آية الله السيد مرتضى الشيرازي
يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). [1]
سيجري البحث في مسؤولية الجماعة تجاه الجماعات الأخرى، فقد تكون تلك الجماعة نقابة، أو اتحاداً، أو منظمة، أو هيئة خيرية، أو حوزة علمية، أو كلية، كلها تعد من مسؤولية هذه الجماعة.
ولابد قبل ذلك من التعرف على الأبعاد الأخلاقية والأسس الإنسانية لهذه المسؤولية الجماعية، فنقول: إن أخطر عدوّين تواجههما المسؤولية الجماعية هما (مرض محورية الذات) ومرض (صنمية الجماعة).
أ- مرض محورية الذات:
إن من أشد الأمراض خطورة وترسخاً في الأنفس مرض صنمية الذات وتأليها الذات، أو محورية الذات، وهذا يعني أن يرى الإنسان كل شيء بمنظار(الأنا) فيكون مثل الذي يضع نظارات داكنة سوداء أو حمراء، فكل شيء يراه بنفس اللون، على خلاف واقعه وحقيقته، وهو واقع يدفع للتفكير عن فائدة ذلك للأخرين.
فائدة الإمام الغائب:
وكمثال هام على ذلك، أن بعض الناس يفكر بطريقة أنانية وفي دائرة الأنا، فيطرح سؤالاً يكشف عن أنانيته والسؤال يتمحور حول ماهية فائدة الإمام الغائب المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) بالنسبة لنا؟ معتبراً نفسه - في الواقع - هي المحور، والحال إن أصل التفكير خاطئ في جوهره، فإن الإنسان الكامل ذو المستوى الرفيع لا يفكر بهذه الطريقة، أي إنه لا يفكر بالعوائد الشخصية عليه، فإذا أعطى لليتيم شيئاً لم يفكّر: ما هي فائدته لي؟ إذ إنَّ هذا تفكير أناني يكشف عن ضعف النفس وضعف الهمة، وعن كونه مستضعفاً عقلياً وفكرياً.
بل لتكن الفائدة للغير، فإذا بنيت المسجد أفكّر ما هي فائدته للناس؟ وإذا عدلت في الرعية أفكر ما هي فائدته للمجتمع؟ والسؤال الصحيح بالنسبة للإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو: ما هي فائدتنا له؟ لماذا يتمحور كل تفكيرنا حول الذات وكأننا نحن محور الكون، وأن كل شيء لابد ان تكون فائدته لي؟! ومثاله المبسط: إن الله سبحانه وتعالى خلق البرتقالة والتفاحة ونظائرهما من الفواكه للإنسان، ولم يخلق الإنسان للموزة والتفاحة أو للشاة والدجاج، مما يعني أن الأدنى خُلق للأعلى، لا أن الأعلى خلق للأدنى، فهل يصح للموزة أو البرتقالة- إذا كان لها أن تفكر- أن تقول ماهي فائدة الناس لي؟ فنقول لها: إن الله قد خلقك للإنسان؛ لأن الإنسان أشرف منك، ولم يخلق الإنسان لك.
إن الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو سيد الكائنات على الإطلاق، وهو الأشرف منا؛ لذا لزم أن نفكر ما فائدتنا له؟ وما الذي نتشرف بتقدميه له؟ وليس ما هي فائدته لنا؟!!
وهذا بحث جوهري وأساسي، ويدل على(شاكلة) الإنسان وحقيقته وعمقه. إن على كل منّا أن يغيّر طريقة تفكيره، ليبحث وفق منطق ما هي فائدته للآخرين؟ أي وفق منطق (العطاء) وليس (الأخذ)، ليبتعد عن مرض صنمية الذات، وتأليهها، ومحورية الذات لجهة حب الشهرة والسمعة أو الكرامة الشخصية، بدلا من الانتصار للدين، إن الكثير من الناس هو هكذا، إذا جرحت كرامته يظل يتلوّى كالأفعى، أما إذا جرحت كرامة الدين فلا يظهر أثر ذلك عليه. إذن، يجب تعديل المحور في المعادلة بما يتعلق بالفرد والجماعات أيضاً.
ب- مرض صنمية الجماعة:
المرض الثاني: أن كثيراً من الناس تجده مبتلى بصنمية جماعته، أو عشيرته أو حزبه وحتى شعبه، وذلك يعني أن صنمية وتأليه الجماعة تدعوه لأن يجتذب كل الخيرات لجماعته، على حساب الجماعات الأخرى، وهذا التفكير أناني تماماً، لكن الأنانية تارة تكون ضيقة في دائرة الفرد، وتارة في إطار جماعته، فيرى عشيرته دائماً على حق والبقية على باطل، ويرى حزبه دائماً على حق، والبقية على باطل، بل إنه حتى إذا عرف أن جماعته على باطل فإنه مع ذلك يقف إلى جانبهم، وهذا هو الداء العضال، والصحيح هو ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله): (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما). فقيل: يا رسول الله، هذا المظلوم، أي إن نصرته هي على القاعدة، فما بال الظالم؟ فقال: (صلى الله عليه وآله) أن تردعه عن ظلمه). فإن هذه هي النصرة الحقيقية له؛ لأنها تعبِّد له طريق آخرته، بل وتكفل له السعادة في الدنيا أيضاً، وعلى ذلك فإن القاعدة هي: إذا طغت جماعتك وتجبرت فعليك أن تقف بوجهها وليس معها أبداً!
عليه، فإن المرض الخطير الثاني في الأمم المتخلفة هو صنمية الجماعة أو تأليهها المجموعة ومحوريتها، وهو مرض عضال، وله تأثير مباشر في مساق البحث على مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني ؛ لأنه ينخر في البنية التحتية للمجتمع، وهي أخلاقياته وأخلاقيات مؤسسات المجتمع المدني.
إن إلغاء الصنمية وإلغاء المحورية وسحق الأنا، سواء الفردية أم الجمعية يجب أن تكون له الأولوية، فإن الصنمية مرض خطير يبعد الإنسان عن رضا الله سبحانه وتعالى، فكما أن الواجب على الإنسان أن يفكر في جماعته والنهوض بهم فكرياً وثقافياً، وإيمانياً إخلاقياً، اقتصادياً وسياسياً، كذلك من الواجب عليه أن يفكر في الجماعات الأخرى أيضاً، ويسعى للنهوض بهم، وإن على الإنسان أن ينطلق -أساساً- من الحب في الله سبحانه وتعالى، لا من الحب للجماعة، فهذا الإنسان ما دام مؤمناً فإن عليه أن ينهض أيضاً بواقع الجماعات الأخرى ما دامت مؤمنة، سواء أكانت قريبة أم بعيدة، وسواء أكنت عضواً فيها أم لم أكن.
(المتحابون في الله) البلسم لجراحات المجتمع المدني:
في رواية لها من الروعة ما لها، عن أبي حمزة الثمالي، وهذه الرواية ذكرت في الكافي الشريف، - والكافي الشريف كما هو معلوم يتضمن كنوزاً من المعرفة والعلم والحكمة والجواهر- يروي أبو حمزة الثمالي عن الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) أنه قال: (إذا جمع الله عزّ وجل الأولين والآخرين، قام منادٍ فنادى نداءً يسمع الناس، فيقول: أين المتحابون في الله، فيقوم عنق من الناس، فيقال: لهم اذهبوا إلى الجنة بغير حساب، فتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون إلى الجنة بغير حساب، فيقولون: فأي حزب أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابون في الله، قالوا: وأي شيء كانت أعمالكم، قالوا: كنا نحب في الله، ونبغض في الله، قال: فيقولون نعم أجر العاملين).
(إذا جمع الله الأولين والآخرين) في يوم القيامة، ذاك اليوم المهيب المخيف بشتى أبعاده، بل إن نفس اجتماع المليارات من الناس في مكان ما يعد أمراً مهيباً جداً، فكيف إذا كانوا في صحراء المحشر؟! ولعلّهم يكونون بمئات المليارات أو أكثر أو أقل، الله أعلم، (إذا جمع الله الأولين والآخرين قام منادٍ فنادى نداء يسمع الناس)، فيقول (أين المتحابون في الله)، وليس المتحابون في العشيرة، أو في الحزب، بل المتحابون في الله، أي أحبُّ هذا أو ذاك لأنه مؤمن، وأدافع عنه لأنه مؤمن، وأنصره لأنه مؤمن، (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، من أيِّ جماعة كانوا، وإلى أية مجموعة انتموا، (أين المتحابون في الله)، قال (فيقوم عنق من الناس) يعني مجموعة، (فيقال لهم اذهبوا إلى الجنة بدون حساب).
إن هؤلاء - المتحابون في الله - هم الذين لا تمتلكهم حزبيات، أو عشائريات، فإن التعصب العشائري باطل، والتعصب الحزبي باطل، والتعصب الفئوي باطل، يعني أن أعتقد بجماعتي وانصرهم حصراً، فالذي ليس كذلك، يعني ليست عنده حزبيات وفئويات بالمعنى السلبي (فيقال لهم اذهبوا إلى الجنة بغير حساب)، حيث لا حساب ولا كتاب؛ وذلك لأن (الحساب) في حد ذاته أمر مخيف، فإن الإنسان قد يخاف من القاضي أو الحاكم أو حتّى الشرطي الذي يريد أن يحاسبه، فكيف إذا كان الحساب أمام رب العالمين جلّ جلاله؟! خاصة وان الحساب دقيق و(الكتاب) لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، حتى الابتسامة الواحدة، إذا ابتسم أحدهم في وجه امرأة أجنبية، فانه يحاسب على ذلك، وللأسف فان كثيراً من الناس في الجامعة أو الشركة أو السوق ومحل العمل قد يفعل ذلك.
وقد ورد في الرواية (من فاكه امرأة أجنبية ألجم بلجام من نار)، والناس يعتبرون -المفاكهة- من الأمور البسيطة، في الغرب أو في الشرق، والحال أن كل شيء له حساب، حتّى الكلمة البسيطة نحاسب عليها، أما هؤلاء فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنة بغير حساب، ثم (فتلقّاهم الملائكة) أي تتلقاهم، فإنّ تلّقى تعني تتلقى مثل(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ) أي تتنزل، فيذهبون إلى الجنة بدون حساب، يعني إنهم يخترقون الحواجز كلها؛ لذلك فإن الملائكة الموكلين بأمر المحشر أو الواقفين أمام باب الجنة، يتعجبون من ذلك، لأنهم قدموا قبل الموعد، أي قبل موعد انفضاض الناس من ساحة المحاكمة المحشرية، والتي هي (فِی يومٍ كانَ مِقدَارُهُ خَمسِنَ ٲلفَ سَنَةٍ)، هؤلاء الملائكة يستغربون، (فيقولون إلى أين) إذ يرونهم إلى الجنة مسارعين (فيقولون إلى الجنة بغير حساب).
وهنا يتساءل الملائكة (أي حزب من الناس) ؟ وأي ضرب ونوع من الناس أنتم؟، (فيقولون نحن المتحابون في الله)، كنا نحب من نحب في الله، وليس في هوى جماعتي وحزبي وعشيرتي، وإذا كان ذلك كذلك فسنجد الإنسان العراقي ينصر الهندي، والهندي ينصر العراقي، والباكستاني أو الإيراني أو اللبناني المؤمن ينصر الآخر المؤمن؛ ليس لأن هذا من شعبه أو من جماعته وحزبه، بل لأنه مؤمن وحسب.
فيقولون: نحن المتحابون في الله، (قال: فيقولون: أي شيء كانت أعمالكم)؟
أي إنهم يسألونهم عن نوعية أعمالهم الصالحة (قالوا: كنا نحب في الله ونبغض في الله) نحب هؤلاء في الله، ونبغض أولئك في الله، فلوكان المنافق من عشيرتي فأنا أبغضه في الله، ولو كان هذا المخرب أخلاقياً من جماعتي فأنا أبغضه في الله، وقد يكون عضواً في جماعة تخريبية، أو قد يعمل في فضائية مفسدة، أو في أفلام فاسدة، حتى وإن كان من أخوته و عشيرته، فإن عليه أن يكون مبغضاً له في الله، وأن يقف بوجهه كذلك، (كنا نحب في الله ونبغض في الله.(
وكذا الأمر في الحكومات؛ إذ كثيراً ما تحابي الأحزاب الحاكمة جماعاتها، فتأتي بعضومن جماعتها إلى الوزارة أو الوظيفة؛ لأنه من أعضاء الحزب، رغم أن الحزب يعرف أنه ليس كفوءاً وبالمستوى المطلوب، ويستبعد الحزب ذاك الأخر المؤمن؛ لأنه من جماعة ثانية رغم أنه كفوء، وهذا يعني أنه لا يوجد حب في الله أو بغض في الله،
(قالوا: كنا نحب في الله ونبغض في الله، قال: فيقولون (أي الملائكة (نعم أجر العاملين) وللحق فإن هذا عمل صعب، أي ٲن يحب المرء في الله ويبغض في الله فقط، وهناك روايات أخرى عديدة في هذا المضمار، تذكر في مظانها.
والخلاصة: ان المرض الأول هو محورية الأنا، وتأليه الذات، وصنميتها، والمرض الثاني هو تأليه الجمع والحزب أو صنميته، فعلى الإنسان أن يتجاوز هذه الحالة.
من مقاييس التحابّ في الله:
وإليكم المقياس والمؤشر الآتي:
فإنه إذا كان أحدهم عضواً في هيئة أو في حزب، وحقق حزبه إنجازات فإنه سيفرح ويرفع رأسه عالياً، فهل سنفرح عندما يحقق الحزب الثاني المنافس إنجازاً؟ أو تلك الهيئة الثانية أو الحسينية أو المسجد أو المرجعية أو غيرها، إذا حققوا إنجازاً إيمانياً أو تقدموا واكتسحوا الساحة، فهل نفرح كما لو اٴننا نحن كنا الفائزين الناجحين؟
وكذلك هل نحزن إذا تعثرت جماعة منافسة لنا أو إذا مُني جمع من المؤمنين بهزيمة ما، من أي نوع كانت هذه الهزيمة، اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو غيرها؟ مع إننا نجد أن بعض الجماعات الثانية تفرح عندئذٍ وتشمت.
بينما الإنسان المؤمن عليه أن يحب في الله، ويبغض في الله، فإذا حقق الآخر إنجازاً فيعتبره نصراً له شخصياً؛ لأن الهدف هو خدمة الله، وخدمة أهل البيت الأطهار(عليهم السلام).
ولكن ما أصعب أن يحب الإنسان في الله، ويبغض في الله؟
إذن، لابد على الإنسان في مكنون نفسه أن يوجد هذه الحالة في أعماق ذاته، وأن يحس كأنه يطير بجناحين: أحدهما: جناح جماعته وعشيرته وحزبه ومرجعيته، وبما لا يخالف رضا الله تعالى، وثانيها: هو جناح بقية الجماعات بما يوافق رضا الله أيضاً؛ لأن الأمة لا تنهض بهذه الجماعة فقط، وإنما تنهض بالمجموع، وليس بهذه الحسينية وحدها أو بهذا المسجد أو بهذا الاتحاد أو النقابة لوحدها، وإنما تنهض بمجموعها، فالإنسان عليه أن يمنهج ويبرمج حياته على أن يطير بجناحين، هما جناح الأصدقاء وجناح المنافسين، أو جناح جماعته وجناح الجماعة الأخرى، فيحبهم ويمنحهم من عطائه أيضاً.
مقترحات عملية لتكامل مؤسسات المجتمع الإنساني:
وأقترح ثلاثة اقتراحات:
1- أن تخصص كل جماعة من الجماعات الإيمانية عشرين بالمائة من وقتها ومن وارداتها للجماعات الثانية، ولدعمها وتقويتها وتطويرها، فإننا، نلاحظ – عادة- أن كل جماعة أو هيئة تحاول أن تقوّي نفسها، وهذا ممتاز لا خلاف فيه، بل لابد أن نشجعه ونحرِّض عليه، ولكن ينبغي على كل هيئة أو جماعة وكل موكب وعشيرة وحزب أن تخصص عشرين بالمائة من طاقاتها لكي تقوي بقية الجماعات، والهيئات والمساجد، وبذلك تنمو مؤسسات المجتمع المدني وتتعاضد وتتقدم معاً بخطوات واثقة إلى الإمام.
بل نقول: إذا كان ذلك، فحتى لو كانت تفكر هذه الجماعة تفكيراً أنانياً- والعياذ بالله- فستكون أقوى بذلك! إذ ورد في الرواية: (من مد يده إلى الناس فإنما يمد إليهم يداً واحدة، ويمدون إليه أيادي كثيرة[2]) ؛ لأن الكل سيتعاون معه إذا تعاون هو مع الآخرين.
2- كما أن من المقترح، أن يسجل في النظام الداخلي لكل جماعة، ولكل هيئة و نقابة أو حزب أو أتحاد، بند يصرح بتخصيص عشرين بالمائة من الموارد المالية، والمكانة الاجتماعية والوساطة للإصلاح – وهو من أهم الأمور - ومن الوقت، ومن غيرها، من أجل النهوض بالجماعات الأخرى إلى الأمام، وأي تعاون على البر أسمى وأعلى من ذلك؟!
3- كما أن من المقترحات في هذا الحقل، أن تؤسس مجالس شوریٰ، أو ما يشبه البرلمانات، وفي الجماعات الدينية مثلاً في(المساجد) يكون لها برلمان يعدّ بمثابة مجمع للمساجد؛ لأن المسجد الواحد قد لا يستطيع أن يقضي على الفساد في البلد، لكن مجلس أئمة الجماعة في العراق – مثلاً- أو في مصر أو في غيرها يمكنه بالتعاون مع غيره أن يقضي على ظواهر سلبية، مثل المخامر والمقامر ودور البغاء وغيرها.
وكذلك الحسينيات لو تعاونت وتكاتفت وكوّنت مجمعاً شوروياً، وكذا الأحزاب الدينية والوطنية في مختلف بلاد الإسلام لو تعاونت في مواجهة الاستعمار، والاستبداد، ومكافحة سياسة التجهيل وتكميم الأفواه، فسيحدِث ذلك تطوراً كبيراً في فاعلية وأداء مؤسسات المجتمع المدني؛ إذ ستكون قدرة كل مؤسسة من هذه المؤسسات على مواجهة الاستبداد والظلم أكثر فأكثر فأكثر؛ لأن (يد الله مع الجماعة).
حجم التحديات يفرض التعاون والتكامل:
ومما يؤكد ذلك أن حجم التحدي كبير جداً، وإن الإنسان لا يعيش في جزيرة منعزلة له أن يفعل فيها ما يشاء، ولو في الجملة، لكننا نعيش في عالم فيه الجماعات الأخرى متكاتفة متعاونة حتّى(السحرة)!
فقبل فترة، اجتمع السحرة من أنحاء العالم، وعقدوا مؤتمراً لهم لثلاثة أيام، في بريطانيا، حيث اجتمع أربعة آلاف ساحر، وكانت أهدافهم المعلنة هي البحث في كيفية تطوير سحرهم، هكذا وبشكل رسمي، والغريب أن مؤتمرهم هذا مستمر سنوياً!.
فالسحرة الذين هم في ضلال لهم هذا المقدار من العقل، فعلى الرغم من باطلهم إلا أنهم يسعون إلى التطوير عبر المؤتمرات والتشاور والتعاون، فكيف بنا نحن المؤمنين، الذين أمرنا الله تعالى بصريح القول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)؟
إننا إذا عرفنا أنَّ حجم التحديات كبير جداً، وأن الأخطار التي تداهمنا هي فوق أن نتصور، وأن الدول الكبرى والاستعمار والأيادي الخفية تشتغل – ليل نهار- وتعمل للإفساد، ليل نهار لتغيرت حالتنا الفردية كثيراً.
ولنضرب مثالين عن تخطيطهم الشيطاني المدروس:
أ- في إحدى المدن المقدسة وبالقرب من المشهد المقدس، كانت تباع هنالك بعض الأقراص المدمجة (السيديات) الفاضحة المفسدة أخلاقياً، وبسعر مدعوم، فمثلاً: القرص الذي كانت قيمته - مثلاً- عشرة في السوق كانوا يبيعونه بواحد، ثم اكتشفوا بعد فترة أن هذا العمل مدعوم من جهات دولية معينة، كانت تريد أن تفسد هذا البلد.
ب- وكذا(المخدرات) من هذا القبيل، وقد وصلتنا أخبار- لا أرغب في ذكر تفاصيلها الآن- عن بعض المناطق التي يعيش بها أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، حيث إن الدولة الظالمة التي هي على خط آخر بدأت وفق منهج وبرنامج مركز، لأجل سحب أولئك الشباب إلى حبال وشباك مهربي المخدرات، وإلى متعاطي المخدرات بتخطيط متعمد، وهذا يعني أن الأمر ليس عادياً، والأمور لا تجري هكذا، وإنما الشيطان وحزبه وجمعه يخططون على مر التاريخ، وفي مقابلهم ينبغي على المؤمنين والأولياء أن يخططوا لمجابهتهم بحكمة ودقة وتعاون وتعاضد ومثابرة.
إذا تقوقعت كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني على نفسها، ولم تمد يد العون إلى الجماعات الثانية، ولم تمد الجماعات الأخرى يديها إليها فستبقى ضعافاً كلها، والأمير(عليه السلام) يقول: (فيا عجباً عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم.[3])
إذن، ينبغي على الإنسان أن يضع هذه القضية نصب عينيه، وهي: إن على مؤسسات المجتمع الإنساني أو الإيماني أو المدني مسؤولية جوهرية بالقياس إلى الجماعات الأخرى، تطويراً وتنزيهاً ودعماً وتقوية، وللبحث صلة.
مبنى الولاية المتبادلة في مهام المجتمع المدني
مقاربة بحثية لمعاني مفردة الولي:
من الضروري التدبر في كل مفردة من مفردات الآية القرآنية الكريم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) لنصل إلى تصور أشمل وأعمق للأساس الدستوري العام للمجتمع المدني، من زاوية النظرة الإسلامية القرآنية، خاصة مفردة (ولي) فقد ذكرت لكلمة (ولي) معان عديدة[4].
فالولي قد يراد به القيم والوصي، و(علي ولي الله) يعني أنّه (قيّم ووصي وذو الولاية) من قبل الله تعالى على الأمة.
وكما لو قلنا: إن الأب ولي الأطفال، فهذا يعني إنه قيّم عليهم، أو الزوج ولي الزوجة بمقدار الولاية التي له عليها، أو بالنسبة إلى القصر والغيب، وما أشبه، حيث إن الفقيه ولي عليهم، فالولي يراد به القيّم، ويراد به من له السلطنة والقيمومة ومن له الولاية.
وأما ولي الأمر بقول مطلق ومن كل الجهات فهو الرسول الأعظم والأئمة المعصومون (عليهم السلام)، فولي الأمر يعني من له الولاية وله الأمر، وله القيمومة وهي على درجات فأعلاها للرسل والأوصياء.
والولي قد يطلق على (المحب) فعلي ولي الله، قد يراد بها أنّه محب لله، حباً حقيقياً بأعلى درجات الحب والمحبة، حيث لا يضارعه في ذلك أحد إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والولي قد يراد به (المطيع)، فعلي ولي الله قد يقصد به إنه مطيع لله حق الطاعة، بأكمل المعاني وأتمها.
والولي قد يراد به(الصديق) أيضا، فانه يطلق عليه ولي.
والمعنى الخامس الذي ذكر للولي هو(النصير)، فعلي ولي الله، يمكن أن يراد به نصير الله حقاً وصدقاً؛ لأنه نصر الله سبحانه وتعالى في مواطن كثيرة، وكان الساعد الأيمن لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
والمعنى السادس من معاني الولي هو الحليف، فهذا ولي أولئك القوم يعني حليف لهم.
ومن معاني الولي (المالك)، والبحث في هذا الحقل طويل، لكن إجمال الكلام:
إن كلمة(ولي) يمكن أن نذهب فيها إلى أحد الرأيين التاليين:
1- فإما أن نقول أنَّ هذه بأجمعها موارد استعمال، وإنما الموضوع له الحقيقي للولي هو (القيم وذو الولاية)، فالولي في الآية الشريفة(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[5] لا يعني محبكم الله؛ إذ إن كل مؤمن قد يحب مؤمناً آخر، بل قد يحب غير المؤمن المؤمن، فلا يصح الحصر بـ (إِنَّمَا) لو أريد من ولي (المحب)، ولا يعني:
نصيركم الله سبحانه وتعالى ورسوله، وأمير المؤمنين الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع؛ إذ قد ينصر مؤمن مؤمناً وقد ينصر غير المؤمن مؤمناً.
إذن (إنما وليكم) - وبأدلة كثيرة، ومنها أداة الحصر المستخدمة فيها (إِنَّمَا) - يراد بها القيمومة والولاية، بمعنى ولاية الأمر، ويمكن مراجعة(الغدير) لمعرفة تفصيل ذلك، وعلى أية حال ففي مثل هذه الآية لا شك في أن المراد بها القيمومة والولاية.
والحاصل: إنه قد نقول: إنَّ الولي يعني القيم والمتولي للأمر، وبقية الموارد هي موارد استعمال، وبتعبير آخر: هي مجازات لعلقة ما، فإذا ذهبنا إلى هذا الرأي في الآية الشريفة فالأمر واضح أيضاً في(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)؛ إذ سيكون معنى الآية: أن الله سبحانه قد منح الولاية والقيمومة لكل مؤمن على مؤمن آخر، لكي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ولكي يجرّه إلى طريق الطاعة ويبعده عن طريق المعصية؛ لذا فإنه بولاية من الله سبحانه وتعالى يأمر المؤمن بالمعروف؛ ولذلك يجب أن يلتزم به، وليس له حق أن يتخلى ويتهرب، وهي من مصاديق الولاية.
وبعبارة جامعة: لو صِرنا إلى أن الولي المراد به القيم، فالمعنى في هذه الآية الشريفة هو: أن الله سبحانه وتعالى جعل أبعاض المؤمنين، و إن شئت فقل: جعل مكونات المجتمع المدني والإيماني أو الإنساني بعضهم ولياً على البعض الآخر، في بناء هذا المجتمع إيمانياً وعقائدياً وفكرياً وثقافياً أولاً، وفي توفير الخدمات ثانياً، وفي ردع السلطات عن أن تسحق حقوق الناس ثالثاً.
2 - والاحتمال الآخر: أن تكون كلمة (ولي) مستخدمة في هذه المعاني لا على نحو المجاز، وإنما لأن هنالك جامعاً بين هذه المعاني بأجمعها، والجامع هو:القيّم بالمعنى الأعم، أي من يقوم بأمرٍ من أمور الطرف الآخر.
ثم إن القيمومة على أنواع بلحاظ اتجاهها، فقد تكون من فوق، كما في القيم بالمعنى الأخص، وقد تكون من المساوي للمساوي، كما في الصديق، وقد تكون أيضاً من فوق بنوع من الفوقية المتصورة كما في النصير، حيث إنه من حيث نصرته فوق، وقد تكون من الأسفل إلى الأعلى، كما في المطيع، ويكون ذلك نظير عكس الحمل؛ لأن القيمومة هي من المطاع للمطيع، فتأمل.
إذن، هنالك جامع، وهو المراد، وانطباقه على المصاديق قهري لو ذكرنا هذا المعنى والتزمنا به، فإنه يجري في هذه الآية الشريفة، وفي آية الولاية أيضاً.
والحاصل: إنه على الاحتمال الأول: فإن (الولي) هو القيّم ومن له السلطة والولاية بالمعنى الأخص، فيكون قسيماً لسائر المعاني، وعلى المعنى الثاني فالولي حقيقة في الجامع، فيراد من الولي القيم بالمعنى الأعم، فتكون تلك المعاني الأخرى قسماً، فلو أطلق(الولي) شمل كل المعاني لصحة إرادتها منه، وحيث لا مقيد عمّ، ولو استعمل في أحدها صح لكونها أصنافاً، لكنه بحاجة إلى قرينة معيِّنة حينئذٍ- كالمشترك اللفظي- لا صارفِه، وعلى الاحتمال الثاني: فإنه يراد في الآية الشريفة(القيم) دون شك، كما يراد أيضاً، بالولي(النصير)، لأن النصير لكم حقاً هو الله سبحانه وتعالى، والرسول(صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، أما الآخرون فنصرتهم من درجات أخرى نازلة جداً، بل قد تكون نصرة مجازية، أي أقرب للمجاز منها للحقيقة.
والحاصل: إن أغلب المعاني يمكن أن تكون مشمولة لهذه الآية الشريفة، حتّى (المحب) فإن الله يحب عباده، وليس في ذلك شك وهكذا، ولكن معنى المطيع لا يصدق قطعاً للقرينة الخارجية في الآية الشريفة.
والأمر في آية: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) من هذا القبيل، فأي معنى من هذه المعاني أمكن تطبيقه ولم يدل دليل على خلافه فلا بأس به على هذا الرأي، حيث يراد بكلمة الولي الجامع لتلك المعاني، بمعنى أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم محب للبعض الآخر، وصديق للبعض الآخر، يصدُقُه ويصدِّقه في ما ينبغي له أن يصدقه فيه، وكذلك هو نصير، حليف، وقيم.
3 - ٲما الاحتمال الثالث: فهو أن تكون كلمة (ولي) مشتركاً لفظياً بين كل تلك المعاني.
والحق هو الاحتمال الأول: وهو أن (ولي) حقيقة في القيّم بالأمر ذي الولاية عليه والسلطة الشرعية بالمعنى الأخص، وذلك للتبادر.
وعلى فرض التنزل فإن المعنى الثاني هو المتحتم.
أما المعنى الثالث، ففيه إنه خلاف الظاهر، لندرة الاشتراك اللفظي، كما أنه خلاف الأصل؛ لأصالة عدم وضعٍ آخر زائدٍ على الوضع الأول لقطعيِّة وضع (ولي) للقيم وذي الولاية، والشك في وضع آخر للباقي فالأصل العدم.
وأما (الاستعمال) فهو أعم من الحقيقة، كما هو مقرر في محله، وأهل اللغة يفسرون الكلمة بموارد استعمالها من غير تقيّد بالموضوع له الحقيقي.
وهذا البحث له ذيل طويل نتركه للبحوث العقائدية، وفي مجال آخر بإذن الله.
الولاية المتبادلة في مهام ومسؤوليات المجتمع المدني:
ومن ذلك نستنتج: إن الخلفية والإطار العريض والأساس الحقيقي لفكرة ونظرية(المجتمع المدني أو الإنساني أو الإيماني)، في منظومة الفكر الإسلامي هو هذا المبنى، يعني مبنى الولاية المتبادلة، وعلى ضوء ذلك سنكمل البحث في مسؤوليات ومهام مؤسسات المجتمع المدني، مثل النقابات والاتحادات، كاتحاد الصحفيين أو نقابة الأطباء، وكذلك المساجد والحسينيات والمدارس، وكذا الحوزات والجامعات، و الأحزاب و والمنظمات التي تعنى بالدفاع عن حقوق السجناء، والمنظمات التي تتكفل وترعى الأيتام لجهة مهمات هذه المؤسسات، انطلاقاً من آية الولاية والأولياء.
فقد ذكرنا أن مهام مؤسسات المجتمع المدني هي بناء المجتمع أولاً، وتوفير الخدمات ثانياً، وإيجاد الموازن الاستراتيجي للدولة ثالثاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق