اختيار التطرف كان محكومًا برغبةٍ في الخروج من السياقات المتأزمة التي يعيشها المجتمع، واستمرارية هذه السياقات سيدفع أعضاء المجتمع إلى إعادة التفكير في جدوى المسار المتطرف. فالتكلفة المتزايدة للتطرف، وعدم قدرة أعضاء المجتمع على تحملها، يشكلان شرطًا أوليًّا لبدء مرحلة الاعتدال في دورة المجتمع...
م. د. خمائل شاكر الجمالي/مركز إحياء التراث العلمي العربي - جامعة بغداد
(بحث مقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية)
المقدمة
لقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالاستقامة والاعتدال ونهاهم عن الغلو والانحلال، و” إن الدين الإسلامي يعارض التطرف والتعصب، ويحترم التعددية الثقافية والدينية والحضارية وينبذ العنصرية”، ويدعو للاعتدال والوسطية والاعتدال أمر جوهري في العالم الحديث؛ ذلك أن عصر العولمة تتغير فيه الوقائع على إيقاعات أسطورية، ومعالم الحياة تتغير بمقاييس وسطية، إذ تتسارع الخطى وتتزايد الحركة والتنقل والاتصال، وحركات الهجرة وانتقال السكان على نطاق واسع، فضلاً عن التوسع الحضري وما يصاحبهما من تغير في الأنماط الاجتماعية. ولما كان التنوع ماثلاً في كل بقعة من بقاع العالم، فإن تصاعد حدة التطرف والعنف بات خطراً يهدد ضمناً كل منطقة، ولا يقتصر هذا الخطر علي بلد بعينه بل يشمل العالم بأسره.
والاعتدال ضروري بين الأفراد وعلي صعيد الأسرة والمجتمع المحلي، وأن جهود تعزيز الاعتدال وتكوين السلم الأهلي والتقدم الحضاري بات من المواقف القائمة على بناء المنظومة القيمية للهوية الوطنية الواحدة، وإصغاء البعض للبعض والتضامن والتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد؛ لذلك ينبغي أن تبذل في المدارس والجامعات وعن طريق التعليم غير النظامي وفي المنزل وفي مواقع العمل. وبإمكان وسائل الإعلام والاتصال أن تضطلع بدور بنّاء في تيسير الاعتدال والسلم الاهلي بصورة حرة ومفتوحة، وفي نشر قيم الاعتدال والسلم الأهلي وإبراز مخاطر اللامبالاة تجاه ظهور الجماعات والأيديولوجيات المتطرفة غير المتسامحة.
ويعدّ مفهوم الاعتدال من المفاهيم ذات الأهمية الأساسية في المجالات كافة، وتعدّ قيمه عناصر بنائية مشتقة من التفاعل الاجتماعي معبرة عن مكونات أساسية للمجتمع الإنساني، وتشير القيم بأنها تمثل انعكاسات فعلية لدى الإنسان أو تخلق لدية الرغبات والحاجات، من خلال سلوك الفرد.
ولأن حركة المجتمعات تتسم بالطبيعة الدائرية، ففي لحظة ما يحدث تراجع في مساحة التطرف المجتمعي، ويستعيد المجتمع اعتداله، وذلك لعدة اعتبارات أهمها النتائج التي ترتبت على المسار المتطرف، فاختيار التطرف كان محكومًا في المقام الأول برغبةٍ في الخروج من السياقات المتأزمة التي يعيشها المجتمع، ومن ثم فإن استمرارية هذه السياقات لفترات ممتدة واشتداد وطأتها سيدفع أعضاء المجتمع إلى إعادة التفكير مرة أخرى في جدوى المسار المتطرف. فالتكلفة المتزايدة للتطرف، وعدم قدرة أعضاء المجتمع على تحملها، يشكلان شرطًا أوليًّا لبدء مرحلة الاعتدال في دورة المجتمع.
ترسيخ ثقافة الاعتدال في المنظومة المجتمعية
إن الدولة بمفهومها الحديث لها أركان تقوم عليها، حسبما يرى العلماء المختصون، ومن أهم هذه الأركان المجتمع، لذلك يظهر تأثر المجتمع في بناء الدولة واضحاً، بل وحاسماً في قضية نجاح الدولة وفشلها، وباختصار تشير الوقائع والتجارب، أن المجتمع الناجح يصنع دولة ناجحة، والعكس يصح تماماً، لذلك يركّز العارفون في هذا الشأن على أهمية توازن المجتمع واعتداله، وابتعاده عن التطرف في الفكر والسلوك واتخاذ المواقف فلا يصح أن يكون حال المجتمع محصوراً بين الخنوع التام والعنف المطلق، بمعنى عندما يغيب السلوك الوسطي سوف يعيش المجتمع حالتين متناقضتين تماماً.
وهذا التذبذب بين الخنوع و العنف لا يمكن أن يسهم في صناعة دولة مستقرة، بمعنى أن المجتمع ينبغي أن يتخذ من الاعتدال والتوازن طريقاً للحياة وهذه مهمة النخب المعنية بهذا الامر، واذا تحقق ذلك مع مرور الزمن، فإن المجتمع سوف يكون في هذه الحالة صانع الاستقرار، وهو المحفّز على التغيير والابداع والتجدد، وهذا هو الطريق الأمثل نحو بناء الدولة المدنية المستقرة، ولكن عندما تغيب حالة الاعتدال في الفكر والسلوك المجتمعي، ويصبح المجتمع خانعاً أو عنيفاً بصورة مطلقة، فإن هذا المنهج لا يمكن أن يسهم في بناء دولة مستقرة تسعى الى التطور والتقدم، بل هذا الجانب سوف يؤكد فشل الدولة وتراجع المؤسسات المعنية في بناء المجتمع، وعدم قيامها بمهامها، فضلاً عن ضعفها وافتقارها للقدرة على البناء المجتمعي السليم، وهذه النتائج هي انعكاس حتمي لغياب الاعتدال المجتمعي. (عقيل، 2006، ص96)
ويفرز المجتمع نخبًا جديدة أكثر قدرة على تطوير خطاب معتدل يتعاطى مع مشكلات المجتمع بشكل واقعي دون الاستناد إلى خطاب المؤامرات الخارجية والتهديدات الدائمة. وفي السياق ذاته، يتم الاستقرار على صيغة إيجابية للانتماء الهوياتي تؤكد التعايش الجماعي، ولا تستلزم بالضرورة العنف والصراع مع الآخر؛ حيث يشير (هيجل) إلى "أن وجود الآخر ضروري وأساسي بالنسبة لي، فأنا لا أستطيع أن أكون حرًّا بمفردي، ولا أكون واعيًا بمفردي، ولا أكون إنسانًا بمفردي".
ويرى أهل التخصص أن ثمة جوانب وعوامل ودوافع هي التي تأخذ المجتمع نحو التعصّب والتطرف في الرأي العام او السلوك، أو تجعله مستكيناً وخانعاً لأصحاب القرار، وفي كلتا الحالتين سيكون المجتمع هو الخاسر، أما الخنوع فهو نوع من السلوك السلبي، قد يلجأ إليه المجتمع في ظل مصادرة الرأي، واستعمال النظام السياسي الحاكم للقسوة والقوة المفرطة، في مقارعة الرأي والفكر والكلمة التي لا تتفق مع ثقافة واهداف الحكم، فعندما يصادر النظام السياسي حرية المجتمع، يهدف من ذلك إلى حماية عرشه، ومكاسبه المادية المتمثلة بالنفوذ والجاه والقوة، والاستحواذ على المناصب والاموال، ونشر الفساد في مفاصل الدولة كلها، حتى يسهل على رموز السلطة سرقة الشعب ومصادرة حقوقه وحرياته، كل هذا يحدث بقوة القمع، وهذه الظاهرة تحدث في ظل الحكومات الفردية والانظمة المتسلطة. (زقزوق، 2002، ص 97-99)
لذلك هناك دور أساسي للحكومة في تحقيق هدف الاستقرار، وهذا في الحقيقة جزء من الحلول التي ينبغي أن تلجأ إليها الدولة والمجتمع معاً، لكي يتحقق نوع من التوازن، والابتعاد عن التطرف، لذلك على الحكومة أن تقوم بدورها على أفضل وجه، لدعم الاستقرار، عن طريق الإسهام بقوة ومنهجية في صناعة المجتمع المدني المتوازن، وهي قادرة على التعامل مع هذا الجانب الحساس بنجاح، فيما لو تم التخطيط له بفاعلية ونجاح، وتم تنفيذه بصورة دقيقة، حتى فيما يتعلق بدور المجتمع، هناك دور للحكومة في تنشيطه وتطويره، ولكن ينبغي أن يقوم ذلك على التخطيط المدروس والمنهجية العلمية.(جمال، 2009، ص 164)
ولا شك أن التعاون المتبادَل بين الحكومة والمجتمع سوف يقود إلى نتائج سليمة بخصوص بناء الدولة المدنية المتطورة، وهذا يستدعي أن تتحرك الحكومة وفق خطوات عملية مدروسة، وموضوعة من لدن خبراء ولجان متخصصة، لكي تساعد على منع التطرف وعدم انتشاره بين مكونات المجتمع، ولابد أن تعمل فعلياً على خلق أجواء وافكار الاعتدال في السلوك المجتمعي عموماً، وهذا لا يتحقق في ليلة وضحاها، إنما يحتاج إلى تأسيس وتطوير وتخطيط مسبق وصبر وعلمية في التنفيذ، وصولاً إلى صناعة الدولة الناجحة.
فالاعتدال وفق هذه المعطيات عامل فاعل في بناء المجتمع بتشكيلاته التقليدية والحديثة ومشجع على تفعيل قواعده. وهكذا نستخلص إن الاعتدال يستوجب الاحترام ويستلزم التقدير المشترك بين ابناء الوطن الواحد ويدعو إلى السلم الاهلي في المجتمع وتتقارب ويفرض التعامل في نطاق الدائرة الموضوعية من دون المساس بدائرة الخصوصية من غير إثارة لحساسيتها وانتهاك لحرمة ذاتيتها وهي دائرة تبادل المعارف والمنافع والمصالح والشراكة الفاعلة التي يعود مردودها بالخير على الجميع. (عيدان، 2006، ص 81)
وعلى هذا يعدّ الاعتدال قيمة تتأسس على التناغم داخل الاختلاف، فهو ليس تنازلاً ولا مجاملة بل موقف فعال يحركه الإقرار بالحقوق العالمية للشخص وبالحياة الأساسية. لأجل ذلك كله يعتبر الاعتدال مفتاح الدخول إلى حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية ودولة الحق والقانون. من جهة أخرى يتسم الاعتدال بالعديد من المميزات الخلقية من بينها ايجابيته؛ إذ لا يقف الأمر عند حد قبول الآخر، ولكن الاستفادة منه لاكتساب مشاعر الوحدة الوطنية وروح الأمل، انه بلا شك يتيح التعلم للعيش مع التنوع الاجتماعي بين ابناء الوطن الواحد ومع الآخرين المختلفين عنا في العرق والدين، والاهم من ذلك هو أن نمنح الآخر حق التعبير في ممارسة معتقداته الدينية عن أفكار وقناعات قد تتناقض مع ما لدينا من أفكار وقناعات، بل واحترام الحق في التعبير عن مقاصد قد تبدو لنا غير ذات قيمة أخلاقية. يدوري، 2012، ص 75- 78)
وهو بذلك يعبر عن الموقف الايجابي المتفهم للعقائد والأفكار والذي يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة على أساس شرعية الآخر سياسياً ودينياً، وعليه فالاعتدال هو امتزاج بين الفكر والأخلاق، وتعبير عن موقف فكري من جهة، وموقف أخلاقي من جهة أخرى، فالموقف الفكري يحدد طريقة التعامل مع المفاهيم والأفكار المغايرة على مستوى النظر، وموقف أخلاقي يحدد طريقة التعامل مع المفاهيم والأفكار المغايرة على مستوى العمل. (المحمداوي، 2014، ص 44)
أهمية الاعتدال:
لا شك في أن الاعتدال أمر ضروري وجوهري في المجتمعات الحديثة وفي واقعنا الراهن بكل ما يحمله من قيمة إنسانية عظيمة وان ثقافة الاعتدال ليست مجرد ترف فكري وإنما هي ووفق جميع الاعتبارات الأسلوب الأساس القادر على جعل المجتمع مكاناً صالحاً للحياة. والواقع التاريخي والمعاصر للعراق يكشف لنا أنه كان ولا يزال ملتقى الأديان السماوية، ومهد الحضارات العريقة، والعيش المشترك، وهي ميزة لم تكن إلا خلاصة تاريخ طويل لمجموعات من الشعوب، اتخذت من هذه الرقعة الجغرافية مقراً وموطناً لها، ومن طوائفها جامعاً مشتركاً تعرف به عن طريق ممارستها الدينية، والاجتماعية، والتربوية والسياسية، والاقتصادية، وغيرها.
والاعتدال هو ما يمكن أن يمارسه الأفراد أو الجماعات سواء في المجال العام على المجتمعات وسائر التجمعات الاجتماعية والحكومات والدول. (الخليل وآخرون، 1992، ص 29- 30)
وانطلاقاً من كون مفهوم (الاعتدال) مفهوماً عالمياً يشكل قاعدة للوحدة و الوسطية و للتفاهم والتخاطب والتحاور بين الشعوب والأمم والقوميات والأديان واتساقاً مع المنظومة الحضارية وتلافياً لأي فهم قاصر من الأنا تجاه الآخرين على تنوع الرق واللون والمعتقد واللغة والثقافة والدين والمذهب. (الجبوري، 2009، ص 29- 30)
أهداف الاعتدال:
ولأن الاعتدال يبنى على أساس الإقرار والقبول بالآخر مع وجود الاختلاف والتنوع، ولأنه في حقيقته خاصية وحاجة إنسانية، تتصل بإنسانية الإنسان الذي كرمه الله، بذلك تكون له أهداف نابعة من أهميته في الحياة الاجتماعية، وأهداف الاعتدال والحوار مع الآخر تتجلى في الوصول إلى الحقائق، أو القبول بالآخر لمصلحة الطرفين، فقد يشعر أطراف الصراع بأن تحدياً يواجه الجميع سوف تضعف مشاعر الكراهية والبغضاء وتتجه باتجاه آخر بدل توجهها نحو الداخل، ويمكن إبراز بعض هذه الأهداف ومنها:
1- التثقيف نحو الإيثار بكل شيء يسعى إلى لم الشمل والوحدة، وزيادة الوعي والمعرفة بكل ما من شأنه أن يبعد التفكير بالقضايا الخلافية الداخلية ومن ثم يضعف عوامل البغضاء والتعصب.
2- تهيئة وتفعيل الأفكار والآراء للتعامل مع القضايا الخلافية بأسلوب يتسم بالسلم الاهلي والمرونة، والترويج لتنمية الشعور باحترام الآخر، والاعتراف به وبحقه في ممارسة أفكاره، وعقائده بالطريقة التي يؤمنون بها.
3- التأكيد على أن ثقافة الإقصاء والتهميش واستخدام العنف ضد الآخر لن توصل أي الأطراف إلى بر الأمان، وهذا لن يكون إلا من خلال الاعتدال السلمي بين ابناء الوطن الواحد.
4- السعي لتفعيل دور قيم الاعتدال، عن طريق وسائل الإعلام بتجسيد الحوار والتسامح وتعزيز اللقاءات الصادقة وبنية حسنة لخروج الجميع سعداء من دون خسارة أي طرف. (المشهداني، 2012، ص 536)
أنواع الاعتدال:
للاعتدال أنواع تتركز بمجملها لصالح الفرد والجماعة ما لم تتصادم مع الثوابت العقائدية والفكرية ومن هذه الأنواع:
1. الاعتدال الديني:
يٌقصد به قبول واحترام المعتقدات الدينية والمذهبية الأخرى المختلفة والمخالفة، والتسامح تجاه معتنقيها، والاعتراف بحق المرء في تبني أية ديانة أو مذهب. (مراد ورزاق، 2012‘ ص 21)
وبموجب هذا التعريف يكون لأي فرد وفي كل الأديان حق ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية فهو يعني التعايش بين الأديان وحرية أداء ما يرونه، والتخلي عن التعصب المذهبي، قال تعالى ((إن الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من امن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) (المائدة: الآية 69). (حسين، 2010، ص 96)
كما تتجسد قيمة الاعتدال الديني في كونه يقتضي المساواة في الحقوق فالجميع يمتلكون الحقوق والوجود والدين والثقافة، فالغاية في الاختلاف هو التعارف لا التناكر، والتعايش لا الاقتتال، والتعاون لا التطاحن، والتكامل لا التعارض. إن أهمية الاعتدال الديني تتمثل في كونه ذا بعد وجودي، أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه.
ولتوضيح ذلك يمكن القول أن سنة الوجود قد اقتضت أن يكون وجود الإنسان على الأرض على شكل تجمعات بشرية، وهي وان اتفقت في ما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمع والحرص على البقاء والرغبة في التمكن من مقومات الحياة والسعي في إقامة التمدن والعمران والتوق إلى الارتقاء والتقدم فإنها قد تباينت في ما تتفرد به كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وبيئية وثقافية.
يتضح من ذلك أن الاعتدال الديني يتمثل في كونه يقتضي التسليم المطلق -اعتقادا وسلوكاً وممارسة- ويعد أرضية أساسية لبناء المجتمع وإرساء قواعده وهكذا فهو عامل بناء ومشجع على تفعيل القواعد ويستوجب الاحترام المتبادل والتقدير المشترك ويدعو إلى تعارف الشعوب ويفرض التعامل في نطاق الدائرة الموضوعية من دون المساس بدائرة الخصوصية ومن غير إثارة لحساسيتها وانتهاك لحرمة ذاتيتها. (عيدان، 2006، ص 8- 9)
وفي إطار هذه المعطيات لابد من التأكيد على أن تعدد الأديان مشيئة إلهية، ولا يجوز أبداً أن يجبر احد على ترك دينه والانتماء إلى دين آخر. تلك المشيئة التي لخصها الرب القدير في القران الكريم، مخاطباً نبيه محمد (ص) بقوله: ((وَلَو شَاءَ رَبُكَ لَأَمَنَ مَنَ فِي الأرضِ كُلُهُم جُمِيعاً أًفَأنتَ تُكرِهُ الناسَ حَتى يَكُونُوا مُؤمِنِينَ))) يونس:99، وأهم من هذا كله، أن ترى في الآخر الذي لا يدين بدينها إنساناً، تحترم إنسانيته، وتعمل على أن تحفظ له كل ما يجعل حياته عزيزة كريمة، لا يمسها سوء، ولا يصيبها أذى. (الحيدري، 2012، ص60)
وبهذا يكون التعايش والاعتدال الديني مفروضاً على مختلف المجتمعات الإنسانية، وبين مختلف الأفراد، والجماعات والشعوب، وبذلك يصبح حاجة أساسية لا تهتم فقط بالعلاقات بين الحضارات والأديان والشعوب بل تشمل المجتمعات من داخلها.
2. الاعتدال الاجتماعي:
الاعتدال هو بلسم العلاقات مع الآخرين، وروح الاتصال الصحيح ومن دونه تصبح الحياة جافة جدا وتفقد قيمتها ولا يصبح للاتصال معنى ولا روح وهو أساس مهم جداً في الاتصالات والعلاقات البشرية.(جمال، 2009، ص31)
ويرى العالم (رينسكي) أن الاعتدال الاجتماعي يتضمن من الناحية النفسية مبدأ المساواة في المعاملة (Equl Treatment)، وإن معظم البشر يجب أن يحصلوا على ما يستحقونه في الحياة وأن كل فرد يجب أن يعامل على وفق مفهوم المساواة؛ لأن الكل بشر، والأفراد المرفهون يجب أن يساعدوا من هم اقل حظاً.
أما(ديفسون) فقدّ أكد أن الشخص المعتدل اجتماعياً يكون فرداَ موجهاً نحو الآخرين أكثر من توجهه نحو الذات ويتميز بقابلية الصفح (Forgiveness) مع من اخطأ بحقه. (بروازي، 2010، ص25)
فالاعتدال الاجتماعي هنا يعني العيش مع الآخرين في سلام وتقبل أفكارهم وممارساتهم التي قد يختلف معها الفرد، والإقرار لأصحابها بحقهم في ممارسة كافة حقوقهم في المجتمع. وقد يكون هؤلاء الآخرون مختلفين في الأصل أو الجنس أو اللون، أو الدين أو اللغة، أو من أبناء الوطن الواحد ولكنهم مختلفون في الرأي والفكر والمصالح والعادات والتقاليد والتعليم والمهنة والمستوى الاجتماعي والاقتصادي، أو بعض الفئات الهشة كالمسنين أو المعوقين، كما قد يكون هذا الآخر إنساناً أو فكراً أو رأياً.
ويعدّ الاعتدال الاجتماعي من أهم القيم التي يتمحور حولها التنظيم الاجتماعي؛ لأنه اعتراف بالآخر على أساس إنساني بعد تجريد مرجعية التفاصيل من القيم العنصرية، والتجاوز عن الخلافات ومقابلة السيئة بالحسنة والعمل الصالح وتقديم يد العون والمساعدة، ونبذ روح التعصب والقسوة والعنف، ويكون ذلك عن طريق إقامة المناسبات ومشاركة أبناء المجتمع مع بعضهم البعض، وهذه مبادرات يمكن عن طريقها تقوية الأواصر والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد بعضهم مع البعض الآخر؛ لذلك يعد الاعتدال الاجتماعي من إحدى السمات الشخصية المرغوب فيها وهو شيء محبب لأنه ينطوي على تعزيز مشاعر الحب والمودة والاستجابات الايجابية المتمثلة بالأفكار التي ترفع من شأن الأفراد الآخرين، ويدعم الاعتدال الاجتماعي عن طريق العلاقات الاجتماعية وأشكال التفاعل الاجتماعي المرغوب فيها بين مختلف الجماعات التي تعيش في المجتمع الواحد أو في أكثر من مجتمع واحد مما يؤدي إلى اتسام هذا المجتمع بالتماسك، الذي يدفع به قدما في اتجاه النمو الحضاري والإنساني. (المشهداني، 2012، ص 537)
كما أنه حقيقة اجتماعية لا يمكن أن تتجسد من دون تطوير الثقافة المجتمعية التي تحتضن كل معالم وحقائق هذه القيمة وبالتالي فأن المسؤولية الاجتماعية الأولى هي العمل على تطوير ثقافة الحرية والتواصل وحقوق الإنسان ونبذ العنف والإقصاء والمفاضلة الشعورية بين أبناء المجتمع الواحد
ولكي يُبنى الاعتدال الاجتماعي وتسود علاقات المحبة والألفة وحسن الظن صفوف المجتمع ينبغي ان نعلي من شأن الثقافة والمعرفة القادرة على استيعاب الجميع بتنوعاتهم واختلافاتهم الاجتماعية والفكرية. وهذا بطبيعة الحال، يتطلب ممارسة معرفية واجتماعية مع كل ثقافة تشرع لممارسة العنف والتعصب، أو تبرر لمعتنقيها ممارسة النبذ والإقصاء مع الآخرين، فالاعتدال الاجتماعي لا ينمو ولا يتجذر إلا في بيئة تقبل التعدد والاختلاف، وتمارس الانفتاح الفكري والمعرفي، وتطلق سراح الرأي للتعبير والنقد.
من كل ذلك يتضح لنا أن الاعتدال الاجتماعي هو الذي يدعم العلاقات الاجتماعية وينمي الأشكال المتنوعة للتفاعل الاجتماعي المرغوب فيها بين مختلف الجماعات التي تعيش في المجتمع الواحد أو أكثر من مجتمع، وهو شيء محبب لأنه ينطوي على مشاعر المودة والحب والتفاهم. (احمد، 2010، ص 101)
الاستنتاجات
1- مفهوم الاعتدال من المفاهيم ذات الأهمية الأساسية، في التفاعل الاجتماعي ويعبر عن مكونات أساسية للمجتمع الإنساني، وأنه يمثل انعكاسات إيجابية فعلية لدى الفرد في التسامح والعيش السلمي.
2- ضرورة معرفة خطر التطرف والطائفية والاختلاف بين ابناء الوطن الواحد على الأحداث اليومية التي يمر بها مجتمعنا؛ إذ شكلت أرضاً خصبة لتنامي التطرف وعدم الوسطية والاعتدال.
3- وأن جهود تعزيز الاعتدال وتكوين السلم الأهلي والتقدم الحضاري بات من المواقف القائمة على بناء المنظومة القيمية للهوية الوطنية الواحدة، وإصغاء البعض للبعض والتضامن والتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد.
4- ينبغي أن تبذل كافة المؤسسات دورها في بناء تيسير الاعتدال والسلم الاهلي بصورة حرة ومفتوحة، وفي نشر قيم الاعتدال والسلم الأهلي وإبراز مخاطر اللامبالاة تجاه ظهور الجماعات والأيديولوجيات المتطرفة الغير المتسامحة.
التوصيات
1- دور الحكومة والجهات المسؤولة في معالجة التطرف، وذلك عن طريق تعزيز الثقة وبث روح الأمن والأمان والسلم الاهلي عن طريق الاعتدال و الحوار والتوعية الثقافية.
2- دور منظمات المجتمع المدني في إشاعة وتعزيز ثقافة الاعتدال بين ابناء المجتمع.
3- أن تكون مؤسسات المجتمع كافة مكان يزرع الاعتدال والوسطية والسلم الاهلي والأمن النفسي داخل نفوس ابناء المجتمع، بعيداً عن التطرف والعنف التي من شأنها تقليل الثقة بالنفس والمجتمع،
4- إقامة ندوات ومحاضرات تثقيفية من قبل الإعلام من شأنها أن تساهم في نشر ثقافة الاعتدال والوسطية والتسامح والسلم الاهلي بين ابناء المجتمع.
5- إعداد البرامج الدينية والإعلامية والاجتماعية التي تزيد من بث ونشر ثقافة الاعتدال والسلم الاهلي في المجتمع.
اضف تعليق