنّ الانتحار فعل حرّ، وليس عملاً منافياً للأخلاق. وقد أدلى الفيلسوف الإنكليزيّ ديفيد هيوم (David Hume) (12] بدلوه في هذه المسألة مؤيّداً رؤية مونتينيّ وتصوّراته حول حرّيّة الأفراد في الانتحار.
واشتدّ وطيس الجدل حول هذه القضيّة في عصر التنوير، وأصبح الحوار في هذه المسألة أكثر سخونة حول الطابع الحتميّ أو الحرّ لفعل الانتحار. وفي هذه الأجواء الجدليّة الحامية، يطالعنا المفكّر الفرنسيّ الكبير فولتير (Voltaire) (13] برؤية ذات طبيعة سوسيولوجيّة محضة، إذ وجد بأنّ معدّل حدوث الانتحار في المناطق الحضريّة أكبر منه في المناطق الريفيّة، وهذا يعني أنّ "العوامل الّتي تؤثّر في الانتحار" تكون في الأغلب خارج الفرد، وليست نتاجاً لوضعه السيكولوجيّ الداخليّ؛ فمن المرجّح أن يصاب سكّان الحضر بالاكتئاب العقليّ أكثر من سكّان الريف، لأنّ سكّان الحضر لديهم وقت فراغ للتفكير أكثر من سكّان المناطق الريفيّة، وذلك لأنّهم يملكون وقت الفراغ المناسب، وقد تحرّروا من العمل البدنيّ الشاقّ (وهو عامل يؤثّر في الانتحار)" (14). وعلى خلاف هذه الرؤية رأى بعض المفكّرين بأنّ الانتحار ينجم عن طبيعة وراثيّة، وهذا يعني أنّ الأفراد يرثون هذا الاستعداد الفطريّ الوراثيّ للانتحار، وقد شكّل هذا الجدل المستمرّ حول الانتحار منطلقاً لتطوّر الرؤى والتصوّرات الّتي تبحث في طبيعة الانتحار وأسبابه، فتردّه إلى عوامل نفسية وهستيريّة تارة، وإلى عوامل بيولوجيّة وفطريّة تارة أخرى، واجتهد آخرون في تفسيره على محمل الحتميّة الدينيّة، بينما ألحّ بعضهم إلى تفسيره في ضوء الحتميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
وقد تناول دوركهايم مختلف الآراء والتصوّرات الكلاسيكيّة حول الانتحار، ولاسيّما التصوّرات الدينيّة في المجتمعات الأولى، فاستعرض في كتابه الانتحار موقف المسيحيّة من الانتحار الّتي قامت منذ البداية بتحريم الانتحار بصورة صريحة وقطعيّة. وقد أفادنا في هذا السياق أنّه مجمّع “آرل " (Council of Arles) (15) الرومانيّ القديم، حرم الانتحار، وجعله جريمة دينيّة في عام 452 ميلاديّة، وأوضح بأنّ الانتحار لا يتمّ إلّا تحت نزوة شيطانيّة ملعونة. وقد تطوّر الموقف المسيحيّ من الانتحار إذ قام مجمّع "براغا (Councils of Braga) (16]عام 563 بتصدير قانون عقابيّ ينص على حرمان المنتحرين من طقوس التأبين أثناء تشييع الجنازة(17).
ومن المعروف أن التشريع المدنيّ الخاصّ بالانتحار استلهم لقانون الكنسيّ، وترافق ذلك بالتشديد عندما أضيفت عقوبات مادّيّة إلى العقوبات الدينيّة. وقد تضمّنت فقرة من تدوينات القدّيس (لويس) مطالبة بإقامة دعوى ضدّ جسد المنتحر أمام السلطات المختصّة في قضايا جرائم قتل الغير، وكانت أموال المتوفّى تسقط من أيدي الورثة الاعتياديّين، وتصبح من حقّ البارون (النبيل الإقطاعيّ). وهناك "عدد كبير من الأعراف، الّتي لم تكتف بمصادرة أملاك الميّت، بل إنّها سَنّت فضلا عن ذلك عقوبات مختلفة: (ففي بوردو، كانت جثّة المنتحر تعلّق من رجليها، وفي أبيغيل كانت الجثّة تجرجر في الشوارع فوق حصير). وفي مدينة ليل الفرنسيّة، إذا كان المنتحر رجلاً، فإنّ الجثّة تسحب سحباً إلى المشنقة، ثمّ تشنق، وإذا كانت امرأة فإنّ جثّتها تحرق)"، ولم تؤخذ قضايا الجنون المؤدّي للانتحار بعين الاعتبار في هذا القوانين(18).
وقد قنّن القانون الجنائيّ الّذي نشره (لويس الرابع عشر)، عام (1670) تطبيقات هذه العقوبات ضدّ المنتحرين دون تخفيف كبير، فالحكم القانونيّ كان صريحاً كتذكير أبديّ بذنب لا يمكن غفرانه. إذ كان جسد المنتحر يوضع على حصير، ثمّ يسحب ووجهه إلى الأرض في الشوارع والمفترقات، ثمّ يشنق بعد ذلك، أو يرمى فوق المزابل. أمّا أمواله فكانت تصادر. وكان النبلاء المنتحرون يتعرّضون إلى فقدان منزلتهم، والتحوّل إلى عاميّين. وكانت غاباتهم تحرق، وقصورهم تهدم وخزائنهم تحطّم. وما يزال بين أيدينا قرار من برلمان باريس، جرى اتّخاذه في (31) كانون الثاني عام (1749)، طبقاً لهذا التشريع" (19).
وبرد فعل مفاجئ، "ألغت ثورة عام (1789)، كلّ هذه الإجراءات الدينيّة، وشطبت الانتحار من قائمة الجرائم الرسميّة. ولكنّ الفرنسيّين أصرّوا على تحريمه ومعاقبة مرتكبيه، واستنكاره أخلاقيّاً. وما يزال هذا التحريم –وفق دوركهايم– "يوحي إلى الضمير الشعبيّ بنفور يمتدّ إلى الأماكن الّتي نفّذ فيها المنتحر قراره، وإلى الأشخاص جميعهم الّذين كانوا على علاقة وثيقة به. فهو يشكّل آفة أخلاقيّة، رغم أنّ الرأي العامّ يميل، كما يبدو، إلى أن يغدو بصدد هذا الموضوع أكثر تسامحاً ممّا مضى، ولكنّه ما يزال يحتفظ بشيء ما من طابعه الإجراميّ القديم. فحسب أحكام القضاء الأكثر عموميّة، يلاحق المتواطئ أو المحرّض على الانتحار باعتباره قاتلاً. ولن يكون الأمر كذلك فيما لو اعتبر الانتحار فعلاً حياديّاً من الناحية الأخلاقيّة" (20).
ويقول دوركهايم في هذا السياق "نحن نعثر على هذا التشريع لدى جميع الشعوب المسيحيّة، وظلّ في كلّ مكان تقريباً أكثر قسوة وتشدّداً ممّا في فرنسا. ففي إنكلترا، ومنذ القرن العاشر ماثل الملك (ادجارد) في أحد القوانين الّتي نشرها، بين المنتحرين وبين اللصوص، والقتلة والمجرمين، من الأصناف كلها. وحتّى عام (1823)، استمرّت عادة سحب جثّة المنتحر في الطرقات بواسطة عصا ممتدّة من جانب إلى جانب، ودفنه في إحدى الطرق الكبرى، دون أيّ احتفالات أو طقوس" (21).
وعلى هذا النحو يلاحظ أنّ القوانين والعادات والتقاليد والأديان جرمت الانتحار ولاسيّما في قديم الزمان، وبقي الأمر على هذه الحالة حتّى عصر التنوير وبداية الجمهوريّة الثالثة الّتي اتّخذت إجراءات مضادّة للقرارات التيولوجيّة القديمة و، وأصبح الانتحار يدرس وفق معايير سوسيولوجيّة ووضعيّة، ويؤخذ بوصفه ممارسة اجتماعيّة تفرضها حتميّات سيكولوجيّة وسوسيولوجيّة يمكن دراساتها والكشف عن ملابساتها، وقد ظهرت وجهات نظر جديدة تجرّم المجتمع بدلاً من الفرد، وتحمّله مسؤوليّة وقوع هذه الجرائم الانتحاريّة بحقّ الإنسانيّة. وفي هذا السياق، فإنّ دوركهايم كما أسلفنا يعلن بأنّ الانتحار ظاهرة اجتماعيّة صرفة، وأنّ معالجتها تتمّ بالإصلاح الاجتماعيّ، وهي في الأحوال كلها ظاهرة اجتماعيّة ملازمة لوجود المجتمع الإنسانيّ حضوراً أو غياباً.
أنواع الانتحار:
يرى دوركهايم أنّ الانتحار يرتبط جوهريّاً بظاهرتي: التضامن الاجتماعيّ والضبط الاجتماعيّ، ونعني بالتضامن الاجتماعيّ درجة التفاعل والتضامن الداخليّ بين أفراد المجتمع، ويعبر هذا التضامن عن درجة ارتباط الفرد بالمجتمع. أمّا الضبط الاجتماعيّ، فيرمز إلى درجة حضور التنظيم الاجتماعيّ في المجتمع ومدى هيمنة القيود والقواعد والمبادئ الاجتماعيّة على الأفراد، وقد وجد أنّ معدّلات الانتحار ترتبط بمعدّلات انخفاض أو ارتفاع هاتين الظاهرتين.
وقد ميّز بناء على ذلك أربعة أنواع من الانتحار: الانتحار الأنانيّ والانتحار الأنوميّ والانتحار الإيثاريّ والانتحار القدريّ. ووجد أنّه إذا كلّما ارتفع منسوب التضامن الاجتماعيّ ارتفعت معدّلات الانتحار الإيثاريّ. وفي حالة انخفاض التضامن ترتفع نسب الانتحار الأنانيّ. أمّا الانتحار القدريّ، فيرتبط بدرجة عالية من الضبط الاجتماعيّ والتنظيم، وعلى خلاف ذلك يرتبط الانتحار الأنوميّ بضعف في درجة الضبط الاجتماعيّ. وبعبارة أخرى، يفترض دوركهايم أنّه كلّما انخفضت درجة التضامن الاجتماعيّ ارتفع معدّل الانتحار الأنانيّ؛ وكلّما زادت درجة التضامن الاجتماعيّ، زاد معدّل الانتحار الإيثاريّ؛ وكلّما ضعف الضبط الاجتماعيّ في كبح جماح الفرد ارتفع معدّل الانتحار الأنوميّ؛ وكلّما زادت قوّة الضبط الاجتماعيّ وقدرته على مصادرة حرّيّة الأفراد وكبح جماحهم ارتفع معدّل الانتحار القدريّ أو المصيريّ.
4-1- أوّلاً- الانتحار الأنوميّ أو الشذوذيّ (Anomic suicide):
تعرف "الأنوميّ" (Anomie) بأنّها ي حالة من الشذوذ والفوضى القيميّة الّتي تضرب المجتمع، وتتجلّى على صورة تفكّك أخلاقيّ وانهيار قيّميّ، وعلى صورة فوضى معياريّة تسود المجتمع في بعض مراحل تطوّره، وبعبارة أخرى يعني الشذوذ الأنوميّ: انهيار المعايير الأخلاقيّة والاجتماعيّة الّتي تؤدّي إلى الفوضى والارتباك والانحراف في المجتمع.
وجد دوركهايم ترابطاً واضحاً بين الوضعيّة الأنوميّة للمجتمع وظاهرة الانتحار، وأطلق على الانتحار الناجم عن هذه الفوضى بالانتحار الأنوميّ (Anomic suicide). ويبيّن دوركهايم أنّ هذا الانتحار يفرض نفسه في الوضعيّات الّتي يعاني فيها المجتمع من التفكّك الأخلاقيّ، والانهيار القيميّ، وغياب التنظيم الاجتماعيّ، إذ تنتشر حالات الانتحار، وترتفع معدّلاته بين الأفراد. وقد عزى دوركهايم حالة الأنوميّ إلى التغيّرات المفاجئة الّتي تصيب المجتمع مثل الحروب والثورات والكوارث الاجتماعيّة والطبيعيّة الّتي تؤدّي إلى دخول المجتمع في الفوضى الاجتماعيّة والتنظيميّة، فتهتزّ المعايير، وتغيب القيم والمعايير الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وفي ظلّ هذه الوضعيّات، يفشل الأفراد في اتّباع الأعراف والقيم، وتختفي المسارات الصحيحة للسلوك، وتسيطر عليهم وضعيّات اليأس والاكتئاب والقنوط، وأحاسيس الاغتراب والهامشيّة والعدميّة. وهذا كلّه يشكّل مناخاً يشجّع الانتحار الّذي ينمو في ظلّ هذه الظروف، فترتفع معدّلاته كنتيجة طبيعيّة لانهيار القيم واهتزاز المعايير وتراجع الأخلاق. وقد أشار دوركهايم في هذا السياق إلى أنّ الأنوميّ قد تحدّث أيضاً نتيجة لحالات الكساد الاقتصاديّ والأزمات الاجتماعيّة وكذلك حالات الازدهار الاقتصاديّ الّذي يؤدّي إلى تنامي الرغبات الفرديّة على حساب المصالح العامّة وهذا كلّه يشكّل مناخاً لانتشار الانتحار الشذوذيّ.
ومن الواضح أيضاً أنّ الانتحار الأنوميّ يعكس الاضطراب الأخلاقيّ للفرد، وافتقاره إلى التوجّه الاجتماعيّ المرتبط بالاضطرابات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الدراماتيكيّة. وهو في الأحوال كلها نتاج الفشل في تحديد التطلّعات المشروعة للأفراد في ظلّ عنف القيود الأخلاقيّة والضوابط الاجتماعيّة الّتي تفرض هيمنتها على عقل الفرد ووجدانه. وهذا يعني أنّ الانتحار الأنوميّ يمثّل علامة على فشل التنمية الاقتصاديّة في المجتمع وإخفاق عمليّة تقسيم العمل في تحقيق التضامن العضويّ الخلّاق، ومن هذا المنطلق يصف دوركهايم الانتحار الأنوميّ بأنّه حالة من العجز الأخلاقيّ الّتي تضع الأفراد فيّ حالة من الشعور باليأس وخيبة الأمل.
وبعبارة أخرى يعكس الانتحار الأنوميّ الارتباك الأخلاقيّ للفرد، وافتقاره إلى التوجيه الاجتماعيّ، ويرتبط بالاضطرابات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الدراماتيكيّة المفاجئة، ويأتي نتاجاً طبيعيّاً للانهيار الأخلاقيّ وضعف القدرة على ضبط السلوك الأخلاقيّ في المجتمع.
ويؤكّد دوركهايم أنّ هذا النوع من الانتحار يحدث في أوقات الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهو الوقت الّذي تهتزّ فيه القيم، وتتراجع الضوابط الاجتماعيّة. ويذكر دوركهايم في هذا السياق أنّ المجتمع ليس قوّة تجتذب الأفراد إليها، وتستقطب مشاعر ونشاطات الأفراد فحسب، بل هو في القطب الآخر قوّة تنظّم مشاعر الأفراد، وتنسّق نشاطاتهم وتضبطها، وثمّة صلة تربط بين الطريقة الّتي يمارس فيها المجتمع على نفسه ذلك التأثير المطّرد، وبين المعدّل الاجتماعيّ للانتحارات، ويؤكّد في السياق ذاته على أنّ الأزمات الاقتصاديّة تؤثّر تأثيراً بالغاً في توليد النوع الأنوميّ من الانتحار.
وفي كتابه الانتحار يقدّم دوركهايم سرداً إحصائيّاً يبرهن فيه بالحجج الإحصائيّة الدامغة على تأثير الأزمات الاقتصاديّة في زيادة معدّلات الانتحار، ويذكر في هذا السياق أنّ الأزمة الماليّة الّتي حدثت في فيينا عام 1873، وبلغت ذروتها عام 1974، أدّت إلى ارتفاع عدد حالات الانتحار على الفور من (141) انتحاراً عام 1872 إلى (153) عام 1873، ثمّ إلى (216) عام 1874، بزيادة مقدارها (51%) بالقياس إلى عام 1972 وهو ما يدلّل بوضوح على أنّ هذه الكارثة هي السبب الوحيد لهذا الازدياد الّذي كان ملموساً، بوجه خاصّ، في اللحظة الّتي بلغت فيها الأزمة طورها الحادّ، أي خلال الشهور الأربعة الأولى من عام 1874. فمنذ أوّل كانون الثاني حتّى نهاية نيسان، كان قد أحصى (48) انتحاراً عام 1871، و(44) عام 1872، و(43) عام 1873، وكان هناك (73) انتحاراً عام 1874، أي أنّ الزيادة بلغت (70٪). والأزمة نفسها الّتي انفجرت في الفترة ذاتها في فرانکفورت- سور – لو – مان، أفضت إلى النتائج نفسها. فخلال السنوات الّتي سبقت عام 1874 كان متوسّط الانتحارات الّتي حدثت فيها (22) انتحاراً في السنة، أمّا في عام 1874 فكان هناك (32) انتحاراً، أي بزيادة قدرها (45٪) (22).
ويشير دوركهايم إلى الانهيار الماليّ الشهير الّذي حدث في بورصة باريس خلال شتاء عام 1882، وظهرت نتائجه، ليس في باريس وحدها، بل في كلّ أرجاء فرنسا. فمنذ عام 1874 وحتّى عام 1886، لم يكن متوسّط الزيادة السنويّة للانتحارات يزيد عن (2%)، ولكنّها في عام 1882 بلغت (7%)، وفضلاً عن ذلك، فإنّ هذه الزيادة لم تكن موزّعة بالتساوي على مختلف أوقات السنة، ولكنّها حدثت، بالأخص، خلال الأشهر الثلاثة الأولى، أي في اللحظة ذاتها الّتي حدث فيها الانهيار الماليّ. فإلى هذه الأشهر الثلاثة تعود التسعة والخمسون من مئة (59%) من الزيادة الكلّيّة. وهذا الارتفاع هو من صنع الظروف الاستثنائيّة، إذ ليس فقط تقلّص في عام 1861، بل إنّه اختفى في عام 1883، على الرغم من أنّ هذه السنة الأخيرة، كان لها داخل مجموع الانتحارات عدد أعلى بقليل من السنة التي سبقتها(23).
وتجدر الإشارة في هذا السياق أنّ الانتحار الأنوميّ لا ينجم عن الطريقة الّتي يرتبط بها الناس بعضهم بعضاً بالمجتمع (التضامن الاجتماعيّ أو التكامل الاجتماعيّ) بل بالطريقة الّتي يسيطر بها المجتمع عليهم، أو تلك الّتي يفشل فيها في ضبطهم (التنظيم الاجتماعيّ أو الضبط الاجتماعيّ) (24).
ومن المهمّ جدّاً في هذا السياق أنّ دوركهايم قد وجد أنّ معدّل الانتحار لا يرتفع فقط في حالة الفقر والفاقة فحسب، بل في حالة الرخاء والثراء، وذلك لأنّ عدداً من الأفراد لا يمتلكون القدرة على التكيّف مع التغييرات العنيفة المفاجئة في تنظيم حياتهم، سواء أكتنت فقراً أم غنى، بؤساً أو ازدهاراً. وتتمثّل هذه التغيّرات في الانتحار الّذي يلاحظ بين الأثرياء والمطلّقين، أو في حالات انهيار العلاقات الزوجيّة أو وفاة الزوج أو الزوجة. ويكن أن نسوق أمثلة على هذا النوع من الانتحار، ومنها أنّ انهيار بورصة وول ستريت عام 1929 الّذي أدّى إلى الكساد الكبير في ثلاثينيّات القرن العشرين أدّى إلى زيادة هذا النوع من الانتحار؛ لأنّ العديد من الأثرياء أصبحوا فجأة فقراء نتيجة لذلك، ولم يتمكّنوا من التعامل مع المجموعة الجديدة من الانتحار. والمعايير والقيم الّتي يجب عليهم التعامل معها. وقد حدث هذا النوع من الانتحار في مختلف أنحاء العالم مع الأزمة الاقتصاديّة الّتي تمثّلت في أزمة الرهن العقاريّ والّتي امتدّت لتتحوّل إلى ركود اقتصاديّ في عام 2008، وهذا بدوره أدّى إلى انهيار البورصات العالميّة، وقد شاهدنا مثل هذا الانتحار بمعدّلات عالية في الخليج العربيّ، وفي مختلف أنحاء العالم.
يلاحظ دوركهايم أمن معدّلات الانتحار لا ترتفع فقط عندما كانت هناك أزمة اقتصاديّة أو كارثة اجتماعيّة فحسب، بل عندما يسجّل المجتمع طفرة من الازدهار الاقتصاديّ، ويصل إلى درجة عالية من الترف والرفاهية الماليّة والاقتصاديّة، ولا سيما هذا النوع من الطفرات الازدهاريّة المفاجئة. ويحاول دوركهايم تفسير هذا المفارقة السوسيولوجيّة، إذ يرى أنّ الإنسان يختلف عن الكائنات الحيّة إذ لا يسعى إلى تلبية احتياجاته البيولوجيّة فحسب بل يعمل على تلبية احتياجاته النفسيّة والاجتماعيّة التي تفوق الاحتياجات البيولوجيّة من حيث أهمّيّتها وخطورتها، والإنسان كما يرى لديه هاويات مخيفة من التعطّش إلى الإشباع السيكولوجيّ، الّتي تتمثّل في تدفّق لا متناهي من المشاعر والرغبات والميول الّتي لا يمكن تحقيقها وإشباعها بصورة كافية أبدا لأنه لا يوجد في التكوين البيولوجيّ العصبيّ البشريّ ما يحدّ من هذه الرغبات، ويلجم جماح تطوّرها. وهذا الأمر يذكرنا بحكمة غاندي التي تقول: إن الأرض توفر ما يكفي لإشباع كل إنسان يعيش عليها، ولكنها لا تكفي لإشباع جشع إنسان واحد " وعلى هذا الأساس، فإنّ المجتمع معني بالعمل على توليد حالة أخلاقيّة وبناء قوّة ثقافيّة معياريّة تقوم بتنظيم العلاقة بين الاحتياجات المادّيّة والنفسية عند الأفراد، ويريد دوركهايم بذلك الإشارة إلى العقل الجمعيّ أو الضمير الجمعيّ الّذي يقوم بدوره في منع التطوّر الطفريّ اللامحدود للرغبات السيكولوجيّة والميول الذاتيّة الأنانية عند الأفراد. والضمير الجمعيّ يشكّل القوّة الاجتماعيّة الّتي يوظّفها المجتمع في تحقيق التضامن والتكامل بين ما هو اجتماعيّ وثقافيّ وما هو بيولوجي سيكولوجيّ فرديّ؛ وهذا يعني أنّ العقل الجمعيّ هو «القوّة الأخلاقيّة الوحيدة المتفوّقة على الفرد» وهي القوّة الّتي تضع الفرد ضمن التساوق الأخلاقيّ والقيمي للمجتمع الّذي يعيش فيه. ويؤكّد أولسن في هذا السياق أنّ الضمير الجمعيّ غالباً ما يحدّد العلاقات الاجتماعيّة، وينظّمها بنجاح لكن عندما تصبح المجتمعات أكثر تعقيداً... تضعف الضوابط الاجتماعيّة، وتنفلت نوازع الفرد السيكولوجيّة، ويرتفع منسوب طموحاته إلى تحقيق أهداف يصعب تحقيقها وإنجازها، وهو الأمر الّذي يعزّز حالة من الشذوذ (الأنوميّ) الّتي تؤدّي إلى "الانتحار الأنوميّ".
ويؤكّد دوركهايم في هذا الاتّجاه أنّ التغيير الاجتماعيّ السريع يؤدّي إلى عطالة النظام الاجتماعيّ، وإلى نموّ ظاهرة الانتحار الأنوميّ، ويقصد أنّه عندما تصبح التحوّلات المفاجئة في المجتمع غير قادرة على تنظيم رغبات الفرد وتحقيق طموحاته وإضعاف تضامنه الاجتماعيّ. على سبيل المثال، في حالة حدوث كارثة اقتصاديّة، يتحوّل الناس إلى وضع اجتماعيّ مختلف عن ذي قبل، ممّا يغيّر حدود أهدافهم ومسار تطلّعاتهم. كما أنّ التغيّر المفاجئ في شكل السلطة يؤدّي إلى اضطراب شديد في النظام الاجتماعيّ، وبما أنّ التقسيم غير المعياريّ للعمل لا يمكنه تنظيم العلاقات الاجتماعيّة بين الأفراد، وارتباطهم بالمجتمع، فإنّ الانتحار الأنوميّ يحدث عندما يفقد المجتمع القدرة على تنظيم رغبات الأفراد وتطلّعاتهم الفرديّة وهي الحالة الّتي تتمثّل في ضعف الضمير الجمعيّ في المجتمع
4-2- ثانيا- الانتحار الأناني (Egoistic suicide):
يطلق دوركهايم على هذا النوع من الانتحار "الانتحار الأنانيّ، أو الانتحار بدوافع ذاتية الّذي يندفع إليه المنتحر من نفسه. ويرى دوركهايم أنّ الانتحار الأنانيّ هو أكثر أنواع الانتحار شيوعاً وتكاثفاً في المجتمعات الحديثة، وهو نمط من الانتحار الّذي ينجم عن غياب التكامل والتضامن الاجتماعيّين. وينجم هذا النوع الانتحاريّ عن نمو الفرديّة المفرطة، ونقص الروابط الثقافيّة والاجتماعيّة التضامنيّة، ونموّ في معايير العزلة الاجتماعيّة بين الأفراد. ويحدث غالباً بين الأفراد الّذين يفقدون ارتباطهم الإنسانيّ والاجتماعيّ بالآخرين، مثل: الأشخاص الّذين يعيشون بمفردهم في منازل صغيرة وشقق منفصلة، والمطلّقين، والسكارى، والمعوزين، والمتسوّلين. ويعكس الانتحار الأنانيّ شعوراً دائماً بالاغتراب الاجتماعيّ الّذي يتخلّله شعور الأفراد المتعاظم بالغربة، والكآبة، والعزلة، والاكتئاب. يتوافق الانتحار الأنانيّ مع مستوى منخفض من التكامل الاجتماعيّ، وذلك عندما لا يستطيع الفرد أن يندمج في المجتمع، أو في إحدى مؤسّساته الاجتماعيّة بصورة كافية ومرضية. ولذا فإنّه عندما يقع الفرد في دائرة العزلة، ويشعر بفقدان مكانته الاجتماعيّة، وتحاصره مشاعر الاغتراب، ويشعر في الوقت نفسه، بأن لا مكان له في المجتمع، يميل إلى الانتحار، وينزع على وضع حدّ نهائيّ لحياته البائسة. ويطلق دوركهايم على وضعيّة التفرّد والعزلة الّتي تدمّر الفرد وتؤدّي إلى انهياره عصبيّاً ونفسيّاً مصطلح "التفرّد المفرط"("Excessive individuation). وهو يشير بذلك إلى الأفراد الّذين فقدوا ارتباطهم بالمجتمع؛ ومن ثمّ وجدوا أنفسهم على هامش الحياة الاجتماعيّة دون دعم اجتماعيّ أو رعاية أو توجيه، وهذه الوضعيّة تقود قسماً منهم إلى الانتحار.
4-3 – ثالثا- الانتحار الإيثاريّ (Altruistic suicide):
يعرف دوركهايم هذا النوع من الانتحار الإيثاريّ بأنّه الانتحار الّذي يدفع إليه الغير أو الآخر، وهو على خلاف الانتحاريّ الأنانيّ لا يصدر من الذات الداخليّة للفرد، بل يصدر عن عوامل خارجيّة قائمة في المجتمع. ومن المفارقة السوسيولوجيّة أنّ هذا الانتحار يأتي بسبب زيادة التكامل والتضامن الاجتماعيّين، وهو نقيض الانتحار الأنانيّ الّذي ينجم عن غياب التضامن الاجتماعيّ والتفاعل الإنسانيّ الخلّاق داخل المجتمع. ويحدث الانتحار الإيثاريّ (الغيريّ) عندما تأخذ مصالح الجماعة أو المجتمع أوّليّتها على المصالح الفرديّة، وعندما تتضاءل قيمة الفرد أمام قيمة المجتمع. وعلى هذه الصورة يتجلّى الانتحار بوصفه تضحية واجبة على الفرد من أجل خير الجماعة وصلاحها، ولأنّ الفرد يشعر أنّ من واجبه أن يضحّي بنفسه من أجل مجتمعه ومصالح الجماعة الّتي ينتمي إليها ومثال ذلك الجنود الّذين يقومون بالتضحية من أجل بلدانهم وكذلك الانتحاريّون الّذي يقدّمون أنفسهم على مذبح التضحية للجماعات الّتي ينتمون إليها، ومثال ذلك أيضاً الطيّارون اليابانيّون الانتحاريّون أثناء الحرب العالميّة الثانية، وخير مثال معاصر يمثله الانتحاريّون المتطرّفون الّذي يضحّون بأنفسهم لعقائد إيمانيّة محدّدة.
ومن الواضح أنّ هذا النوع الانتحاريّ يحدث عندما تهيمن الجماعة على حياة أفرادها إلى الدرجة الّتي يشعر فيها الأفراد بأنّه لا معنى لحياتهم بالنسبة للمجتمع، ويحدث هذا النوع من الانتحار عندما يكون الأفراد والمجموعة على درجة عالية من التضامن والتفاعل والتكامل. ووجد دوركهايم أنّ هذا النوع من الانتحار يحدث غالباً في المجتمعات التقليديّة والبدائيّة. ويحدّد دوركهايم ثلاثة أنماط من الانتحار الإيثاريّ:
1- الانتحار الإيثاريّ الإلزاميّ بدافع الشرف، مثل الساموراي (المحاربون القدماء) الّذي ينتحر ضمن طقوس محدّدة أمام قائده للاعتذار عن خطأ، ومثاله أيضاً الخادم اليابانيّ الّذي يعتذر لسيّده بقتل نفسه بطريقة طقوسيّة كأن يركع أمام سيّده، ويبقر بطنه بسكّين أو بسيف، ومثاله أيضاً الممارسة الطقوسيّة للمرأة في قبيلة الساتي الهندوسيّة (Hindu practice of sati) الّتي تقتل نفسها، فتضع نفسها في المحرقة الجنائزيّة لزوجها المتوفّى.
2- الانتحار الإيثاريّ الاختياريّ: وهو أيّ عمل تضحوي يضحّي فيه الفرد من أجل قبيلته أو عشيرته أو المؤسّسة الّتي ينتمي إليها من أجل حماية شرف الجماعة ومصلحتها ومثال ذلك العمليّات الانتحاريّة الّتي يقوم بها الجنود والضبّاط بملء إرادتهم للدفاع عن أوطانهم.
3- الانتحار الإيثاريّ الانحرافيّ: وهو نوع من الانتحار الشذوذيّ الّذي يحدث عندما يقتل الفرد نفسه بغرض الاستمتاع بالتضحية ونكران الذات. ويمكن الاستشهاد بقتل الراهب البوذيّ لنفسه كمثال في هذا الصدد. ومثاله أيضاً الانتحارات الدينيّة الّتي ينتحر فيها المؤمنون تكفيراً لذنوب ارتكبها أجدادهم أو تيمّناً بعشقهم وحبّهم للقيم والشخصيّات الّتي آمنوا بها. ومن الأمثلة الصارخة السيّئة السمعة على الانتحار الإيثاريّ الانحرافيّ كان الانتحار الجماعيّ لأتباع القسّ جيم جونز (Jim Jones) في جونستاون، غيانا، (Jonestown, Guyana) في عام 1978. فقد تناولوا مشروباً مسموماً بشكل متعمد، وفي بعض الحالات جعلوا أطفالهم يشربونه أيضاً. من الواضح أنّهم كانوا ينتحرون؛ لأنّهم كانوا مندمجين بشدّة في مجتمع أتباع جونز المتعصّبين. ويمكن الإشارة أيضاً في هذا السياق إلى الهجوم الانتحاريّ في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وهو يعبّر عن تضحيات أفراد يؤمنون بقيم دينيّة محدّدة. وبشكل أكثر عموماً، فإنّ أولئك الّذين ينتحرون بدافع الإيثار يفعلون ذلك لأنّهم يشعرون أنّ من واجبهم أن يفعلوا ذلك. ويرى دوركهايم أنّ هذا الأمر محتمل على نحو خاص في المؤسّسات العسكريّة الّتي تدافع عن الأوطان وهي المؤسّسات الّتي تكون فيها درجة التكامل قويّة إلى الحدّ الّذي يجعل الفرد يشعر بأنّه قد ألحق العار بالمجموعة بأكملها بسبب أتفه حالات الفشل(25).
يرى دوركهايم بأنّ الانتحار الغيريّ الإيثاريّ كان شائعاً في المجتمعات، وقد رصد في كتابات الأوّلين أنّ المحاربين الدنمركيّين كان يحتقرون الموت في الفراش، أو بسبب الشيخوخة، وينظرون إلى هذه الصيغة من الموت على أنّها عارّ مبين، ولذا جرت العادة أن ينتحروا للخلاص من هذا العار الشائن(26). وكان القوطيّون يعتقدون كذلك بأنّ أولئك الّذين يموتون موتاً طبيعيّاً مقدّر لهم أن يتفسّخوا داخل كهوف مملوءة بحيوانات سامّة(27). "وعلى حدود أراضي ويزغوت كانت هناك صخرة شاهقة تسمّى صخرة الأجداد، كان المسنّون يلقون بأنفسهم من فوقها حينما يسأمون من الحياة (28). ويذكر دوركهايم أنّ هذا العرف الانتحاريّ وجد في الهند واستمرّ طويلاً، ومثاله انتحار البراهمان كالانوس الّذي ضحّى بنفسه مثلما تقتضي عادة حكماء البلاد في ذلك الزمان " (29). ويرى هؤلاء الحكماء أنّه لشرف عظيم أن يعلنوا عن يوم موتهم، ثمّ يحرقون أنفسهم في ذلك اليوم أحياء عندما يبدأ التقدّم في السنّ أو المرض بتعذيبهم. فانتظار قدوم الموت، بحسب رأيهم عار يشين الحياة. كما أنّهم لا يولّون أيّ شرف للأجساد الّتي تهدمها الشيخوخة. فالنار تغدو مدنّسة إذا لم تستقبل الرجل وهو ما يزال حيّاً"(30). ويسرد دوركهاين أنّه في كيوس، يجتمع الرجال الّذين تجاوزوا سنّا معيّناً، ويقيمون مأدبة احتفاليّة عظيمة، تتوّج رؤوسهم أكاليل الزهور، ويشربون السيغوي بمرح صاخب قبل أن ينهوا حياتهم.
وفي إشارة إلى النساء يذكر دوركهايم أنّ النساء لدى هذه الشعوب يحرصن على الانتحار غالباً لحظة موت أزواجهنّ. وهذه الممارسة البربريّة متأصّلة في عادات الهندوس، وقد استمرّت على الرغم من جهود الإنكليز. فقد انتحرت 706 أرملة عام 1817 في مقاطعة البنغال وحدها. وفي عام 1821 حدث انتحار 2366 أرملة في عموم الهند. وفي أمكنة أخرى عندما يموت أمير أو زعيم، فإنّ بطانته بكاملها ملزمة بألّا تعيش بعده. وتلكم هي الحالة في الغال، فقد كانت جنازات الزعماء، كما يقول هنري مارتين، مجازر دامية(31)، إذ كانوا "يُحرقون في طقوس احتفاليّة بثيابهم، وأسلحتهم، وشعورهم، وعبيدهم، الأثيرين، ثمّ يلتحق بهم المخلصون الّذين لم يقتلوا في آخر معركة خاضوها؛ وهذا يعني أنّه ما كان ينبغي لأيّ تابع مخلص العيش بعد رحيل زعيمه قطّ. وهذه الظاهرة وجدت لدى الأشانتيّين، إذ كان من واجب ضبّاط الملك أن يموتوا حينما يموت الملك. وثمّة مراقبون صادفوا العرف نفسه في هاواي" (32). ويقرّر دوركهايم أنّ هذا النوع من الانتحار كان متواتراً لدى الشعوب البدائيّة، ولكنّه يظهر بسمات خاصّة جدّاً لدى هذه الشعوب، ويصنّف دوركهايم جميع هذه الوقائع الانتحاريّة الإيثاريّة في ثلاث فئات:
1- انتحار الرجال الّذين بلغوا عتبة الشيخوخة، أو أصيبوا بمرض.
2- انتحار النساء بعد موت أزواجهن.
3- انتحار الحاشية أو الخدم لدى موت زعمائهم(33).
والواقع أنّ الإنسان إذا انتحر، في جميع هذه الحالات، فليس لأنّه يملك الحقّ بالانتحار، بل لأنّ الانتحار، واجب عليه، "وإذا ما قصر في أداء هذا الواجب، فإنّ جزاءه سيكون الخزي والعار، بل إنّه ينال في أغلب الأحيان عقاباً دينيّاً أيضاً. لا ريب في أنّنا حين نتحدّث عن المسنّين الّذين ينهون، حياتهم بأيديهم، فنحن ميّالون إلى الاعتقاد، لأوّل وهلة، بأنّ السبب هو السأم أو الآلام الاعتياديّة في هذا السنّ" (34). ولكن إذا لم يكن لهذه الانتحارات سبب آخر، حقّاً، أي إذا كان الفرد يقتل نفسه فقط لكي يتخلّص من حياة لا تطاق فهو لن يكون ملزماً بفعل ذلك، فالمرء لا يكون ملزماً بالتمتّع بامتياز ما. ويسرد دوركهايم قائلاً: "لقد رأينا، بأنّه إذا أصرّ المرء الملزم بالانتحار على العيش، فسيفقد احترام جميع من حوله. وسيحرم من كلّ آيات التكريم المألوفة في الجنازات، وفي الآخرة يفترض أن تنتظره حياة معذّبة رهيبة، وعلى هذا الأساس، فإنّ المجتمع يضغط بثقله على هؤلاء الأفراد، ويدفعهم إلى الانتحار"(35).
ويرى دوركهايم في تحليله لهذه الظاهرة أنّ المجتمع يفرض على أفراده هذا النوع من التضحية، "فإذا كان يتوجّب على رجل الحاشية ألّا يعيش بعد زعيمه، أو الخادم بعد أميره، فذلك لأنّ بنية المجتمع تتضمّن، فيما بين البطانة وسيّدها، وبين الضبّاط وملكهم، علاقة تبعيّة شديدة إلى أقصى الحدود، تستبعد كلّ فكرة عن الانفصال. إذ يتحتّم أن يكون مصير الأوّل هو مصير الآخرين، ويتوجّب على الرعايا أن يتّبعوا سيّدهم أينما ذهب، وحتّى إلى ما بعد القبر، وكذلك ثيابهم وأسلحتهم، وإذا أمكن أن نتخيّل الأمر خلاف ذلك، فلن تكن علاقة التبعيّة الاجتماعيّة كما ينبغي أن تكون عليه " (36). وذلك أيضاً " هو حال المرأة تجاه زوجها. فإذا توجّب على المسنّين أن لا ينتظروا الموت، فذلك عائد على الأرجح، وفي العديد جدّاً الحالات، على الأقلّ، إلى بواعث دينيّة. فمن المفترض، في الواقع، بأنّ الروح الّتي تحمي العائلة تسكن داخل زعيمها. من جهة أخرى، ومن المسلّم به، أنّ إلهاً يحلّ في جسد غريب مشاركاً في حياة هذا الجسد، يمرّ عبر نفس أطوار الصحّة والمرض، ويشيخ معه في الوقت نفسه" (37). فلا يمكن " للعمر إذن أن يوهن قوى الأوّل من دون أن يوهن قوى الآخر في آن واحد، دون أن تغدو الجماعة، بالتالي مهدّدة في وجودها، مادام أنّها لن تعود محميّة إلّا بإله مجرّد من القوّة والبأس. لهذا كان من الصالح العامّ أن يضطرّ الأب إلى ألّا ينتظر نهاية أجله، كي ينقل إلى ذرّيّته الأمانة النفيسة الّتي تكفل بها" (38).
ففي بولينيزيا. غالباً جدّاً "ما تكفي إهانة صغيرة لأن تدفع رجلاً إلى الانتحار. "والحال على هذا المنوال لدى هنود أمريكا الشماليّة. إذ تكفي خصومة زوجيّة أو شعور بالغيرة لأن يقدّم رجل أو امرأة على الانتحار، ولدى شعوب الداكوتيّين أو الكريكيّين غالباً ما تدفع أقلّ خيبة أو إخفاق إلى اتّخاذ قرارات يائسة. ونحن نعرف بأيّة سهولة يشقّ اليابانيّون بطونهم بالسيف لأتفه سبب. ويروى أنّهم يزاولون، بصدد ذلك، نوعاً من مبارزة غريبة يتبارز فيها الخصمان ببراعة فائقة لا ليطعن أحدهما الآخر بنحو متبادل، بل ليشقّ كلّ منهما بطنه بسيفه الخاصّ. ويشار إلى أحداث مماثلة في الصين، في منطقة الكوشيين، في التيبت، وفي مملكة سيام. (39)
4-4- رابعا- الانتحار القدري (Fatalistic):
يرمز مفهوم القدريّة (Fatalistic) إلى الاعتقاد بأنّ الفرد يخضع لمصير لا يمكن تغييره أو تبديله، وأنّه يجب على الفرد أن يقبل المصير الّذي تأخذه إليه أقداره، ووفقاً لهذا المفهوم، فإنّ الأحداث الّتي تحيط بنا تحدّدها أقدارنا، وأنّه علينا قبول ما يكتبه علينا القدر دون اعتراض. ويبنى على ذلك الإيمان بمبدأ الحتميّة، الّذي يتمثّل في الاعتقاد بأنّ كلّ ما نقوم به يعود إلى أسباب خارجيّة تعلو على إرادة الأفراد وقدرتهم. وهذا هو حال هؤلاء الّذين يؤمنون بأنّ مصيرهم لن يتغيّر وأوضاعهم لن تتبدّل؛ لأنّ قوّة خارجيّة فرضت عليهم هذه الحتميّة، وأنّه لا سبيل أمامهم للهروب من القدر غير الموت والانتحار الّذي هو يشكّل قدرهم، ويرسم مصير وجودهم على نحو عدميّ.
ينجم الانتحار القدريّ عن السيطرة المفرطة للمجتمع على الفرد، وهو فعل الإفراط في التنظيم والضبط الاجتماعيّ، وينجم عن قمع الفرد وإذلاله ووضعه في مهاوي الاختناق ومساقط الاستلاب ومدارات القهر والعجز والقصور الّذي يدفع إلى اليأس الحتميّ المطلق. ويتمّ ذلك عندما يوضع الأفراد في دائرة من القيود والأوضاع القهريّة الفائقة الّتي تفقد الفرد حرّيّته، وتنتزع منه قدرته على التحكّم بمصيره وعجزه عن القيام بأيّ فعل للسيطرة على حياته. ومن أبرز الأمثلة على هذا الانتحار انتحار العبيد والسجناء والمقهورين والمهملين والمتسوّلين (40). وينجم هذا الانتحار أيضا في الوقت الذي يخضع فيه الأفراد لقواعد صارمة وضوابط حادّة تقع على روتين واحد، وتسير على إيقاعات نمطيّة صارمة لا تتغيّر ولا يمكن أن تتبدّل على مدى الأيّام والسنين، ومثل هذا الواقع الجحيميّ يفقد الأفراد الواقعين تحت سلطته الأمل في الحياة، وبوارق الأمل في المستقبل، فيقبلون على الانتحار، لأنّه لم يعد هناك أيّ أمل في المستقبل، أو حلم في الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة. ويرى دوركهايم بأنّ هذا الانتحار غالباً ما يكون أكثر شيوعاً بين السجناء. فعلى سبيل المثال: قد يرغب بعض السجناء في الموت عوضا عن العيش في سجون تعاني سوء المعاملة المستمرّة والإفراط في التنظيم. ووجد دوركهايم أنّ الأشخاص الّذين يفقدون بوارق الأمل في المستقبل، وقد أصبحوا يعيشون في أفق مغلق دون رحمة أو شفقة تعتريهم مشاعر خانقة وأحاسيس مدمّرة، ويقعون ضحيّة قنوط مطلق، وهم ينزعون بالضرورة القدريّة إلى الانتحار كخلاص وجودي لحياتهم المعذّبة وآمالهم المدمّرة وأوضاعهم المقهورة، ومثال ذلك العبد الّذي ينتحر بسبب اليأس المرتبط بالتنظيم القمعيّ لكلّ تصرّفاته وأعماله وحياته، وهذا يعني أنّ الإفراط في التنظيم والقمع يطلق العنان لتيّارات من الكآبة تؤدّي بدورها إلى ارتفاع معدّل الانتحار القدريّ.
5- الانتحار ومؤثّراته الاجتماعيّة:
لم يقف دوركهايم عند حدود الوصف العامّ لظاهرة الانتحار وتجلّياتها، بل عمل على تحديد أسبابها، ورصد المتغيّرات الاجتماعيّة الفاعلة فيها، واستطاع أن يقدّم تحليلاً متكاملاً لطبيعة التفاعل العميق بين الانتحار ومختلف الظواهر الاجتماعيّة والحقائق الاجتماعيّة الّتي تحيط بها.
وقد أبنّا في مقطع سابق أنّ دوركهايم انطلق مبدئيّاً في تناول تأثير حقيقتين اجتماعيّتين طاغيتين هما: التضامن الاجتماعيّ من جهة، والضبط الاجتماعيّ من جهة أخرى. وقدّم لنا كما سبقت الإشارة معادلة سوسيولوجيّة بيّن فيها أنماط العلاقة بين الانتحار بأنواع الأربعة ومعادلتي: الاندماج والضبط الاجتماعيّين. ولا بدّ لنا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ عوامل الانتحار والمتغيّرات الفاعلة فيه متشابكة متداخلة حتّى أنّه لا يمكن الفصل بينها بوضوح. فالدين بتداخل مع الأخلاق، والحداثة تتداخل مع الأخلاق والدين، وكذلك الدين والأخلاق يتداخلان مع الفرديّة والضمير الجمعيّ...الخ. وهذا يعني أنّنا عندما نبحث في عوامل الانتحار، فإنّنا نجد أنفسنا أمام كتلة واحدة متفاعلة متداخلة من المتغيّرات لا يمكن فصل بعضها عن بعض بصورة قطعيّة. ومن جديد فإنّ العلاقة بين المتغيّرات الّتي يبحثها دوركهايم تتداخل في دورة سبية دائريّة بين السبب والنتيجة، فكلّ متغيّر يكون سبباً للمتغيّرات الأخرى ونتيجة لها في الآن الواحد. وقد توسّع دوركهايم ليذكر لنا مجموعة من العوامل المؤثّرة في تحديد ظاهرة الانتحار أهمّها:
5-1- الحداثة والانتحار:
غالباً ما يضع دوركهايم الحداثة في قفص الاتّهام، ويحمّلها مسؤوليّة الويلات والمصائب والكوارث الاجتماعيّة الّتي لحقت بالمجتمعات الأوروبّيّة الحديثة في بداية القرن التاسع عشر. ويؤكّد دوركهايم في هذا السياق أنّ الحرب العالميّة الأولى والأزمات الاقتصاديّة والكوارث البيئيّة كانت نتاجاً للنموّ الحداثيّ الكبير الّذي شهدته أوروبا في العصر الحديث. ويرى في هذا السياق أنّ النقلة الحضاريّة للمجتمعات الأوروبّيّة من المجتمع التقليديّ إلى المجتمع الحديث أدّى إلى اهتزازات عميقة مخيفة في البنى، والتشكيلات الاقتصاديّة والتكوينات الثقافيّة والذهنيّة. ومن الطبيعيّ أن يحدث مثل هذا الخلل كنتاج طبيعيّ للتطوّرات الحادثة في مختلف أوجه الحياة ومظاهرها الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فالحداثة تشكّل الإطار العامّ لنموّ الفردانيّة، وكثافة تقسيم العمل القسريّ، وتفكّك الأسرة التقليديّة، وضمور الثقافة التضامنيّة، وتراجع الدين والمعتقدات الدينيّة، ونموّ النوازع الفرديّة والأنانيّة، ولا غرو أنّ المجتمع الصناعيّ الجديد حول الرأسماليّة إلى كيان متوحّش متعطّش للدم، والسلطة والربح والقوّة.
وفي هذا العالم الوحشيّ تتعطّل قوّة الأفراد الروحيّة، وتتداعى فيهم روح التضامن الاجتماعيّ، وتضمر مقوّمات التفاعل الإنسانيّ، وتغيب القيم الأخلاقيّة، وهذا الظواهر تشكّل المناخ المناسب لنموّ الفردانيّة، وتوليد العقد النفسيّة، وتعميق المشاعر الاغترابيّة الّتي تشكّل بدورها بيئة ملائمة للانتحار. وهذا يعني أنّ الحداثة المترافقة بالتقدّم الصناعيّ الرأسماليّ تشكّل بيئة خصبة تنمو فيها نوازع الانتحار عتد الأفراد. ويرى دوركهايم في هذا السياق أنّ الرأسماليّة عملت على تقويض القيم الاجتماعيّة وتهميش المثل العليا وهدم الأعراف الاجتماعيّة، فجعلت التكوينات الاجتماعيّة أكثر تعقيداً وغموضاً وتنوّعاً، وفي هذا العالم الرأسماليّ المتوحّش فقد الناس الحسّ المشترك، وتراجعت لديهم مشاعر الانتماء، وضمرت أواصر التعاون، وتراجعت قيم التفاعل الإنسانيّ الخلّاق (41). ولم يعد الفرد في ظلّ الحداثة المتوحّشة قادراً على التمييز بين الخير والشرّ، أو بين الصحيح والخطأ، بين النبالة والساقط، أو بين الشامخ الأصيل والوضيع الهابط، وأصبح كلّ يغنّي على ليلاه، تحت شعار دعه يمرّ دعه يعمل، يدعه يفكّر دعه يقرّر، دعه يموت وينتحر، وقد أصبحت النزعات الفرديّة والأذواق الشاذّة هي الحكم في كلّ مظاهر الحياة والأشياء، وقد نأى المجتمع، وأغمض عينيه عمّا يفعله الأفراد، وأصبح الفرد يعيش لنفسه، ويرسم لذاته حدود الحقّ والخير، دون أن يأبه للمجتمع أو أن يحسب له أيّ حساب.
وعلى هذه الصورة المشوّهة بدأ الأفراد يعيشون في ظلّ المجتمع الرأسماليّ بطريقة يشعرون فيها بأنّهم "مشوّشون، ومشتّتون، ومتعبون للغاية، ومشغولون للغاية، وغير متأكّدين ما يكون عليه الخطأ أو الصواب في كلّ ما يفعلونه أو يقومون به" (42).
لقد بيّن دوركهايم في كتابه " الانتحار أنّ معدّلات الانتحار تتصاعد بمجرّد أن تصبح الدولة دولة صناعيّة تخضع لنمط الإنتاج الرأسماليّ الاستهلاكيّ. ولاحظ أنّ معدّل الانتحار في بريطانيا في عصره بلغ ضعف معدّل الانتحار في إيطاليا الأقلّ تصنيعاً، وفي الدنمارك الأكثر تصنيعاً بلغت معدّلات الانتحار أربع مرّات أعلى منها في بريطانيا.
لا يقف دوركهايم عند حدود التأكيد على مؤشّرات العلاقة بين المدنيّة والانتحار، بل يلجأ إلى تقديم العروض الإحصائيّة الّتي تؤكّد هذه العلاقة بوضوح. لقد بيّن أنّ معدّلات الانتحار ترتفع مع زيادة درجة التحضّر والتصنيع، وأنّ الانتحار يتفاقم مع تقدّم الحضارة المادّيّة والصناعيّة، وأنّ الانتحار ضريبة التقدّم الحضاريّ. وفي المستوى الإحصائيّ يبيّن أنّ معدّل الانتحار قد ارتفع في بروسيا عامي (1826- 1890) إلى (411%)، وشهد هذا المعدّل ارتفاعه إلى (385 ٪) في فرنسا بين عامي (1826-1888)، ووصلت هذا الارتفاع إلى (318%) في النمسا الألمانيّة بين عامي (1840-1845) ويسرد دوركهايم لنا قائمة إحصائيّة مطوّلة تدلّ على معدّلات ارتفاع مذهلة مع التقدّم الصناعيّ والحضاريّ الّذي حقّقته البلدان الأوروبّيّة في مجملها، وهو في هذا السياق قد وجد بأنّ معدّلات الانتحار قد شهدت أعلى معدّلاتها في المناطق الأكثر تثقيفاً وتعليماً. وقد دفعه هذا إلى الاعتقاد بوجود رابطة قويّة بيّن بين تقدّم العلوم والمعرفة وارتفاع معدّل الانتحار، وقد وجد هذا التلازم بين الظاهرتين أي بين التقدّم العلميّ والانتحار(43).
ولكنّ دوركهايم مع ذلك يحذر من الخلط بين فكرة الترابط بين ظاهرتي التقدّم العلميّ والانتحار، ويرفض في هذا السياق أن يكون التقدّم العلميّ والحضاريّ سبباً للانتحار، ويرى بأنّ الانتحار لا يعود في أسبابه إلى الطبيعة الجوهريّة للتقدّم، بل إلى الشروط الخاصّة الّتي يتحقّق داخلها هذا التقدّم في أيّامنا هذه، وهذا يعني أنّ التقدّم العلميّ والانتحار ينجمان عن شروط حضاريّة متجانسة تحكم التقدّم العلميّ والحضاريّ في المجتمعات الغربيّة (44). وهنا أيضاً يهيب دوركهايم بنا بأنّه يجب علينا ألّا نستسلم ونبهر بتطوّر العلوم والفنون والصناعة الّذي نشهده اليوم. من المؤكّد جدّاً بأنّه (أي التطوّر) يجري وسط هياج مرضيّ يستشعر كلّ منّا عواقبه الوخيمة، من الممكن جدّاً إذن، بل من المرجّح أنّ الحركة التصاعديّة للانتحارات يعود أصلها إلى حالة مرضيّة تواكب الآن حركة تطور المدنيّة، ولكن دون أن تكون الشرط الضروريّ لهذا التطور (45). إنّ السرعة الّتي تتزايد فيها معدّلات الانتحار تؤكّد هذا الترابط العميق بين التقدّم العلميّ ومعدّلات الانتحار. وقد لاحظ دوركهايم أنّ هذه المعدّلات "تضاعفت في أقلّ من خمسين عاماً ثلاثة أضعاف، بل حتّى أربعة أو خمسة أضعاف حسب البلدان، ومن جهة أخرى، فنحن نعلم بأنّها ترتبط بما هو متأصّل بعمق، في بنية المجتمعات، مادامت تعبّر عن مزاج هذه المجتمعات. وما دام مزاج الشعوب، على غرار مزاج الأفراد، يعكس حالة البنية بما هو أكثر جوهريّة فيها" (46). ويتابع دوركهايم القول: "لا بدّ إذن من أن تكون بنيتنا الاجتماعيّة قد فسدت بعمق خلال هذا القرن كي تتمكّن من التسبّب بمثل هذه الزيادة في معدّل الانتحارات. والحال، فإنّه لمن المستحيل ألّا يكون فساد بمثل هذه الخطورة والسرعة في آن معاً مرضيّاً. لأنّ مجتمعاً من المجتمعات لا يمكنه أن يغيّر بنيّته بهذه الفجائيّة إلّا بسلسلة من التحوّلات البطيئة، وغير المحسوسة تقريباً، يتوصّل مجتمع ما إلى اكتساب خواصّ أخرى مختلفة" (47).
5-2- الدين والانتحار:
بين الدين والانتحار علاقة جدليّة عميقة وجوهريّة، وقد ركّز بقوّة هائلة على أهمّيّة الدين بوصفه أحد أهمّ مقوّمات التضامن والتكامل الاجتماعيّين. وتجدر الإشارة في هذا السياق أنّ دوركهايم كان علمانيّاً لا دينيّاً، واتّخذ موقفاً رفضيّاً للدين بوصفة قوّة خارجيّة مقدّسة، وألحّ في النظر إليه بوصفه ظاهرة اجتماعيّة. ومع ذلك وجد أنّ الدين يؤدّي دوراً حيويّاً في تحقيق التضامن الاجتماعيّ، وقد شعر بالقلق الكبير لتراجع دور الدين في المجتمع، وتأسيسيّاً على هذه الرؤية يمكن للدين أن يؤدّي دوراً مهمّاً في تحقيق السلام والأمن والتضامن في المجتمع. وقد بيّن لنا بأنّ التصوّرات الدينيّة تؤدّي دوراً هامّاً في تحقيق الإحساس بالأمن لدى الأفراد، وقد أعلى من الدور التخديريّ للدين بوصفه قوّة روحيّة تعطي للبشر تصوّراً بوجود أبديّ عادل ومنصف بعد الموت، وأنّ العدالة ستسود في العالم الأخرويّ، وهذا الأمر وظّف بقوّة في تخفيف آلام الناس ومعاناتهم، وجعلهم أكثر قدرة على التسامح والتفاعل الإيجابيّ أملاً بوجود القوّة الإلهيّة الّتي ستشرق على العالم عدلاً بعد أن فاض بالظلم والجور والبهتان.
وممّا لا شكّ فيه أنّ التصوّرات الدينيّة في مجملها تحضّ على التضامن والتسامح، وتقوّي الأمل وتضعف القدرات التمرّديّة والثوريّة عند المؤمنين والتابعين، وهذا من شأنه أن يزيد في دوافع التضامن الاجتماعيّ، ويقلّل من خطر الشذوذ الأنوميّ الّذي كان دوركهايم يحذّره أشدّ الحذر. ويبدو دوركهايم في هذه الصورة الدينيّة مناقضاً تماماً لماركس الّذي رفض التصوّرات الدينيّة الخادعة الّتي تجعل الناس أكثر استعداداً لقبول الأمر الواقع على عواهنه وعلّاته وجعلهم أكثر قدرة على قبول الظلم والقهر أملاً في الخلاص الأبديّ من شرور وآفاتها والانتقال إلى عالم روحيّ جنانيّ يفيض عدلاً وحبّاً وتسامحاً. وهنا تتجلّى رؤية دوركهايم الأيديولوجيّة الّتي يرى فيها أنّ اللامساواة واقع لا يمكن تغييره، وأنّ الظلم ظاهرة أبديّة في المجتمع، ولا يمكن القضاء عليه، ولذا يجب أن يتمّ القبول بالأمر الواقع، وأن يتعلّم الناس التعايش التضامنيّ دون ثورات أو تمرّدات أو محاولات للتغيّر الجذريّ في المجتمع(48).
وفي سياق آخر وجد دوركهايم أنّ الدين أوجد روابط روحيّة وإنسانيّة خلّاقة بين أفراد المجتمع، ومن وجهة نظر سوسيولوجيّة وجد أنّ الظالمين والمظلومين كما القاهرين والمقهورين كانوا دائماً يعبدون الإله ذاته، ويصلّون في معابد واحدة، ويشاركون في طقوس موحّدة، ويهزجون بالتراتيل الواحدة نفسها على إيقاع واحد، ويرفعون أيديهم بالدعاء إلى ربّ السماء الواحد، ويبتهلون بطريقة واحدة. ونظراً للقيمة التضامنيّة للدين وجد دوركهايم أنّ في غياب الدين تهديداً للمجتمع وتدميراً لبنيانه وتحطيماً لمقدّساته، وانطلق في ذلك ليرى بأنّ مأساة الحضارة تمثّلت في إزاحة الدين والتخلّص من تعاليمه في الزمن الّذي كانت فيه الحضارة في مسيس الحاجة إلى وظيفته التضامنيّة الخلّاقة الّتي يمكن لها أن تحصّنه ضدّ مختلف الانحرافات والشذوذات الاجتماعيّة الّتي تهدّد كيان المجتمع وتضامنه الداخليّ. وهذا يعني أنّ الحضارة الغربيّة تخلّت عن الدين، دون أن تستحضر البديل الروحيّ والأخلاق للمحافظة على المجتمع وتكويناته التضامنيّة.
فالدين والعقائد الدينيّة تشكّل منطقة عقديّة في سوسيولوجيا دوركهايم، وقد تناول بصورة مستمرّة تأثير الدين في مختلف أوجه الحياة الإنسانيّة ومساراتها الاجتماعيّة، ووجد في المحصّلة بأنّ الدين يفوق جميع العوامل الأخرى تأثيرا في ظاهرة الانتحار. وقد كثّف دراسته حول العلاقة بين الدين والضبط الاجتماعيّ، وتناول تأثير الدين بصورة خاصّة في عمليّة الانتحار، وأعطاه أهمّيّة كبيرة في مجال التأثير في مختلف أوجه الحياة الاجتماعيّة ومنها الانتحار. وفي هذا السياق حاول دوركهايم لها يستكشف دوركهايم معدّلات الانتحار المختلفة بين طائفتي البروتستانت والكاثوليك المسيحيّتين، وبحث في أسباب هذا الاختلاف وطبيعته الدينيّة.
يقارن دوركهايم في دراسته حول "الانتحار" بين معدّلات الانتحار في مختلف البلدان الأوروبية، ويقرّر بأنّ معدّلات الانتحار في البلدان البروتستانتيّة (بروسيا وألمانيا، وبريطانيا، ساكسونيا، الدنمارك) هي أكبر بكثير من معدّلات الانتحار في البلدان الكاثوليكيّة (إسبانيا، البرتغال، إيطاليا)، ووجد أيضاً أنّ نسبة الانتحار عند اليهود أقلّ بكثير منها في الطائفتين المذكورتين. وهكذا، ففي كلّ مكان، دون أيّ استثناء قدم البروتستانت من الانتحارات أكثر بكثير ممّا قدّمه أبناء الطوائف الأخرى، والفارق يتراوح بين حدّ أدنى يبلغ 20 إلى 30%، وحد أقصى يبلغ 300% (49). والجدول التالي يوضع معدّلات الانتحار وفقاً لمذهبي الكاثوليك والبروتستانت:
عدد الانتحارات في كلّ مليون ساكن سكّان وفق المقاطعة والمذهب الدينيّ(50)
ويتّضح من الجدول أعلاه أنّ الانتحار عند البروتستانت يعادل أربعة أضعاف معدّل الانتحار عند الكاثوليك. وهكذا، ففي كلّ مكان، دون أيّ استثناء، كانت معدّلات الانتحار بين البروتستانت أعلى من مثيلاتها في الطوائف الأخرى، والفارق يتراوح بين حدّ أدنى يبلغ 20 إلى30% (51).
ويردّ دوركهايم هذا الاختلاف في معدّلات الانتحار بين الكاثوليك والبروتستانت إلى قانون التضامن الاجتماعيّ، وانطلق في هذا التفسير من القول بأنّ الكاثوليك يتميّزون بدرجة أعلى من التضامن الاجتماعيّ مقارنة بالبروتستانت. ووجد أنّ الكاثوليك لديهم إحساس أقوى بهويّتهم الدينيّة ومكانتهم داخل المجتمع بالمقارنة مع المجتمعات البروتستانتيّة. وقد وجد أيضاً أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تتفوّق على الكنيسة البروتستانتيّة في قدرتها على التأثير والتغلغل في حياة أتباعها(52).
5-3- العلم والانتحار:
يرى دوركهايم أنّ الانتحار يرتفع في صفوف المتعلّمين عنه في صفوف غير المتعلّمين، ووجد أيضاً أنّ التقدّم العلميّ يترافق بزيادة معدّلات الانتحار، وهو مع ذلك ليس سبباً فيه، وبيّن أن الترابط بين التقدّم العلميّ ومعدّلات الانتحار هو ترابط زمني، وليس ترابطاً سببيّاً، وهذا يعني أنّ تراجع الدين والقيم الأخلاقيّة في المجتمعات الحداثيّة يتزامن مع التقدّم العلميّ، ولا ينتج عنه. وبعبارة أوضح نقول إن سبب زيادة معدلات الانتحار تكمن في تراجع القيم الدينيّة والأخلاقية، ولا تنجم عن التقدم العلمي؛ فالعلم بالنسبة لدوركهايم لا يقوّض الدين، ولا يؤدي إلى تراجع الأخلاق، ولكنّ انهيار الدين وانحساره يؤدّي إلى إيقاظ العطّش إلى المعرفة والطلب عليها. وهذا يعني أنّ العلم لا يسعى إلى تدمير الأفكار السائدة، بل يتقدّم ويفرض نفوذه؛ لأنّ الأفكار القديمة لم تعد مقبولة أو مشروعة(53).
ومهما يكن، فإنّ العلم لا يشكّل سبباً من أسباب الانتحار، بل قوّة يمكن للمجتمع أن يعتمدها في إيجاد الحلول للانتحار واعتماده للحد من الظواهر المرضية في المجتمع. وكأنّ دوركهايم يريد أن يقول إنّ تراجع الدين والقيم الأخلاقيّة يفرض على المجتمع أن يقوم بتشكيل الحياة الاجتماعيّة على أسس علمية، وذلك لأنّه عندما تموت الغريزة الاجتماعيّة، ويضمحلّ الدين وتتراجع الأخلاق، يصبح العلم والذكاء الإنسانيّ هما السبيل الأوحد الّذي يمكن للإنسانيّة أن تعتمد عليه لإعادة تشكيل ضميرنا الأخلاقيّ والإنسانيّ. ومهما كانت المهمّة محفوفة بالمخاطر، فلا يمكننا أن نتردّد، لأنّه ليس لدينا خيار آخر غير العلم والمعرفة العلميّة.
وينادي دوركهايم هؤلاء الّذين ينظرون بقلق وحزن إلى انهيار المعتقدات القديمة بالتوقّف عن إلقاء اللوم على العلم وتحميله مسؤوليّة الانهيار الأخلاقيّ، فالعلم، على العكس من ذلك كلّه، هو الأمل وهو القادر على إيجاد الحلول المناسبة! فالعلم ليس عدوّاً للإنسانيّة، بل هو سلاحها الوحيد الّذي يسمح لها بالنضال ضدّ الانحلال الأخلاقيّ الّذي أنتج اليأس والبؤس والانتحار(54).
وقد أوضح هذه العلاقة بين العلم والانتحار بقوله: "وبعيداً عن أن يكون العلم مصدراً للشرّ، فهو الدواء، والدواء الوحيد الّذي نملكه"(55). وعندما تتداعى المعتقدات السائدة، فمن الصعب إعادة توطيدها بنمو مصطنع." ولا يعود ثمّة ما يمكنه أن يساعدنا على السير في درب الحياة سوى التفكير. فما إن يدبّ الوهن في الغريزة الاجتماعيّة، حتّى يغدو العقل هو المرشد الوحيد المتبقّي خلاله ينبغي أن نعيد بناء وجدان. وعلى هذه الصورة، فإن غياب العلم أو تغييبه يعيدنا إلى التقاليد الغابرة. ويجعلنا أكثر عجزا وقصورا. من الصحيح أنّه ينبغي الحذر.... من النظر إلى المعرفة كهدف كاف في ذاته، حين أنّها ليست سوى وسيلة(56).
ومن الطبيعيّ أن ينبري دوركهايم للدفاع عن العلم والثقافة، وأن يبرّئ ساحتهما؛ إذ يرى بأن تزايد الانتحار في بين المثقّفين لا يفسّر بعوامل ثقافيّة، بل بضعف المعتقدات التقليديّة، وتراجع الحالة الأخلاقيّة الفرديّة الّتي تنجم عن هذا الضعف(57). ويستنج دوركهايم في السياق إنّ معدّلات الانتحار ترتفع مع تقدّم العلم، ولكنّ العلم لا يمكن أن يكون سبباً في هذا الارتفاع، فالعلم كما يقول "بريء من ذلك، وليس ثمّة ما هو أكثر ظلماً من اتّهامه بذلك(58). فالعلاقة بين تفاقم الانتحار وتزايد العلم ليست علاقة سببيّة، بل علاقة تزامنيّة لوضعيّة اجتماعيّة عامّة واحدة." فالإنسان يسعى إلى الاطّلاع وينتحر؛ لأنّ المجتمع الدينيّ الّذي هو جزء منه فقد تماسكه، ولكنّه لا ينتحر لأنّه تعلّم. وليست المعرفة الّتي اكتسبها هي الّتي خلخلت عقيدته، ولكن لأنّ عقيدته تخلخلت، فإنّ الحاجة إلى المعرفة قد استيقظت لديه. وهذه المعرفة ليست مطلوبة بوصفها وسيلة لتقويض الآراء المسلّم بها. بل لأنّ تقويض هذه الآراء قد بدأ.(59)
5-4- العقل الجمعي والانتحار:
يتجلّى العقل الجمعيّ (الضمير الجمعيّ) (Collective Consciousness) (60) في سوسيولوجيا دوركهايم على صورة نسّق من المعتقدات والتصوّرات والقيم والعواطف والمشاعر الجمعيّة المشتركة بين أفراد الجماعة، ويتميّز هذا الضمير باستقلاله عن سائر ضمائر الأفراد، ويشكّل قوّة أخلاقيّة واجتماعيّة تفرض هيمنتها على عقول الأفراد وضمائرهم. ويقوم المجتمع بتوظيف هذه القوّة في عمليّة الضبط الاجتماعيّ وتحقيق التضامن الفعّال بين أفراد المجتمع. وقد استخدم فرويد هذا المفهوم في مختلف أعماله ولاسيّما في تقسيم العمل، والانتحار، والأشكال الأولى للحياة الدينيّة.
يتميّز العقل الجمعيّ في منظور دوركهايم بوجوده القطعيّ المستقلّ عن عقول الأفراد، وهي يمثّل قوّة حقيقيّة واقعيّة تفرض وجودها في المجتمع كما تفرض القوى الكونيّة حضورها في الكون، وتمارس هذه القوّة تأثيرها في الأفراد من الخارج بطرق مختلفة. ويستدلّ دوركهايم على الحضور الطاغي للعقل الجمعيّ بمقارنة نتائجه الثابتة بنتائج القوى الفيزيائيّة، ويستدلّ على وجوده بالطريقة ذاتها الّتي يتمّ فيه الاستدلال على القوى الفيزيائيّة ولاسيّما ظاهرة الثبات في نتائجه. فحينما نلاحظ بأنّ عدد الوفيات يتغيّر تغيّراً طفيفاً جدّاً سنة إلى أخرى، فنحن نفسّر هذا التغيّر المطّرد بقولنا إنّ نسبة الوفيات تتعلّق بالمناخ، أو بدرجة الحرارة، أو بطبيعة التربة، وبكلمة واحدة، بعدد من القوى المادّيّة، والّتي، لكونها مستقلّة عن الأفراد، تظلّ ثابتة في حين أنّ الأجيال تتغيّر. وهكذا، فما دامت الأفعال المعنويّة كالانتحار تتكرّر بانتظام وثبات وإحكام، فلا بدّ لنا كذلك من الإقرار بأنّها تتعلّق بقوى خارجيّة غريبة عن الأفراد، ولكن بما أنّ هذه القوى لا يمكنها إلّا أن تكون معنويّة. ويقرّر دوركهايم بأنّ هذه القوّة هي قوّة المجتمع تحديداً أيّاً كان الاسم الّذي نطلقه عليها (عقل جمعيّ أو ضمير جمعيّ). ولا بدّ لما حسب دوركهايم من الاعتراف بالوجود الواقعيّ الحقيقيّ الموضوعيّ لهذه القوّة الّتي هي الضمير الجمعيّ أو العقل الجمعيّ، الّذي يمثّل قوّة تدفعنا من الخارج إلى الفعل، على غرار القوى الفيزيائيّة الّتي تؤثّر في معطيات الوسط الفيزيائيّ. ويركّز دوركهايم في هذا السياق على التكوين المعنويّ لهذه القوّة (العقل الجمعيّ) فالعقل الجمعيّ ليس قوّة مادّيّة، بل قوّة معنويّة من نوع خاصّ يمكن قياسها ومقارنتها بالظواهر الاجتماعيّة الأخرى بالطريقة ذاتها الّتي نقوم بقياس قوّة التيّارات الكهربائيّة أو المصادر الضوئيّة(61).
وينطلق دوركهايم في تأكيده على الوجود الموضوعيّ للعقل الجمعيّ على الإحصاءات المعنويّة ولاسيّما الإحصائيّات الّتي وظّفها منهجيّاً في دراسته للانتحار، ويتّخذ من هذه الدراسة دليلاً على وجود العقل الجمعيّ الّذي يحدّد أبعاد هذه الظاهرة وحدودها.
ويسير دوركهايم في هذا السياق إلى النقد المحتمل لرؤيته هذه حول العقل الجمعيّ، وإلى الانتحار بوصفه ظاهرة موضوعيّة يفرضها العقل الجمعيّ فيقول: "ما من شكّ في أنّ هذا الافتراض يخدش الحسّ العامّ. ولكن في كل الأحوال، الّتي كشف فيها العلم للناس عن قوّة مجهولة، واجه الريبة والجحود، فبما أنّه ينبغي تعديل نظام الأفكار السائدة، لكي تخلّي مكانها لنظام جديد للأشياء، وبناء مفاهيم جديدة، فإنّ العقول تقاوم بسبب كسلها واسترخائها. ورغم ذلك لا بدّ لنا من الاتّفاق، فإذا كان للسوسيولوجيا وجود، فلا يمكنها إلّا أن تكون دراسة عالم ما يزال مجهولاً. ومختلفاً عن العوالم الّتي تتحرّاها العلوم الأخرى. وعليه فإنّ هذا العالم ليس شيئاً إن لم يكن نظاماً من الحقائق الواقعيّة. ولكن لأنّ هذا التصوّر يصطدم بأحكام تقليديّة مسبقة، فقد أثار اعتراضات لا بدّ لنا من دحضها"(62). ويفترض هذا التصوّر، أنّ الميول والأفكار الجمعيّة هي من طبيعة أخرى مختلفة عن الميول والأفكار الفرديّة، وذلك لأنّ للأفكار والميول الأولى خواصّ لا تمتلكها الأفكار والميول الثاني، أي الجمعية.
ويؤكّد دوركهايم في هذا السياق على الوظيفيّة القمعيّة للعقل الجمعيّ الّذي يشكّل قوّة أخلاقيّة اجتماعيّة تعمل على كبح كلّ مظاهر الشذوذ الاجتماعيّ ولاسيّما الانتحار تحديداً. فالضمير الجمعيّ يمارس دوره في تحقيق التضامن والتماسك الاجتماعيّين، وحين يضعف العقل الجمعيّ، فإنّ معدّلات الانتحار تنحو نحو الزيادة والتكاثف. وهذا يعني أنّه حين يكون المجتمع مندمجاً بقوّة يعمل العقل الجمعيّ بوظيفته على أكمل وجه في ضبط سلوك الأفراد وتنظيم سلوكهم وأنماط وجودهم بطريقة يحافظ فيها على المجتمع ويحقّق تضامنه(63). وبعبارة أخرى يتصرّف الضمير الجمعيّ بوصفه القوّة القمعيّة الّتي تضع الأفراد في خدمته، وهو على هذه الصورة يمنع الأفراد من التصرّف على أهوائهم وأوهامهم، ويمنعهم أن يتملّصوا من واجباتهم الاجتماعيّة نحوه بالانتحار.
وفي مقام آخر يرى دوركهايم أنّ العقل الجمعيّ عندما يضعف لا يستطيع فرض سلطانه على الأفراد، ويفقد السلطة الضروريّة كي يبقيهم في مواقعهم الّتي يقتضيها الواجب، وعندما يضعف إلى هذه الدرجة، فإنّه يذهب إلى حدّ الاعتراف لهم بالحقّ في أن يفعلوا بحرّيّة ما لا يعود هو قادراً على منعهم عنه، وذلك داخل النطاق الّذي يغدو واضحا بأنّهم سادة مصيرهم ووجودهم، وأنّه يحقّ لهم بأن يضعوا نهاية لهذا الوجود(64).
ويبرز دوركهايم معاناة الفرد عندما يتمرّدون على العقل الجمعيّ "لأنّهم سيفتقرون إلى مبرّر لأن يتحمّلوا بصبر بؤس وجودهم، لأنّهم حينما كانوا ملتزمين حيال جماعة يحبّونها، تمسّكوا بالحياة بعناد وإصرار لكيلا يفرطوا بالمصالح الّتي كانوا معتادين على إخضاع مصالحهم الشخصيّة لها. أمّا الرباط الّذي يشدّهم إلى قضيّتهم العامّة، فهو يوثّق علاقتهم بالحياة، وفوق ذلك، فإنّ الغاية السامية الّتي وضعوها نصب أعينهم كانت تحول بينهم وبين التأثّر الشديد بمكابداتهم الخاصّة" (65).
ويعني هذا كلّه بأنّ الفردانيّة المفرطة لا تؤدّي فقط إلى تسهيل الانتحارات، بل هي معنيّة بتوليده(66). فالإنسان كما يقول دوركهايم: بحكم بنيته النفسيّة لا يمكنه العيش إذا لم يتعلّق بموضوع يتجاوزه، ويبقى بعده، والحياة كما يقال، لا تطاق إلّا إذا تبيّن المرء فيها مبرّراً لوجوده، إلّا إذا كان للحياة غاية تستحقّ العناء من أجل بلوغها، والحال فإنّ الفرد لا يشكّل وحده، غاية كافية لنشاطه، فهو شيء ضئيل إلى أقصى الحدود، وهو ليس فقط محدوداً داخل المكان، بل أنّه محدود بشدّة داخل الزمان. وحينما لا يكون لدينا إذن هدف سوى ذواتنا، فلن يكون بمقدورنا أن نتملّص من فكرة بأنّ جهودنا صائرة، في نهاية المطاف إلى الضياع في لجّة العدم، ما دمنا نحن صائرون إليها بالضرورة "(67). فالموت " يشعرنا بالرعب، وهكذا فلا يمكن ضمن هذه الشروط، أن نمتلك الشجاعة لأن نعيش، أي لأن نفعل أو نكافح، ما دام أنّه لن يبقى بالضرورة أيّ شيء من كلّ هذا العناء الّذي نتكبّده، وبكلمة واحدة، فإنّ الحالة الأنانيّة ستكون متناقضة التناقض كلّه مع الطبيعة الإنسانيّة، ومن ثمّ فهي أشدّ عرضيّة من أن تملك حظوظاً بالبقاء"(68). غير أنّ الافتراض، بهذا الشكل المطلق يظلّ قابلاً لكثير من النقاش. فإذا كانت الفكرة بأنّ وجودنا زائل بالضرورة مؤلمة جدّاً بالنسبة لنا حقّاً، فلن نستطيع أن نتقبّل العيش إلّا بشرط أن نتعامى، نحن أنفسنا عنها، وأن نكون رأياً قبليّاً حول قيمة الحياة. لأنّه إذا كان من الممكن أن نحجب عن أنظارنا هوّة العدم، فليس بإمكاننا أن نحول دون وجودها، ومهما فعلنا فلا مفرّ منها "(69).
5-5- الأخلاق والانتحار:
تجلّى اهتمام دوركهايم بالأخلاق والقيم الأخلاقيّة في كتابه المشهور التربية الأخلاقيّة (L'éducation morale ) (70). وهو يؤكّد في هذا السياق على الأهمّيّة القصوى للأخلاق والقيم الأخلاقيّة في تحقيق الضبط والتضامن والأمن والسلام في المجتمع، ووجد أنّ تراجع الأخلاق في المجتمع يؤدّي إلى الفوضى والعدميّة، فالأخلاق بما تنطوي عليه من قيم تؤدّي إلى التماسك الاجتماعيّ، وهذا بدوره يؤدّي إلى تراجع مبرّرات الانتحار ولاسيّما الانتحار الشذوذيّ الأنوميّ(71).
وقد أبرز دوركهايم في كتابه الانتحار العلاقة الجوهريّة بين الأخلاق والانتحار، ووجد أنّ تراجع الأخلاق يؤدّي إلى تعاظم معدّلات الانتحار، وقد أبلى في التأكيد على أنّ الانهيار الأخلاقيّ يشكّل أحد أهمّ وأبرز عوامل انتشار الانتحار في المجتمع، وتأسيساً على هذه الرؤية كان ينادي دائماً بتأصيل الأخلاق وترسيخ القيم الأخلاقيّة من أجل المحافظة على التضامن والتوازن الاجتماعيّين. وقد أوضح دوركهايم في كتابه الانتحار بأنّ الانتحار مؤشّر لبؤس أخلاقيّ مدمّر في المجتمع.
.5-6- الفردانيّة والانتحار:
شكّل عصر التنوير مهاداً حقيقاً لنموّ الفردانيّة (Individualism) وطغيانها، وهو نمط من الفردانيّة المفرطة الّتي الأفراد إلى التقوقع في كهوف الذوات الغريزيّة الأنانيّة، وقد ازدهرت هذه النزعة الفردانيّة، واتّسعت على حساب التضامن الاجتماعيّ والتكيّف الاندماجيّ للفرد في المجتمع. وممّا لا شكّ فيه أنّ مطارق التنوير استطاعت أن تدكّ حصون القيمة الأخلاقيّة والتصوّرات الدينيّة، وأن تضع الإنسانيّة في مواجهة عمياء مع النزعات الفرديّة المتوحّشة الّتي تتناغم مع نموّ في الروح الرأسماليّة الصاعدة الّتي لا تقيم وزناً إلّا لقيم الربح والثروة والسيطرة على حساب قيم التضامن الأخلاقيّ والإنسانيّ.
لاحظ دوركهايم أنّه في المجتمعات التقليديّة البسيطة، وعلى خلاف المجتمعات الحديثة، يترابط البشر فيما بينهم روحيّاً ونفسيّاً وأخلاقيّاً بتأثير الانتماءات الاجتماعيّة الكبرى، ويتفاعلون فيما بينهم تحت تأثير معتقداتهم الدينيّة وتصوّراتهم الأخلاقيّة، وهم يتفاعلون في النسيج الأخلاق والروحيّ لمجتمعاتهم، ويعيشون في ظلّ العقل الجمعيّ وتحت هيمنة الضمير الأخلاقيّ الموحّد للمجتمع. وعلى خلاف هذه الصورة التضامنيّة، فإنّ الإنسان في المجتمعات الصناعيّة الحديثة يسقط في دوّامة الفرديّة، ويصبح أسيراً لنمط الحياة الفرديّة المستقلّة، ومن هذا المنطلق يجب عليه أن يقرّر ذاتيّاً وبصورة فرديّة الكيفيّة الّتي يواجه فيه أمور الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعليه أن يحدّد مسارات سلوكه القيميّة والأخلاقيّة والوظيفيّة دونما العودة إلى أيّ من التصوّرات الجمعيّة الّتي تحدّد هذه المسارات في المجتمعات التقليديّة. فالفردانيّة تملي على الفرد أن يقرّر شخصيا بمفرده كيف يتزوّج؟ وكيف يؤمن؟ وكيف يعيش ويعمل وينتمي ويتحرّك؟ وأن يحدّد لنفسه الدين الّذي يعتنق، والوظيفة الّتي يتّخذ، والأيديولوجيا الّتي إليها ينتسب، والدين الّذي يعتنق، وهو في هذه الأحوال كلّها يتّخذ قراراته بصورة فرديّة، ويقرّر مصيره دون ضغط اجتماعيّ، أو توجيه اجتماعيّ، وعلى هذه الصورة القاتمة تكون حياة الفرد في المجتمعات الحديثة انعكاساً لذاته وتصوّراته الخاصّة. وهذا يعني أنّه في الوقت الّذي يواجه فيه المشكلات أو التحدّيات، الّتي تنجم عن قراراته الخاطئة، يجب عليه أن يتحمّل المسؤوليّة وحده، ولن يجد في الوقت نفسه من يتحمّل المسؤوليّة عنه، أو من يسانده في مجتمع طغت عليه الفرديّة، إذ يكون كلّ فرد لنفسه على مبدأ "اللّهمّ أسألك نفسي"، وعليه أن يتحمّل المسؤوليّة وحده دون غيره، لأنّه في دائرة هذه الفردانيّة يفتقر إلى مقومات التضامن الاجتماعيّ الحيويّ الّذي كان سائداً في المجتمعات التقليديّة. وهذه الوضعيّة الّتي يجد فيها المرء نفسه وحيداً في مواجهة التحدّيات والصعاب قد تضعه على حافّة السقوط في مهاوي الانتحار الّذي يزداد عنفاً مع درجة انتشار الفرديّة والذاتانيّة، وانكسار الفرد إلى ذاته في عالم يموج بالتحدّيات، ويتدفّق بالصعوبات والعقبات، وعلى هذا الأساس يربط دوركهايم بين نموّ الفرديّة في المجتمعات الحديثة وظاهر الانتحار.
ويسجّل دوركهايم مفارقة جديدة في هذا المستوى؛ إذ يرى بأنّ الفردانيّة المفرطة أو ضعف الفردانيّة يقودان أيضاً إلى الانتحار كما هو الحال عندما يرتفع منسوبها. فالإنسان عندما ينفصل عن المجتمع ينتحر بسهولة، وهو ينتحر أيضاً حينما يرتفع منسوب اندماجه في المجتمع(72).
5-7- العائلة والانتحار:
لاحظ دوركهايم أنّ الأسرة تؤدّي دوراً حيويّاً تضامنيّاً في المجتمعات التقليديّة، إذ تقوم الأسرة التقليديّة بالعمل على حماية أفرادها أخلاقيّاً ورعايتهم إنسانيّاً واجتماعيّاً، وغالباً ما تكون تتمحور مهمّة الأسرة في العمل على تحقيق التضامن الحيويّ والأخلاقيّ بين أفرادها، كما تعمل في الوقت نفسه على تقديم الدعم المادّيّ والاجتماعيّ لأفرادها، ولا سيّما في ظلّ الأزمات والصدمات والتحدّيات الّتي تواجهها الأسر في مسار تفاعلها مع المجتمع.
ويلاحظ في هذا السياق أنّ دوركهايم عاش في الزمن الحداثيّ الّذي بدأت فيه الأسرة بالضعف والتفكّك والانحلال تحت ضغط الفردانيّة وتطوّرات المجتمع الحديث الّتي مهّدت لولادة أشكال جديدة من الأسر الفاقدة لروح التضامن، مثل: الأسرة النوويّة الّتي منيت بمظاهر التفكّك، والطلاق، والهجر، وغياب الضوابط الاجتماعيّة والأخلاقيّة الّتي كانت سائدة في الأسر التقليديّة القديمة، وعلى هذه الصورة، فإنّ الأسر المفكّكة لم تعد قادرة على القيام بدورها التضامنيّ التقليديّ، ولا سيّما في مجال تقديم الدعم النفسيّ والأخلاق لأفرادها، وهذه الضعف الكبير في دور الأسرة وضع الأفراد في مواجهة فرديّة خاسرة مع المشكلات والتحدّيات الّتي يواجهونها، ومن المؤكّد أنّ استفحال هذه المشكلات وتنامي الصعوبات قد تجعل من الفرد نهبة لمشاعر الخزي والعار، وتنمّي فيه النزع إلى الانتحار. وعلى هذا النحو جعل دوركهايم من تفكّك الأسرة وتقادم قدرتها على الوفاء بالتضامن التقليديّ لأفرادها أحد عوامل الانتحار ومسبّباته. فالأسرة الممتدّة تقلّصت إلى صورتها النوويّة (أب وأمّ وأولاد) أحياناً، وإلى صورتها الأموميّة (أمّ عزباء بلا زوج) في بعض الأحيان، وكثرت مظاهر الطلاق والتفكّك في العلاقات الزوجيّة. والواضح في هذه الصورة أنّ الأسرة بدأت تتخلّى عن مسؤوليّاتها في اللحظة الّتي يصل فيها الأطفال نضجهم، ويبدأ الأطفال في هذه المرحلة بالاستقلال العنيف عن أسرهم، وتتنامى لديهم مشاعر الفرديّة الّتي تفصلهم كلّيّاً عن حياتهم الأسريّة، فيفقدون على إثر ذلك أواصر التعاون والتكافل والتضامن الّتي كانت سائدة فيما مضى، ويعيش كلّ منهم على هواه المتفرّدة، وحينها تظهر الصعوبات والمشكلات والمعضلات التربويّة حيث لا يجد الأبناء سندهم التربويّ الّذي كانت الأسرة تقدّمه لأطفالها في سابق الأزمان، والّذي يفترض بالأسرة أن تقدّمه لهم، فينتابهم شعور بالبؤس والاغتراب يتخلّله الميل إلى الانتحار في أوّل مواجهة صعبة غير متكافئة مع أمور الحياة وقضاياها الإشكاليّة (73).
5-8- صدّام الأحلام والواقع:
جاءت الرأسماليّة تحمل في جعبتها الوعود والآمال والأحلام، وقد زرعت في عقول الأفراد الأمل بتحقيق الحلم الرأسماليّ (الحلم الأمريكيّ) بإمكانيّة الوصول إلى الثروة والمال والرفاهية وتحويل الأحلام إلى واقع، واستطاعت أن ترفع من تطلّعات وطموحات الأفراد إلى المستويات الّتي تفوق الإمكانيّات، وتتجاوز حدود الواقع. وما أن يبدأ الأفراد مسيرتهم الحياتيّة حتّى يفاجئهم الواقع بمرارته والحياة الرأسماليّة بقسوتها، وعندها يدرك الأفراد المفارقة بين الحلم والواقع، يصابون بالصدمة الّتي تؤدّي بهم إلى التهلكة. وعلى هذه الصورة تعدّ الرأسماليّة الجميع بحياة الرفاه والحرّيّة والثراء، ولكنّ أحلام الجماهير وتطلّعات تصطدم بقوّة مع الواقع المرير المخيّب للآمال، لأنّ الرأسماليّة في جوهرها تجرّد الفرد من قيمته، وتصدم أحلامه وتجعله مجرّد سلعة رخيصة تباع وتشرى في سوق النخاسة الرأسماليّ.
فالرأسماليّة تضع الفرد في دائرة الأوهام والأحلام، وتعطي للفرد أهمّيّة كبيرة، واهمة إيّاه بالحرّيّة المزيّفة والقدرة الخادعة على تشكيل حياته كما يشتهي ويريد تحقيقاً للحلم ونيلاً للثروة والنجاح والمجد. وممّا لا شكّ فيه بأنّ الرسماليّة تتيح الفرص لبعض المحظوظين من الرأسماليّين، ولكنّها في الوقت تسحق الأكثريّة ولاسيّما أبناء الطبقات الفقيرة والمسحوقة الّتي تمنّيهم بالآمال والأحلام. ويجد الأفراد بعد حين أنفسهم في حالة الصدمة والذهول، إذ يجدون أنفسهم على هامش الحياة بعيداً عن حدود الحلم وأفق التطلّعات الزائفة للرأسماليّة الّتي تسحق كلّ شيء، وتحوّله إلى سلعة مغلّفة بعرق الكادحين ودمائهم. وهذه الصدمة الّتي تجسّد المفارقة الهائلة بين الحلم والواقع تضع الأفراد في دائرة الاغتراب والاستلاب والهامشيّة والخوف والذعر واليأس، وهذا الواقع المرير المؤلم الصادم، قد يدفع أصحابه إلى اليأس المطلق، ويأخذهم إلى مصير الفردانيّة المؤلم، وينزع بهم إلى الانتحار أحياناً. فالرأسماليّة تزرع في رؤوس الأفراد أنّهم قادرون على جمع المال ومراكمة الثروة وتحقيق النجاح المؤزّر في الحياة، وتدفعهم في الوقت نفسه إلى الانغماس المطلق في دائرة الاستهلاك ودورته الجنونيّة القاتلة، وهي بذلك تخدع أفرادها، وتدفعهم إلى دوّامة اليأس والقنوط. وباختصار، يرى دوركهايم أنّ المفارقة بين الحلم الرأسماليّ والواقع تؤدّي إلى خلق مناخ من الأوضاع النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي تشجّع على اليأس والقنوط ومن ثمّ الإقدام على الانتحار.
6- الانتحار- بعض النتائج:
تتكشّف دراسة دوركهايم عن الانتحار في نسق من النتائج المهمّة الّتي يجب أن يشار إليها في هذا السياق ومنها:
1- بيّنت دراسة دوركهايم أنّ معدّلات الانتحار بين المتعلّمين كانت أكبر من غير المتعلّمين. ويفسّر دوركهايم هذا الأمر بعدّة مستويات، ويبدأ بالقول إنّ العلم ليس سبباً، بل نتيجة. وأنّ المتعلّمين يصابون بصدمة الحلم والواقع عندما يجدون أنفسهم على هامش الحياة الرأسماليّة وخارج دائرة الطموحات الّتي رسموها لأنفسهم، وممّا لا شكّ فيه أنّ الوعي يشكّل قوّة نقديّة فارقة تجعل المتعلّمين أكثر حساسيّة للواقع وتأثّراً بمعطياته. وقد أجاد الشاعر في وصف هذه الحالة، إذ يقول: (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم).
2- وجد دوركهايم أنّ معدّلات الانتحار أعلى بين البروتستانت منها بين الكاثوليك، ووجد أنّ هذه المعدّلات تنخفض لدى اليهود إلى النصف بالمقارنة مع المسيحيّين بعامّة، ويرجع دوركهايم السبب كما أسلفنا إلى عمق التضامن الدينيّ عند اليهود والكاثوليك وضعف هذا التضامن في صفوف البروتستانت. وفي الوقت نفسه غالباً ما تكون نسب الانتحار أعلى بين الملحدين والعلمانيّين منها لدى المتديّنين بصورة عامّة. وركّز في هذا السياق على أهمّيّة التحريم الدينيّ للانتحار. وباختصار وجد دوركهايم أنّ البروتستانت ينتحرون أكثر من الكاثوليك، ويفسّر ذلك بأنّ الديانة البروتستانتيّة – كما أسلفنا- تعزّز الروح الفرديّة عند منتسبيها، وتمنح أعضاءها حرّيّة أكبر في تفسير الدين والالتزام بتعاليمه، ولذا فإنّهم قلّما يندمجون مع الكنيسة، ويأخذون بتعاليمها مقارنة مع الكاثوليك.3- ترتفع نسبة الانتحار بين الذكور أكثر من الإناث، وقد وجد أنّ الذكور لديهم ميل انتحاريّ أكبر مقارنة بالإناث، ووجد أيضاً أنّ نسبة الانتحار بين المراهقين أكبر منها بين الراشدين. كما هو موضح بالجدول التالي المقتبس من كتاب دوركهايم:
وقد وجد أيضاً أنّ نسبة الانتحار تكون أكبر بين العزّاب مقارنة بالمتزوّجين، وذلك لأنّ أنّ الزواج يحصّن الأفراد من الانتحار بما يمتاز من قدرة على دمج الأفراد في علاقات اجتماعيّة مستقرّة. الزواج المبكّر غالباً ما يؤدّي إلى الانتحار خاصّة بين صنف الرجال. ووجد أيضاً أنّ الميل إلى الانتحار يتراجع ابتداء من سنّ العشرين للمتزوّجين من الجنسين عنه من غير المتزوّجين. كما وجد أنّ نسبة الانتحار تقلّ بين النساء غير المتزوّجات عنها بين الرجال، لأنّ الرجال يستفيدون أكثر من علاقات من الزواج بالمقارنة مع النساء. ولاحظ أيضاً أنّ نسبة الانتحار تقلّ بين الأرامل بالمقارنة مع المتزوّجات. وأيضاً لاحظ بأنّ نسبة الانتحار تقلّ بين المتزوّجين الّذين لديهم أطفال عنها بين المتزوّجين الّذين ليس لديهم أطفال. ومن ثمّ فإنّ نسبة الانتحار بين الأرامل الّذين لديهم أطفال تقلّ عنها بين من لا يوجد لديهم أطفال. وأخيراً وجد أنّ نسبة الانتحار تقلّ كلّما زاد حجم الأسرة. ومن أجل تقديم مزيد من التوضيح حول هذه النتائج يمكن استعراض جدول دوركهايم التالي للعلاقة بين الجنس والزواج والعمر.
معدلات الانتحار بين الجنسين وفقا لمتغيرات العزوبية والعمر (74).
ويلاحظ من الجدول أعلاه أنّ نسبة الانتحار عند الذكور العزّاب أكبر بثلاثة أضعاف تقريباً منها عند الإناث العازبات. وأنّ هذه النسبة هي ذاتها بين الرجال والنساء العزّاب؛ إذ تربو معدّلات الانتحار عند الذكور في كلتا الحالتين (الزواج والعزوبيّة) وتستمرّ هذه النسبة والتناسب في معدّلات الانتحار في مختلف المستويات العمريّة مع زيادة ملحوظة في معدّلات انتحار الرجال مع تقدّم العمر.
وفي هذا السياق يرى دوركهايم أنّ الانتحار لا يتباين وفق متغيّر الحالة المدنيّة بين المتزوّجين والعزّاب والمطلّقين: فخلال أعوام (1880- 1887)، ازداد عدد انتحارات الأزواج بنسبة (35 ٪) بمعدّل (3706 حالة بدلاً من 2735 حالة)، في حين ازداد عدد انتحارات العازبين بنسبة (13٪) فقط (2894 حالة بدلاً من 2554 حالة). وما بين عامي (1863- 1868)، وتبعاً لحسابات (بيرتيللون) كان معدّل انتحارات الأزواج (154) في المليون. وبلغ عام (1778)، (242) انتحاراً بزيادة قدرها (57%). وخلال المدّة نفسها لم يرتفع معدّل انتحارات العازبين أكثر بكثير، فقد ارتفع من (173) إلى (289) بزيادة مقدارها (76 ٪)، وهكذا فإنّ تفاقم الانتحارات الّذي حدث خلال القرن كان مستقلّاً عن الحالة المدنيّة. لقد طرأت في الواقع. تغيّرات على بنية العائلة لم تعد تتيح لها أن تمارس نفس التأثير الواقي الّذي كان لها فيما مضى. ففي حين كانت العائلة قديماً تصون الحياة وتحافظ عليها(75).
6- وجد دوركهايم أنّ نسبة الانتحار في المدن أكبر منها في الريف، ويعود ذلك إلى مسألة التضامن الاجتماعيّ الّذي يكون فعّالاً في الأرياف والقرى والمناطق النائية؛ إذ تقلّ دورة الصناعة الرأسماليّة، ويعيش الأفراد في توائم اجتماعيّ وتضامن دينيّ وروحيّ.
7- ووجد أيضا أن معدلات الانتحار أكبر في الصيف منها في الشتاء، وفي النهار منها من الليل، وفي فصل الربيع أكثر منها في فصل الخريف. وقد لا حظّ دوركهايم أنّ الانتحار يشتدّ في الصيف، ويقلّ في الشتاء، ويبرّر ذلك بأنّ الصيف يشمل مناخاً لتصريف فائض النشاط البشريّ، وذلك لأنّ الصيف يتميّز بمناخه المناسب لهذا النشاط الانتحاريّ، وقد وجد أنّ عدد المنتحرين يزداد خلال هذا الفصل، في الوقت نفسه الّذي تتضاعف فيه جرائم القتل(76). ويبيّن الجدول التالي الّذي وضعه دوركهايم معدّلات الانتحار وفق البلد وفصول السنة:
معدل الانتحار وفقا للفصول السنوية (77)
وكما يتّضح في الجدول، فإنّ معدّلات الانتحار ترتفع في الصيف في مختلف البلدان المذكورة في الجدول، ثمّ تتراجع بدرجة أقلّ في الربيع يليها الخريف ثمّ الشتاء. وهذا يعني أنّ فصل الشتاء هو الفصل الّذي تنخفض فيه معدّلات الانتحار إلى أدناها. ففي الصيف كما يقول دوركهايم "يولد فائض من النشاط يحتاج إلى التصريف، ولا يمكن أن يظهر إلّا على صورة أشكال عنيفة، والانتحار هو أحد هذه التجلّيات (....) وذلكم هو السبب في أنّ الانتحار تزداد معدّلاته خلال هذا الفصل" (78). وتشي بعض الملاحظات كما يقول دوركهايم:" أنّ الحرارة تحرّض الإنسان على الانتحار، ويلاحظ أنه خلال الحملة الفرنسيّة العسكريّة على مصر، تزايدت معدّلات الانتحار كما يبدو في صفوف الجيش الفرنسيّ؛ وقد نسب هذا الارتفاع في معدّل الانتحار إلى ارتفاع درجة الحرارة (79).
7- طرق الانتحار:
لم يتوان دوركهايم في تحديد طرق الانتحار وكيفيّاته، فعمل على تحليل هذه الظاهرة من خلال توزّع حالات الانتحار وفقاً لمختلف الكيفيّات الّتي ينتحر بها الأفراد. ومن أجل التعرّف بشكل واضح قمنا باستعراض جدول دوركهايم عن طرق الانتحار السائدة في فرنسا دون غيرها. علماً بأنّ الجدول الأساسيّ يتضمّن عدّة دول أوروبّيّة وقد اكتفينا بالمعطيات الفرنسيّة؛ لأنّها تمثّل العيّنة الأوروبّيّة بإحكام، ويمكننا استخلاص الدلالة الّتي نسعى إليها دون الخوض في المقارنة الدوليّة.
عدد حالات الانتحار وفقا لمتغيري السنة والطريقة المستخدمة في الانتحار (80).
تبيّن القراءة للجدول السابق أنّ الخنق والشنق هو أكثر الوسائل استخداماً في عمليّة الانتحار يليه الغرق ثانياً، وعلى التوالي يأتي استخدام الأسلحة الناريّة في المرتبة الثالثة، ثمّ السقوط من الأماكن المرتفعة في المرتبة الرابعة والأخيرة. ويتبيّن من الجدول أنّ عدد حالات الانتحار قد ازدادت مع متغيّر السنوات ما بين 1872 إلى 1875. ولم يجر دوركهايم رصداً لتأثير الجنس في استخدام معدّلات الانتحار، ويجري الاعتقاد بأنّ النساء يملن إلى استخدام السموم والغرق والسقوط من الأعالي بدرجة أكبر من الرجال الّذين يميلون على استخدام الشنق والأسلحة الناريّة بالدرجة الأولى.
8- مواجهة الانتحار:
شكّلت التحريمات الدينيّة تاريخيّاً الوسيلة الأنجع لمقاومة الانتحار فالأديان في معظمها حاربت هذه الظاهرة، وصنّفتها ضمن الموبقات الكبرى في المسيحيّة واليهوديّة والإسلام، وفي مختلف الديانات الوضعيّة. وقد أثّرنا كثيراً من التشريعات الوضعيّة قد وضعت لمنع حدوث هذه الظاهرة، وقد وجدت بعض التشريعات الّتي أشرنا إليها قوانين رادعة ضدّ ظاهرة الانتحار. وقد ظهرت دعوات كثيرة تتعلّق بصكّ قوانين جديدة رادعة ضدّ الانتحار.
في مواجهة موجة الانتحار الطاغية في زمنه يتساءل دوركهايم عن الوسائل الممكنة لمواجهة هذا المدّ المتزايد لظاهرة الانتحار، ويقول في هذا الصدد متسائلا "وهكذا تتجمّع الدلائل لكي تكشف لنا عن التزايد الهائل الّذي حدث خلال قرن في عدد الموتى الإراديّين بوصفه ظاهرة مرضيّة، وهي تغدو في كلّ يوم أكثر تهديداً، فإلى أيّ من الوسائل نلجأ كي نتفاداها؟"(81).
يتناول دوركهايم هذه القضيّة، ويحاول في ضوء هذا السؤال أن يبحث في الكيفيّة الّتي يجب أن تعتمد في مواجهة هذه الظاهرة، ويبدأ باستعراض آراء بعض المفكّرين في منهجيّة مواجهة هذه الظاهرة، ويقول دوركهايم في هذا الخصوص: "لقد أطرى بعض الكتّاب العودة إلى العقوبات الرادعة الّتي كانت شائعة فيما مضى ونحن نعتقد، حقّاً، بأن تسامحنا الحاليّ تجاه الانتحار مسرف جدّاً في الواقع، فما دام أنّه يسيء إلى الأخلاق فلا بدّ من استنكاره بمزيد من القوّة ومن. الوضوح. وينبغي التعبير عن هذا الاستنكار بإشارات خارجيّة ومحدّدة، أعني بذلك العقوبات. ذلك أنّ تراخي نظامنا الردعيّ في هذا الجانب، هو بحدّ ذاته ظاهرة غير طبيعيّة"(82).
ومع ذلك يرفض دوركهايم دعوة الداعين إلى فرض عقوبات شديدة ضدّ المنتحرين إذ يقول: غير أنّ عقوبات قاسية إلى حدّ ما متعذّرة، لأنّ الضمير العامّ لن يتقبّلها(83). ويشير دوركهايم في هذا السياق إلى الجدل القائم حول الجانب الأخلاقيّ للانتحار؛ إذ يرى بعضهم أنّه فعل مضادّ للأخلاق، ويرى بعضهم الآخر أنّه فعل محايد لا يمكن وصفه بأنّه غير أخلاقيّ. وفي الأحوال كلّها يرى أنّ التساهل في النظر إلى الانتحار على أنّه أمر طبيعيّ مستحسن أخلاقيّاً أمر يؤدّي إلى تشجيع هذه الظاهرة، ويشجّع على تفاقم حضورها.
وفي الأحوال كلّها، فإنّ دوركهايم يتحرّك خارج النظرة الأخلاقيّة في تناوله للانتحار، ومن الواضح أنّه يتناول الانتحار بوصفه ظاهرة اجتماعيّة طبيعيّة ولاسيّما عندما تحدّث بنسب معتدلة، ولكنّها تصبح ظاهرة مرضيّة تهدّد المجتمع عندما ترتفع نسبها ومعدّلاتها. وقد لاحظنا أنّ دوركهايم قد بحث في مختلف العوامل والوضعيّات الاجتماعيّة الّتي تحيط بظاهرة الانتحار، ولاسيّما تلك الّتي تؤثّر في مجرياته ومعدّلاته. وقد وجد أنّ التخفيف من حدّة هذه الظاهرة لا يكون إلّا بالـتأثير في الجوانب الاجتماعيّة المؤثّرة فيها. وعندما يحدّثنا دوركهايم عن أنساق التفاعل بين الانتحار والظواهر الاجتماعيّة الأخرى مثل التضامن والتكامل الاجتماعيّين والدين والثقافة والعلم وحركة الحضارة وغيرها يصبح واضحاً لدينا السبل والوسائل الّتي يمكن اعتمادها في مواجهة الانتحار والتخفيف من غلوائه.
وقد ركّز دوركهايم في هذا السياق على أهمّيّة الأسرة والتربية الأسريّة، ووجد أنّ التربية هي الوسيلة الأنجع في خفض ميول الأفراد إلى الانتحار، لأنّ التربية تمارس أكبر تأثير في تشكيل طبائع الأفراد واتّجاهاتهم الاجتماعيّة والنفسيّة. ووفقاً لدوركهايم فإنّه من الضرورة بمكان ترسيخ قيم الحياة والذود عنها من خلال التنشئة الاجتماعيّة، وهو الأمر الّذي يجعل طباع الفرد أكثر يقظة وأوفى قدرة على تأكيد قيمة الحياة الإنسانيّة، ورفض كلّ ما من شأنه أن يدمّرها. وفي هذا السياق يستلهم آراء بعض المفكّرين في استعراض بعض التصوّرات الّتي يمكن الاستفادة منها في مواجهة الانتحار، ويسرد لنا رأي (مورسيللي) الّذي يرى بأنّ مواجهة الانتحار تكون تربويّاً في: "تطوير القدرة لدى الإنسان على تنظيم أفكاره ومشاعره بغية جعلها قادرة على متابعة هدف محدّد في الحياة، وبكلمة واحدة. تزويد المزاج الأخلاقيّ بالقوّة والطاقة"(84).
ومع الأهمّيّة الكبيرة الّتي يعطيها دوركهايم للتربية ودورها في التشكيل الأخلاقيّ للفرد، فإنّه لا يتردّد في الحديث عن عجز التربية ذاتها في الظروف الحضاريّة إذ يقول: "التربية ليست سوى صورة عن المجتمع وانعكاس له، فهي تحاكيه وتعيد إنتاجه بنحو مجمل، ولكنّها لا تخلقه. وهي لا تكون سليمة إلّا حين تكون الشعوب ذاتها سليمة ومعافاة، ولكنّها تفسد بفسادها، دون أن تتمكّن من التغيّر من تلقاء ذاتها. فإذا كان الوسط الأخلاقيّ فاسداً، على غرار أهله وأربابه الّذين يعيشون فيه، فلن يستطيع هؤلاء ألّا يتأثّروا به. وكيف يمكن أن نرسخ لدى هؤلاء الّذين يكونونه توجّهاً عن التوجّه الّذي نشؤوا عليه؟ فكلّ جيل جديد يتربّى على يد الجيل الّذي سبقه. لذا ينبغي أن يصلح الجيل السابق كي يصلح الجيل الّذي يليه. وهكذا فنحن ندور في حلقة مفرغة"(85). وفي هذا السياق يلمّح إلى دور بعض الشخصيّات التاريخيّة في إحداث التطوير الفكريّ والتربويّة في فترات تاريخيّة متباعدة، وهم أشخاص تجاوزت أفكارهم وتطلّعاتهم العصر الّذي عاشوا فيه، ومع ذلك فإنّ " إعادة بناء البنية الأخلاقيّة للشعوب لا يتمّ على يد فرديّات منعزلة، وأنّ التغيير لا يمكن أن يحدث دفعة واحدة على نحو سحريّ؛ وذلك لأنّ التغيّر الاجتماعيّ يرتبط بأوضاع اجتماعيّة ومقدّمات تاريخيّة ضروريّة لعمليّة التغيّر(86).
ومع أهمّيّة الدين بوصفه قوّة هائلة يمكنها أن توظّف في مواجهة الانتحار، فإنّ دوركهايم يرى بأنّ الأديان تأخذنا إلى ما لا تحمد عقباه ـ لأنّها – أي الأديان – "لا تستطيع أن تجمعنا إلّا في النطاق الّذي تنتزع فيه منّا الحقّ بالبحث الحرّ. والحال، فهي لم يعد لها، وحسب الاحتمالات كلّها، لن يعود إليها البتّة علينا ما يكفي من السلطان كي تحصل منّا على مثل هذه التضحية. ولا يمكن الاعتماد عليها إذن لعرقلة الانتحار"(87). ومع ذلك كما يورد دوركهايم: "إذا كان هؤلاء الّذين يرون في الإحياء الدينيّ الوسيلة الوحيدة لعلاجنا، إذا كانوا منطقيّين مع أنفسهم، فسيكون عليهم أن يطالبوا بإصلاح الديانات الأشدّ قدماً. فاليهوديّة تقي من الانتحار أكثر من الكاثوليكيّة، والكاثوليكيّة أكثر من البروتستانتيّة. ومع فإنّ العقيدة البروتستانتيّة هي الأكثر تحرّراً من الممارسات المادّيّة، وهي بالتالي، الأعظم مثاليّة، أمّا اليهوديّة، فعلى العكس، فعلى الرغم من دورها التاريخيّ، فهي ترتبط من جوانب عدّة بالأشكال الدينيّة الأكثر بدائيّة، وهكذا فإنّ التفوّق الأخلاقيّ والفكريّ للعقيدة لا يمكنه أن يمارس أيّ تأثير في الانتحار" (88). وعلى هذه الصورة يأخذنا دوركهايم إلى واقع عدميّ يبدو فيه أنّ التطوّر التاريخيّ بحداثته الرأسماليّة قد حطّم كلّ الأدوات الفعّالة الّتي يمكن اعتمادها في مواجهة الانتحار.
ومن المهمّ في هذا المقام أنّ دوركهايم يرى أنّه لا يمكن إيقاف الانتحار بصورة نهائيّة؛ لأنّه ظاهرة اجتماعيّة مرافقة للمجتمعات منذ الأزل، وهذا يعني أنّ المجتمع مسؤول وظيفيّاً عن هذه الظاهرة، فالعوامل الاجتماعيّة المسبّبة للانتحار موجودة دائماً وكذلك العوامل السيكولوجيّة، وبما أنّ السبب الحقيقيّ للانتحار موجود في المجتمع، ويكمن في أعماقه، فإنّ نسبة من الأفراد سينتحرون، ولن يتوقّف الأفراد أبداً عن استخدام الانتحار كوسيلة لإنهاء حياتهم البائسة. وعلى هذا يؤسّس دوركهايم أنّ الانتحار دائم ملازم للمجتمع حضوراً وغياباً، ولن تتوقّف مساراته أبداً. وعلى هذه الصورة أظهر دوركهايم أنّ الانتحار ظاهرة اجتماعيّة ملازمة للمجتمع ومتأصّلة في حياة البشر، وبين بوضوح الفرق بين مظاهر الانتحار الطبيعيّ والانتحار الأنوميّ الشاذّ.
وباختصار يمكن الاستنتاج بأنّ دوركهايم ركّز على دور التربية والتربية الأخلاقيّة في الـتأثير في المدّ المتسارع لظاهرة الانتحار؛ ولهذا الغرض وضع كتابه التربية الأخلاقيّة الّذي يتضمّن تصوّرات شاملة لتأصيل النزعة الأخلاقيّة في مواجهة التفكّك والانحلال في المجتمع. وحسبه أن أوضّح لنا بشكل واضح دور الظواهر الاجتماعيّة الّتي تحيط بالانتحار، مثل: الحداثة، وتراجع الدين والأخلاق، وضعف الضمير الجمعيّ، وغير ذلك من الظواهر المؤثّرة في زيادة معدّلات الانتحار.
9- نقد دوركهايم
لا يمكن لأيّ نظريّة مهما بلغ مجدها أن تمتنع عن النقد العلميّ والفكريّ، ومن الطبيعيّ أن تكون الجدّة الفكريّة والأصالة النظريّة منطلقاً للحركة النقديّة في مجال العلم والمعرفة. وكما يتّضح تاريخيّاً، فإنّ نظريّة الانتحار عند دوركهايم قد حظيت بحصاد نقديّ يتميّز بأهمّيّته وضرورته أيضاً. وقد أخذ على دوركهايم عدد كبير من الانتقادات نفنّدها على النحو التالي:
1- يرى كثير من النقّاد أنّ دوركهايم بالغ كثيراً في التأكيد على العوامل الاجتماعيّة ودورها في توليد ظاهرة الانتحار، وأنّه رفض تأثير العوامل البيولوجيّة والسيكولوجيّة في توليد هذه الظاهرة، ولكنّ مراجعتنا لكتّاب الانتحار والاطّلاع على مضامينه يبيّن لنا أنّ دوركهايم لم يتجاهل أهمّيّة هذه العوامل، وكان قد درسها وخصّص لها جانباً مهمّاً من عمله، ولكنّه ترك لعلم النفس أن يتناول الجانب النفسيّ في هذه الظاهرة، وقد ركّز على الجانب الاجتماعيّ من خلال معدّلات التأثير الثابتة لحركة المجتمع في إفراز هذه الظاهرة، ويمكن القول هنا بأنّ دوركهايم لم يهمل هذه الجوانب، بل جعلها نفسها نتاجاً للأوضاع الاجتماعيّة النفسيّة.
2- يرى بعض النقّاد أنّ دوركهايم اعتمد على معطيات باحثين سابقين له حول الانتحار ولاسيّما على دراسات كلّ من أدولف فاغنر وهنري مورسيلي، وقد أثّر هذا الاعتماد البيانيّ على مصداقيّة بعض المعطيات الّتي قدّمها دوركهايم في مجال الانتحار. ونحن نعتقد أنّ اعتماد دوركهايم على معطيات دراسات أخرى لا يقلّل من قيمة أبحاثه، بل يعطيها طابعاً علميّاً، ويؤكّد أنّ دوركهايم على اطّلاع كبير بمعظم الدراسات والأبحاث الّتي أجراها حول الانتحار، وتجدر الإشارة في هذا السياق أنّ دوركهايم اعتمد بشكل واسع على الإحصائيّات الدقيقة والمنظّمة حول الانتحار، وقد قام بتحليل هذه المعطيات بأدوات إحصائيّة وسوسيولوجيّة بالغة الدقّة والإحكام إلى الدرجة الّتي جعلت من منهجه في التناول طريقة مبتكرة ومتميّزة في علم الاجتماع المعاصر.
3- ومن الملاحظات في هذا السياق أنّ الاختلافات الّتي أعلنها دوركهايم حول معدّلات الانتحار بين الكاثوليك والبروتستانت يمكن تفسيرها بالطريقة الّتي يقوم فيها المعنيّون بتسجيل أو تدوين الإحصائيّات الخاصّة بالانتحار، فبعض البروتستانت يسجّلون "الوفيات المفاجئة" و"الوفيات الناجمة عنها بأسباب غير محدّدة، وهذا يعني أنّ هذه الوفيات لا تسجّل تحت تسمية الانتحار. ومن المهمّ في هذا السياق أنّ كثيراً من الأمور قد تؤخذ على البحث الاجتماعيّ، ولكنّها ربّما لن تغيّر كثيراً في مجراه، وقد لا نعرف الطريقة الّتي اعتمدها دوركهايم في معالجة هذه القضايا تحديداً، فقد كان دوركهايم يتناول الإحصائيّات الرسميّة المتاحة، ولا يستطيع ربّما التوغّل في التفاصيل الدقيقة لطريقة جمعها، ولكنّ حجم المفارقات الإحصائيّة بين البروتستانت والكاثوليك تفسّر عمليّاً تأثير الانفتاح البروتستانتيّ على الحرّيّة وضعف الضبط الكنسيّ على أتباعه في هذا المذهب.
4- وجد الباحثون لاحقاً أنّ الاختلافات البروتستانتيّة الكاثوليكيّة في الانتحار تبدو مقتصرة على أوروبا الناطقة بالألمانيّة، وقد شكّكوا في العوامل المؤثّرة في هذه الظاهرة، وقد بعضهم أنّ دوركهايم قد وقف على المظاهر الخادعة لعوامل الانتحار. فقد لا تكون هذه العوامل دينيّة، بل قد تكمن في عوامل ومتغيّرات حضاريّة غير دينيّة. وقد بيّنت دراستنا أنّ دوركهايم لم يغفل هذا الأمر، وقد قام بتحليله، وعمل على استكشاف أبعاد هذه المفارقة، وقام بتحليلها في كتابه الانتحار.
5- يرى جي دي دوجلاس (J.D. Douglas) من أشهر منتقدي نظريّة إميل دوركهايم- أنّ دوركهايم لم يفكّر في تحليل معنى الفعل الّذي أدّى إلى الانتحار، وأنّه رأى أنّ جميع أنواع الأفعال متشابهة بالنسبة لجميع حالات الانتحار. وفقاً لدوغلاس، الانتحار له معاني مختلفة في الثقافات المختلفة. على سبيل المثال، انتحار رجل الأعمال لإخفاق في المشروع الّذي تبنّاه يختلف تماماً عن انتحار المرأة وفاء لزوجها، وهذا يعني أنّ لكلّ فعل انتحاريّ له معنى اجتماعيّ مختلف ودافع وراءه. وهنا نعتقد أنّ دوركهايم ترك مثل هذه التفسيرات لعلماء النفس، إذ كان يرى أنّ الباحث الاجتماعيّ يجب عليه أن يحبّ عن قانونيّة الفعل، وأن ينأى وصفه وتأويله.
وباختصار يرى بعض النقّاد أنّ نظريّة الانتحار عند دوركهايم مدعومة بالحجج أكثر من الحقائق. وأنّها تعتمد على إحصائيّات غير كاملة، وتتعامل مع عيّنات صغيرة نسبيّاً. وقد شكّك دوغلاس في صحّة الإحصائيّات الرسميّة الّتي اعتمدها دوركهايم، وانتقد استخدامها في دراسته للانتحار. ومن المهمّ في هذا السياق أنّ دوغلاس أشار إلى أنّ كثيراً من حالات الانتحار تسجّل تحت عناوين الموت الطبيعيّ حرصاً على سمعة العائلة والشخص المنتحر، ولذا فإنّ كثيراً من الأهالي يحاولون إخفاء حالة الانتحار. وهذه الحالات وفقاً لدوغلاس قد تؤثّر في مصداقيّة النتائج وموضعيّتها، ومع ذلك فإنّ دوغلاس أثار هذه القضيّة، دون أن يقدّم لنا دليلاً علميّاً أو إحصائيّاً على درجة التحيّز الإحصائيّ في هذا المستوى، وهذا النقد افتراضات في عقل دوغلاس ولا يمكن اعتمادها حجّة قويّة على التحيّز الإحصائيّ في أعمال دوركهايم.
ورغم كلّ الانتقادات والاعتراضات الّتي وجّهت إلى دراسة الانتحار عند دوركهايم، فإنّ دراسة دوركهايم ما زالت تشكّل العمل السوسيولوجيّ الكلاسيكيّ الأهمّ في تاريخ الدراسات السوسيولوجيّة، وما تزال هذه الدراسة نموذجاً يستلهمه المفكّرون والباحثون في علم الاجتماع حتّى اليوم، ونعتقد أنّ تأثير هذه الدراسات سيأخذ مداه في المستقبل، وسيكون تراثاً فكريّاً لأجيال كثير من علماء الاجتماع الّذين لم يولدوا بعد.
10- خاتمة الدراسة:
شكّلت ظاهرة الانتحار الفضاء السوسيولوجيّ للإبداع الدوركهاميّ في تاريخ علم الاجتماع، واستطاع دوركهايم بجهوده الإبداعيّة أن يستكشف مختلف الأبعاد السوسيولوجيّة لظاهرة الانتحار بطريقة منهجيّة فذّة أصيلة، واستطاع أن يجعل من كتابه العبقريّ "الانتحار" إنجيل علم الاجتماع الحديث، وهو الكتّاب الّذي شكل أيقونة علم الاجتماع، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ دوركهايم جعل من هذا الكتاب فضاء سوسيولوجيا خصباً للنظريّة والمنهج في علم الاجتماع، وجعله مختبراً علميّاً لتطبيق نظريّاته في المنهج واختبار فرضيّاته السوسيولوجيّة مؤكّداً- فيه ومن خلاله- ولادة علم الاجتماع بوصفه علماً يحظى باستقلاله ومكانته بين العلوم الإنسانيّة طرّاً. وتأسيساً على هذه الروح المنهجيّة في التأسيس للظاهرة الاجتماعيّة بوصفها حقيقيّة سوسيولوجيّة برهن دوركهايم – رغم الصعوبات والتحدّيات المنهجيّة والفكريّة الّتي واجهته بأنّ الانتحار ظاهرة اجتماعيّة لا يستقيم فهمها إلّا من خلال النظر إليها بوصفها حقيقة اجتماعيّة راسخة التشكيل والتكوين. وعلى هذه المنهجيّة وجد دوركهايم، وأكّد بأنّ الانتحار يتجاوز المعطيات السيكولوجيّة والفرديّة للإنسان، كما يتجاوز ظروف الحياة الفرديّة الشخصيّة مثل فقدان الوظيفة، أو الطلاق، أو الإفلاس، أو غير ذلك من المعطيات الفرديّة. ومن هذا المنطلق وتأسيساً عليه نظر دوركهايم إلى الانتحار ضمن معطياته السوسيولوجيّة وحاول الكشف عن قانونيّته الاجتماعيّة، واستطاع في سياق ذلك أن يؤسّس لنظريّة ما زالت تدقّ الآفاق حول الطابع الاجتماعيّ للانتحار وحول القوانين الّتي تحكم مختلف مظاهره وتجلّياته.
وفي سياق تناوله لهذه الظاهرة استعرض أربعة أنواع رئيسة من الانتحار، واستطاع أن يربط بين هذه الأنواع والظروف الاجتماعيّة الخاصّة الّتي تولّدها. ومن المشوّق تماماً أنّ دوركهايم استطاع أن يدرس مختلف الظواهر الاجتماعيّة الّتي ترتبط بالانتحار مثل الحداثة وتقسيم العمل والأخلاق والفردانيّة والعائلة والتربية والعلم والدين وغير ذلك من الظواهر الاجتماعيّة الكبرى الّتي تناولها في علاقتها مع ظاهرة الانتحار.
ويلاحظ في هذا السياق أنّ دوركهايم أولى العلاقة بين الدين والانتحار اهتماماً كبيراً، فبحث في مختلف أشكال العلاقة القائمة بين الدين والانتحار، واستطاع أن يقدّم تحليلاً رشيقاً مشوّقاً لهذه العلاقة باحثاً في معدّلات الانتحار بين الأديان الوضعيّة والسماويّة. وبيّن في سياق نظريّته هذه أنّ الدين يحمي الإنسان من الرغبة في تدمير الذات؛ لأنّه يتضمّن عدداً كبيراً من التصوّرات والقيم والتوجيهات والمعتقدات والممارسات المشتركة بين المؤمنين الّتي تمارس دوراً في تمكين الأفراد نفسيّاً وروحيّاً من تقدير الحياة وتحريم الانتحار. وإلى جانب الدين أولى دوركهايم الأخلاق والقيم الاجتماعيّة أهمّيّة كبيرة في المحافظة على التوازن الاجتماعيّ ومناهضة الانتحار بوصفه ظاهرة انحرافيه تضرّ بالتضامن الاجتماعيّ والإنسانيّ.
وقد تطرّق دوركهايم إلى تأكيد بعض النتائج الميدانيّة للانتحار، واستخدم المناهج الإحصائيّة الدقيقة الّتي يفنّد فيها رؤيته لهذه الظاهرة في سياق الحياة الاجتماعيّة. ومن النتائج الّتي أكّدها أنّ الانتحار يحدث بين البروتستانت أكثر من الكاثوليك وبين اليهود بدرجة أقلّ من الاثنين معاً، وبين أنّ الانتحار يكون بين الرجال أكثر من النساء وبين العزّاب أكثر من المتزوّجين، وأنّ الانتحار يحدث في الصيف أكثر من الشتاء، وفي المدن المكتظّة أكثر من الأرياف، وبين الشباب أكثر من الكهول، وبين المتعلّمين أكثر من غير المتعلّمين.
وفيما يتعلّق بطرق الانتحار وجد دوركهايم أنّ الخنق والشنق هو أكثر الوسائل استخداماً في عمليّة الانتحار يليه الغرق ثانياً، وعلى التوالي يأتي استخدام الأسلحة الناريّة في المرتبة الثالثة، ثمّ السقوط من الأماكن المرتفعة في المرتبة الرابعة والأخيرة.
وفي مواجهة الانتحار يرى دوركهايم أن التحريمات الدينيّة كانت تاريخيّاً الوسيلة الأنجع لمقاومة الانتحار؛ لأنّ الأديان في معظمها حاربت هذه الظاهرة، وصنّفتها ضمن الموبقات الكبرى في المسيحيّة واليهوديّة والإسلام. وقد رفض دوركهايم دعوة الداعين إلى فرض عقوبات شديدة ضدّ المنتحرين؛ لأنّ العقوبات القاسية لا يمكن أن تحظى بموافقة الرأي العامّ. وهو في نظريّته يؤكّد أهمّيّة الأسرة والتربية الأسريّة، ويرى أنّ التربية هي الوسيلة الأنجع في خفض ميول الأفراد إلى الانتحار، لأنّ التربية تمارس أكبر تأثير في تشكيل طبائع الأفراد واتّجاهاتهم الاجتماعيّة والنفسيّة. وهو إذ يقرّ بأهمّيّة الدين في مواجهة الانتحار، فإنّه يرى الأديان لم يعد لها هذا التأثير في عصر الحداثة والميديا والإعلام ومع أهمّيّة الأطروحات التربويّة والأخلاقيّة، فإنّ دوركهايم يرى أنّ التطوّر التاريخيّ بحداثته الرأسماليّة قد حطّم كلّ الأدوات الفعّالة الّتي يمكن اعتمادها في مواجهة الانتحار. وقد وجدنا في هذا المدى أنّ دوركهايم يرى أنّه لا يمكن إيقاف الانتحار بصورة نهائيّة؛ لأنّه ظاهرة اجتماعيّة مرافقة للمجتمعات منذ الأزل، وهذا يعني أنّ المجتمع مسؤول وظيفيّاً عن هذه الظاهرة، فالعوامل الاجتماعيّة تؤكّد وجودها واستمرارها في المجتمع بوصفها ظاهرة ملازمة للوجود الاجتماعيّ.
وباختصار، وكما أشرنا أعلاه فإنّ دوركهايم يؤكّد دائماً على دور التربية والتربية الأخلاقيّة في جماح الانتحار وتعديل منسوبه في المجتمع، فالتربية الأخلاقيّة يمكن أن تشكّل الفاعل الأساسيّ في مواجهة التفكّك والانحلال في المجتمع.
وفي معرض نقد نظريّة دوركهايم الانتحاريّة، فإنّ دوركهايم لم يغفل عن هذه الانتقادات قبل حدوثها، وقد ركّز كثيراً على احتمالات الانتقاد، وواجهها بطريقة عقلانيّة ونقديّة أيضاً. ومنه نقده في التركيز على العوامل الاجتماعيّة، وهو يدرك أبعاد هذا التركيز؛ لأنّه تركيزه كان من أجل التأسيس لعلم الاجتماع وتحقيق استقلاله عن علم النفس وغيره من العلوم المحيطة به. وعندنا يأخذ النقّاد بأنّ دوركهايم تجاهل العوامل الفرديّة والنفسيّة في الانتحار، فإنّ هذا النقد مردود عليه في كتابه، إذ خصّص فصول متعدّدة في كتابه الانتحار للحديث عن العوامل الفرديّة والسيكولوجيّة. وقد وجدنا في حقيقة الأمر أنّ معظم الانتقادات الّتي وجّهت إلى نظريّته الانتحاريّة لم تستطع أن تخترق الجوهر العلميّ للنظريّة، وبقيت هذه الملاحظات سطحيّة، ولم تصل إلى العمق الفكريّ الّذي رسخه دوركهايم في نظريّته الانتحاريّة هذه.
ويبدو لنا أنّ نظريّة دوركهايم في الانتحار بقيت حتّى اليوم النظريّة الرائدة في علم الاجتماع، ولم يستطع أن تنظير آخر أن يتجاوزها أو أن يقلّل من أهمّيّتها وخطورتها، وبقيت على مدى القرن الماضي، وما تزال تأخذ مكان الصدارة في الدراسات الاجتماعيّة القائمة، وهذا يؤكّد أنّ عمل دوركهايم في هذا المجال كان أصيلاً وعبقريّاً حمل في ذاته هذه القوّة الفكريّة المنهجيّة الّتي تجعله من أكثر الأعمال أهمّيّة وخطورة في تاريخ النظريّة الاجتماعيّة على مدى القرن العشرين.
اضف تعليق