يمتلك النص الديني القدرة على توجيه مجتمعاتنا وإشغال العنصر الراكز في ثقافتنا، وبالقدر الذي يدعو فهمه وادراكه الى شروط معرفية وأخرى أخلاقية لا تقل في أهميتها عن الشرط المعرفي، ذلك ان الفهم للنص ومن ثم التأويل في هذا النص يشترط التخلي عن النوازع والاغراض الذاتية من أجل ارتقاء القارئ للنص الديني، والذي ينشغل بتأويله وفق المعنى المتضمن له، الى ذلك المستوى من استدعاء الحضور الالهي التام، ومن ثم رفع مستوى التأويل الى ما يريده الله تعالى في مضمون ومنطوق النص.
وفي هذا ليس الاجتهاد مجرد بذل الوسع والطاقة، بل استفراغ الذات من نوازعها ومن رغباتها واستغراقها في ارادة الله تعالى والتمثل الداخلي والصميمي للمعنى المقصود في النص، وليس مجرد دلالة اللفظ على المعنى، وحينها يتم استحضار روح القرآن في محاولة تمثله داخليا مع النفس، فينبعث وفق الحياة من جديد، وتزيد حياة القرآن الى نفس الحياة نفسا أعمق وأقوى تأثيرا في انبعاث الروح وإحساساته في النفس، فالقرآن هو روح كما جاء في منطوق النص/القرآن (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا) والروح هي سر الحياة وفي نفختها انبعثت جمادات الخلق في الحياة، فالطين الخالي من الحياة حين نزلت فيه الروح صار بشرا حيا، من هنا كانت وظيفة القرآن هي إدامة نفس الحياة "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لمن يحييكم" فالترغيب في الاستجابة الى القرآن هو إحياء مستمر للنفس التي خلقها الله تعالى بعد تركيب الروح بالجسد كما يذهب علماء الدين الى تعريف النفس، وقد حرص النص الديني/القرآن على ردع والتصدي لكل محاولات سلب الحياة فقال تعالى "من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا"، وقال "ولكم في القصاص حياة يا اولي الألباب".
إن المفسر او المتأول او المجتهد الديني حين يتنزل الى اعماق المعنى في القرآن، ولا يكتفي بحدود اللغة في اللفظ والمعنى، فانه يدرك نفس الله في القرآن، ويتمثل إحساس الحياة انبعاثا من اسم الله تعالى الاول ومصدر كل الاسماء الحسنى والصفات العليا وهو اسم الحي القيوم، ويشكل ذلك الحس القدسي انبعاثا مهما له في تفسيره وتأويله، وينتمي بذلك الروح وكلامه وعبارات اللفظ لديه الى نص ديني يدور في فلك النص الديني الاول/القرآن، ولذلك فان نصوص التفسير او التأويل تتحول لدى ثقافتنا الدينية الى نصوص دينية، وكلما قاربت نفس الله تعالى كانت أكثر اعتدالا، واعني هنا بالاعتدال هو التخلي عن الذات او تجاوزها ومن ثم العدول بها الى طريق الله وصراط الله المستقيم، وعليه فان الاعتدال أذهب في تصويبه مفهوما في العدول الى طريق الله، ومن هنا نبدأ مناقشة الاعتدال الديني/الاسلامي.
الاعتدال الفكرة والمعنى
يوضع الاعتدال لفظا ومعنى في قبالة التطرف في سياقات المعرفة التحليلية السائدة والمعرفة الاعلامية المتناولة، وقد أسهمت قنوات الضخ الاعلامي في انتشار كلا الصياغتين للتطرف والاعتدال، وهي تدخل في صياغة الصورة النمطية للمسلم مع تغليب او ترجيح نمطية التطرف في هوية التعريف بالشخص المسلم، لاسيما مع القدرة التوجيهية والتوظيفية غير الحيادية التي تمارسها وسائل الاعلام ومؤسساته الكبرى في العالم، وقد تجاوز الاعلام سلطته الرابعة الى قيادته للحدث في العالم لاسيما مع مواقع التواصل الاجتماعية وهي تشكل واحدة من صور تطور الاعلام الجديد، وفي تطوراته العملية شكل الاعلام مصدرا مهما ومنتجا للمفاهيم والافكار ومنها صناعته للأفكار حول الارهاب أو صناعة المعرفة بها وفق تركيبة من المصطلحات التي اخذت تتجذر فيها المفاهيم الخاصة بها، وهي لم تكن مألوفة بهذا المستوى من التناول والتداول، أو كانت محدودة التناول والتداول قبل ظهور ما عرف حينها بالصحوة الاسلامية في سبعينات القرن العشرين.
وتشتمل تلك التركيبة المفاهيمية على مسميات الاصولية او الاصوليين، الاسلام السياسي، التطرف الاسلامي او الارهاب الاسلامي الذي اخذ انتشارا وشيوعا ظاهرا مع صعود الاتجاهات اليمينية/العرقية والاصولية/الدينية في الغرب، وكأنها ردة فعل اجتماعية وثقافية على ما يحدث في الشرق الاسلامي، وفي قبالة ذلك كان يوضع على الطرف المقابل/المناقض أو هكذا يبدو لدينا مسميات مثل الاعتدال الاسلامي او الوسطية الاسلامية والتدين الشعبي او الدين الشعبي في قبالة الدين او التدين الايديولوجي، وهو ما لم يكن مألوفا في ادبياتنا التدوينية والكلامية. لكنه يؤشر على سياقات أخرى في التفسير والتأويل للنص تضمنتها تلك الادبيات الدينية/الاسلامية، لكنها لم تقسم الاسلام او الدين بهذا الشكل من العناوين والاصطلاحات، بل ظلت صورة الاسلام واحدة في ذهن المسلم وعلى ضوئها يحكم بقرب الآخر من الاسلام او بعده، عنه وان ظلت تلك الصورة ملونة ومخططة بالفهم المذهبي للإسلام.
وقد بدت بعض المسميات او التسميات غريبة او طارئة على المضامين والمعاني القديمة لها في هذه المصطلحات، فالأصولية التي كانت توضع إسلاميا كمدرسة في المنهج العلمي/الفقهي في قبالة منهج النقل/الاخباري في هذا العلم، وقد أخذت الصيغة الاصولية منحى العقل في تميزها عن النقل الذي أستند اليه الاخباريون من الفقهاء وشددوا على الاخذ به في عقيدتهم بصحة الخبر، ومنه جاء اشتقاق تسميتهم بالإخباريين، ويضعهم تاريخ العلم الاسلامي في قبالة الاصوليين على مستوى الاصطلاح ومنهجهم في الاخذ بإجراءات العقل واحيانا أحكامه، لكن هيمنة الموجة الاعلامية في اواخر عصر الحداثة وتبوئها محل الدرس والبحث الاكاديمي والمعرفي العلمي الجاد في توصيف الاحداث والوقائع واجتراح المسميات المفاجئة والتي تحولت مع تكرار الاستعمال والاداء الوظيفي لها الى مصطلحات قارة يكتب بها ويستعملها حتى من لا يجد فيها قناعة، وكان منها إطلاق الاصولية على الحركات الغالية في موقفها السياسي او المتطرفة كما في منطوق الاعلام المعاصر، وكذلك كانت المفاجأة هي أكبر في تصنيف الاسلام الى سياسي لتمييزه عن اسلام آخر لم تحدد هويته في هذا الاعلام.
وكذلك شملت تلك الاستخدامات غير الملتزمة بمعايير محددة ذلك التصنيف للتطرف بانه اسلامي وتصنيف الارهاب بشكل قار بانه اسلامي، وننظر الى تصنيف الاعتدال الاسلامي فكرة ومفهوما ضمن تلك السياقات الجذرية في تصنيفات الاسلام الى عدد من التصورات التي شغل كل جزء منها صورة مناقضة للأخرى، او معدلة عنها لاسيما في تصورات الآخر الاوربي.
لكن خلاصة الاسلام هو واحد، والنص الديني/القرآن الذي يؤسس للإسلام هو واحد، نزل من عند واحد كما يقول مولانا جعفر بن محمد الصادق، لكن الاختلاف والتعددية في الرؤية يظل في التأويل الذي يشكل مداد القلم الذي يفسر كلمات الله، وهو مداد لو كان من كل بحار الارض لنفذ قبل ان تنفذ كلمات الله، مما يفتح امكانية تعدد الرؤية وصفحات التأويل غير المتناهية في النص.
فالنص الاول/القرآن مطلق صادر من المطلق الاول، والمتلقي بشر نسبي محدود تحده الاشياء والمعارف الخاصة به في فهم آيات الله تعالى لاسيما بعد عصر النبوة وعصر الامامة، وهي العصور التي كان بإمكانها ان تضع الانسان على حدود كل المعنى في القرآن، لكن حجاب الظلم والطغيان هو الذي منعها فبدرت عوامل وضرورات الاجتهاد في النص الديني، وكان الاعتدال الاسلامي او الوسطية الاسلامية مصطلحا ومفهوما او لفظا ومعنى هو ثمرة ذلك الاجتهاد، وهو مصطلح اسلامي نشأ في بيئة مسلمة واتسع استعماله في مواجهة الغرب الذي تكفل بنشر تسميات واصطلاحات مثل الاصولية الاسلامية والتطرف الاسلامي والارهاب الاسلامي، وحولها الى بديهيات الاستعمال الثقافي والتداول المعرفي.
وانخراط مصطلح الاعتدال الاسلامي في منشئات التربية ومؤسسة القيم في مجتمعاتنا من شأنه ان يحدث تغييرا جوهريا في نظرتنا وموقفنا إزاء العالم والانسان، لاسيما الآخر الذي يجمعنا واياه مبدأ الخلق الاول في الحياة وهي الروح التي نفخها الله تعالى في جسد أبينا آدم، وكان لنا ان نتقاسم معه نفس الله تعالى/روح الله تعالى "ونفخنا فيه من روحنا" الآية، وجمعتنا معه يد الله تعالى التي بنت هذا الانسان فكان الانسان بناء الله تعالى كما ينطق بذلك الحديث الشريف، وكلمة أخرى ان وسائل النشر المتاحة من خلال الموجة الاعلامية في عالمنا والتي يجب التركيز عليها اسلاميا هي كفيلة بنشر فكر الاعتدال ومفهومه وترويجه ولعل عقد المؤتمرات واستغلال شبكة التواصل الحديثة في تقنيات الحاسوب هي واحدة من اهم وسائل نشر الاعتدال وترويجه.
والآن نمضي في دراسة تداول هذا المصطلح بين رؤيتين تنظر كل منهما الى فكرة الاعتدال من زاويتها الخاصة بها.
الاعتدال بين رؤيتين
لعل نشأة مفهوم الاعتدال الاسلامي في بيئته الطبيعية الاسلامية وتداوله مؤخرا وبشكل مكثف في معرض الرد على مقولات وتأويلات الاطراف المتجهمة فكريا في قراءة النص الديني/القرآن والتي نعتت بالتطرف وأضيف اليها آيديولوجيا مضادا توصيف الاسلامي، لكن تبقى أجزاء مهمة في تداوله الاصطلاحي يتجذر في رؤية الغرب لاسيما التمثيل له في مواجهة عالمنا، وهي رؤية الولايات المتحدة الاميركية التي بادرت مراكز دراسات متعددة فيها الى دراسة عالمنا الاسلامي وتحليل هويته المعاصرة لتخرج بحصيلة مقارنات وافكار تعيد بعض مقولات الاستشراق السلبية تجاه عالمنا وتضخمها بجملة تصورات حديثة يتكون بوضوح فيها استشراق إمبريالي/اميركي على وجه الخصوص.
وعلى أية حال فقد بدت فكرة الاعتدال الاسلامي وفق صياغتها الاميركية او المسلمين المعتدلين جاهزة ومؤثرة في تقارير ودراسات هذه المراكز، وهي تصطف الى جانب اصطلاحات وتصنيفات أخرى تحولت الى مفردات متداولة عالميا ومحليا في توصيف الحالة الاسلامية الراهنة.
ولعل اهم تلك التقارير الاميركية التي صدرت في سنوات إرهاصات الارهاب وقبل احداث سبتمبر الارهابية هو التقرير الذي اصدرته مؤسسة رند الاميركية في العام 1990م وهو عبارة عن كتاب يتألف من 153 صفحة وأشار الى ان خطر الارهاب سيتركز في منطقة الشرق الاوسط، وهي الجزء المهم من العالم الاسلامي، ثم اصدرت تقريرها في العام 2004م بعنوان "العالم المسلم بعد 11/9" ووردت فيه الاشارة الى الاسلام المعتدل في قبالة اسلام سلفي واسلام راديكالي، وفي تقرير اخر صدر في العام 2005م عن المؤسسة ذاتها، وقسم فيها المسلمين الى اربع فئات هم مسلمون اصوليون ومسلمون تقليديون ومسلمون حداثويون ومسلمون علمانيون، رغم عدم اشارة هذا التقرير الى المعتدلين المسلمين الا انه يمكن تصنيف الفئات الثلات ما عدا الاصوليين بانهم على منهج اعتدال اسلامي اعتمادا على تقرير مؤسسة رند ذاتها السابق.
لكن في تقرير راند الذي صدر في العام 2007م وتضمن توجيهات للإدارة الاميركية بدعم التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الاسلامي وهي اتجاهات تصنف اميركيا في خانة الاعتدال الاسلامي الذي أوصى التقرير ان يكون مفهومه بصيغة او صياغة اميركية، ويؤكد التقرير على طبيعة المواجهة بين اميركا والعالم الاسلامي على انها مواجهة فكرية وثقافية، وبذلك يتم استبعاد كل العناصر المؤثرة في الصراع وفي تلك المواجهة من اقتصادية واجتماعية/سياسية تعبر عن وجهة نظر تلك الشعوب في محاولات الهيمنة والاستغلال التي تمارسها الولايات المتحدة.
وبناء على دراسة أعدها الاستاذ باسم الخفاجي -في مجلة البيان/موقع طريق الاسلام – فإن التقرير يركز على ايجاد تعريف واضح ومحدد للاعتدال الاسلامي ويجد انه يتبلور فقط في التيارات العلمانية والليبرالية والعصرانية، ورغم ان الكثير من هذه التيارات لا يرضيه ذلك التصنيف الاميركي له بدمجه في الثقافة او الهوية الاسلامية لكنه يكشف عن الميل الايديولوجي والاعتقادي لدى الادارة الاميركية والغرب بصورة عامة على طبع المنطقة بطابع ديني/اسلامي، وهو ما يؤكد المواجهة غير المعلنة من جانب الادارة الاميركية للإسلام فكرا وثقافة وممارسة حياتية بعد استحضار ما اشار اليه تقرير رند 2007م.
ويستمر التقرير في تحديد معايير هذا الاعتدال الاسلامي بقبوله بأربع شروط هي في صميم الثقافة الاميركية السياسية والاجتماعية او كما تحاول ان تروجها وسائل الدعاية الاميركية وهي: 1- قبول الاعتدال الاسلامي بالديمقراطية الغربية 2- قبوله بالمصادر غير المذهبية في تشريع القوانين 3- احترام حقوق النساء والاقليات 4- نبذ العنف والارهاب والتخلي عن فكرة الحرب العادلة وهي الفكرة الدينية عن الحرب في التصور الاميركي.
ويكشف التصنيف الاميركي لهوية الاعتدال الاسلامي وتطبيقاته عن محاولة برمجة العالم بما فيه عالمنا الاسلامي وفق مقولات الغرب وإحكام تسييره وفق تخطيطات تنبثق عن رؤية أحادية يضيق أفقها في فكرة المصالح العليا للولايات المتحدة الاميركية والتأسيس للهيمنة الامبريالية على العالم، الذي تجد الولايات المتحدة صعوبات جمة في إداءات هذه الهيمنة في عالمنا الاسلامي.
ثم ان التقرير يشدد على فكرة المواجهة مع التيارات الاصولية والمتطرفة بواسطة هذا الاعتدال الاسلامي المقترح اميركيا دون ان يشير هذا التقرير الى أهمية التنظير الاسلامي الذي يقوم به الفقهاء المسلمين بإزاء التأويلات الخاطئة للنص الديني الاسلامي والمنحرفة لدى الجماعات المتطرفة والاصولية عن غايات المعنى والمغزى الذي يسعى الفقهاء الى استنباطها ومعرفة أحكام النص فيما يتعلق بفضاءات العيش الانساني والاجتماع البشري، وكان للفقهاء المسلمين المحدثين رؤية اخرى وطريقة في التفكير تستند الى مدارك التشريع في القرآن والسنة في اجتراح المصطلح وتنظيم المفهوم معرفيا ومنه مصطلح ومفهوم الاعتدال الاسلامي.
في قبالة تلك الرؤية الخارجية التي سعت الى الاستحواذ على قائمة المفاهيم عامة في هذا العصر، وهي تعبير عن نطاق الهيمنة الذي تؤمن به كامتياز تاريخي منحتها القوة وابتكارات التكنلوجيا المتطورة ذلك الامتياز الذي تطور بموجبها الى ارادة اخضاع الثقافات ونصوصها وشعوبها الى إجراءات تلك الهيمنة الامبريالية، لذلك تظل الرؤية المناقضة لها تعبير في وجهة منها عن ارادة التحرر من تلك الهيمنة، وهو ما يقودنا الى قراءة بعض من نصوص هؤلاء الفقهاء الذين استنبطوا ابعادا ومفاهيما للاعتدال الاسلامي استنادا الى مصادرهم في التشريع، وهي القرآن والسنة، وهي اولى نقاط الاختلاف مع الصيغة الاميركية للاعتدال الاسلامي الذي اشترطت فيه ان تكون مصادره غير مذهبية/اسلامية.
الاعتدال لغة وفقها
لكن مراجعة دقيقة في مصادر التراث اللغوي والفقهي الاسلامي نجد الجذر الاسلامي للاعتدال لغة وفقها فقد جاء في تلك المصادر وفي تعريف الوسطية وعلاقة الوسطية لغة بالاعتدال، ان وسط الشيء ما بين طرفيه.... والاوسط المعتدل من كل شيء.... والوسط.... من كل شيء اعدله وافضله -الاسباب الدافعة لبعد الشباب عن الوسطية، اسماء عبد المطلب– وتشتق الوسطية اسلاميا لفظا ومعنى من قوله تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" وكفل لهم حق الشهادة على الناس في يوم القيامة بهذه الوسطية فأكمل قوله تعالى "لتكونوا شهداء على الناس" ومذهب اهل الاسلام من المفسرين والعلماء في تلك الوسطية المخصوص بها أمة المؤمنين هي عدم الافراط بالأحكام والتفريط بالشريعة.
والوسط مأخوذا قياسا الى الاشياء فلكل شيء طرفاه ومركز الشيء وسطه، والطرف يمكن قياس التطرف عليه لغة في المعنى باعتبار انه لا يمثل الطرف الآخر بل يمثل موقعه وجهته وطرفه وأمره فيعمل على إلغاء الطرف الآخر وشجبه وتبكيته ونبذه وهو التطرف بعينه في المعنى وتوافق اللفظ عليه إجماعا متأخرا. وقديما كان لغة يعبر بالغلو لفظا عن المعنى المتطرف او التطرف في المعنى الديني، وكانت في قباله إسلاميا مبادئ الوسطية والاعتدال فقد وردت لدى الشاطبي تلك المقاربة المباشرة بين الوسطية والاعتدال فقال في كتابه الموافقات ((والشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الاوسط المعتدل)) مما يؤصل ذلك الجذر الاسلامي لمفهوم الاعتدال وانتمائه تاريخيا وثقافيا الى بيئة الاسلام، بل ان المنابع الاولى للوسطية والاعتدال نجدها في النص الديني/الاسلامي القرآن الكريم ثم الاحاديث النبوية وتشتمل على أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام.
ويخرج الباحث بنتيجة ان الاسلام أسس لها في تاريخ الاديان لاسيما في نصه الاول القرآن الكريم بعد ان تسامحت فيها او تلاشت في نصوص الاديان السابقة على الاسلام وحتى مقولة الانجيل ((من ضربك على خدك الايمن فأعطه خدك الايسر)) هي مقولة طرفية وليس وسطية، وقد استقر في الذاكرة الاسلامية قديما ان النصارى قد فرطوا بالشريعة لحساب الروح، وان اليهود قد أفرطوا بالأحكام لحساب الجسد، فجاء الاسلام/القرآن وسطا بين التوراة والانجيل وبهذا كان حاكما على الكتب المقدسة التي انزلت قبله لعلة الوسطية والاعتدال فيه.
ورغم ان التطرف والغلو كان له حضور في تاريخ الاسلام سواء في التفسير والتطبيق، إلا ان المبدأ الذي ظل مهيمنا في كتاب الله العزيز/القرآن وفي أخلاق النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسائدا في السيرة العملية لأئمة الاسلام من آل محمد عليهم السلام هو الوسطية والاعتدال، ولذلك استند بعض الفقهاء المتأخرين من الإمامية في نظرية اللاعنف التي تنتمي الى الوسطية والاعتدال الى تلك النصوص الالهية والسيرة العملية لآل محمد عليهم السلام وسعوا الى الأخذ بها منهجا ودينا في حياة المسلمين.
نظرية اللاعنف عند السيد محمد مهدي الشيرازي
نجد جذور نظرية اللاعنف عند السيد محمد الشيرازي في نظرته الاولى للإنسان في وجوده الاول وانفصاله عن الطبيعة الذي اضطرته ظرف الانفصال هذا وعوامله الى محاولة اعادة اتصاله بالطبيعة من جديد بدافع حاجته القصوى لاتصاله بها، وتكون وسائله في هذا الاتصال وفق السيد الشيرازي عبر القوانين التي تربطه بالطبيعة من جهة وتربطه بالمجتمع من جهة اخرى، ويرى السيد الشيرازي ان هذه القوانين اما ان تكون سماوية او تكون وضعية اعتمادا من وجهة نظره على ان الانسان لا يمكن له العيش بدون قوانين، وجهات هذه القوانين هي:
أولا التعاون وثانيا عدم التباغض، وهو توكيد ضمني واساسي من جانب السيد الشيرازي على فكرة اللاعنف، فالتعاون ينبذ العنف بطبيعته، وعدم التباغض هو نفي لازم للعنف، لان التباغض هو المنتج للعنف في مجتمعات البشر. ونجد في الشروط التي يضعها السيد الشيرازي في نجاح القوانين واهليتها يكمن مبدأ اللاعنف، فالشرط الاول في كونه اي القانون عاما لجميع البشر ويعني به عدالة هذا القانون في عموميته تلك، فاذا كان ناقصا كما يقول السيد ويعني به نقص العدل ضمنا، فانه سيؤدي الى التنازع والتصادم او التدافع في عبارة السيد الشيرازي، وبما ان هذه العمومية في العدل بخصوص القوانين تكون نسبية او محدودة بالنسبة الى القوانين التي يضعها او مصدرها الانسان، فإن القوانين التي مصدرها الله تعالى تكفل ذلك العدل الكامل.
ويفسر السيد الشيرازي تلك الازمات والحروب التي تحل بالبلاد في هذا العالم انما مردها الى اختلاف القوانين بين البلدان، والمثال الذي يضعه السيد الشيرازي هو ان قانون بلد يجيز الاستعمار وقانون بلد اخر يجيز مقاومة الاستعمار ومن هنا ينشأ التدافع والاقتتال، ويضع السيد الشيرازي في الشرط الثاني في القوانين هي استيعابها لكل ابعاد الانسان وهي خصائصه الذاتية بما هو مركب من روح وجسد، فاذا عجز هذا القانون عن استيعاب رغبات الانسان وحوائجه التي تتشكل في تركيبة الروح والجسد فانه سيؤدي الى الاصطدام والاقتتال وشيوع العنف.
من هنا فان تلبية متطلبات الانسان الفردية والخاصة كفيلة بنشر اللاعنف في المجتمعات استنتاجا عن السيد الشيرازي وإتماما لمقولته في اللاعنف، والشرط الثالث والمهم هو الموازنة بين الأخذ والعطاء، ونجد فيها جليا رؤية السيد الشيرازي في الوسطية والاعتدال، فالموازنة هنا هي الاعتدال في إعطاء الحقوق من مصادرها دون غيرها وأخذ الواجبات حقها في العمل والتطبيق، وهي الوسطية، فلا افراط في الحقوق ولا تفريط في الواجبات، وهنا يقول السيد الشيرازي (يلزم ان يكون القانون في حالة وسطية بين اعطاء الحاجة بقدر وسلب الحرية بقدر)، ويؤكد السيد الشيرازي في موضوع الحرية بالنسبة للقوانين انها يجب ان تكون ملاحظة لحدود وحريات الاخرين وملاحظة ايضا لمصالح الانسان لا سيما مصالح الفقراء والمصالح العامة، ويؤكد السيد ان القانون اذا لم يكن وسطيا، متوسطا بين الاخذ والعطاء فانه سيكون ناقصا افراطا في جهة وتفريطا في جهة اخرى فيوجب خبالا كما يقول السيد، وفي الخبال صورة العنف واضحة جلية، فالعنف لا يعدو الا خبالا في ارتداده على العقلانية التي تحكم مبدأ اللاعنف، وهي أي العقلانية واحدة من اهم مرتكزات السيد في تأسيس وبناء نظرية اللاعنف.
ويستنبط السيد الشيرازي معاني اللاعنف من احاديث الرفق الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، والرفق في تلك الاحاديث يوضع في قبالة او بمواجهة الخرق الذي هو اللاعقلانية في التصرف والسلوك، وهنا بعض الاحاديث التي يستند اليها السيد الشيرازي وهي ترفق الرفق بالعلم والحكمة مما يعضد رأيه في استنباطه الرفق بمعنى العقلانية، فهناك حديث أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ويرويه عنه معاذ بن مسلم (الرفق يمن والخرق شؤم) والرفق في اللغة بمعنى العطف والقصد واللين، واللطف في السلوك والاخلاق وهي المعاني التي تفصح عنها معاجم اللغة العربية، وهي مفاهيم تقرب الرفق والمعنى فيه الى العقل والحكمة وهكذا نجد الاعتدال يعود في المعنى الى مفهوم الرفق في تراث أهل البيت وأما الخرق فانه الجهل والحمق وسوء التصرف والبعد عن حسن السلوك وعقلانيته وهي كل معانيه التي وردت في لغة العرب، وقد فهم الخرق في لغة أئمة اهل البيت أنه العنف فقد ورد عن أبي جعفر عليه السلام قال (ان الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) وذلك بمقابلة الخرق او مواجهته بالرفق دائما في أحاديث الأئمة عليهم السلام. وفي اللغة مما يدعنا ان قول ان المراد هنا بالعنف هو الخرق وهو اللاعقلانية في السلوك والتصرف.
وأيضا يستنبط من هذا الحديث الذي هو مادة السيد الشيرازي ودليله في اللاعنف هو ان الرفق يوضع في قبالة الضد صريحا في لفظ الحديث مما يعني ان الرفق مقصودا به وضوحا واستدلالا هو اللاعنف وللتوكيد على صلة الرفق اي اللاعنف بالعقلانية الدينية هو قول امير المؤمنين عليه السلام لولده الحسن عليه السلام (يابني رأس العلم الرفق وآفته الخرق) وعن رسول الله صلى الله عليه وآله (الرفق راس الحكمة) وتحيل أحاديث الرفق الى الحلم في رواية السيد الشيرازي لهذه الاحاديث في كتابه عالم الغد" فهو يروي عددا من الاحاديث عن أهل البيت في الحلم ومنها حديث علي ابن موسى الرضا عليه السلام يقول (لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما).
والحلم في معاجم اللغة هو العقل وضبط النفس والصفح، وهكذا يندمج العقل والصفح وضبط النفس وهي صور اللاعنف بمعنى الحلم الوارد في احاديث أهل البيت عليهم السلام. ونتيجة ملازمة المعنى للرفق والحلم والخلق للحكمة والعلم وفضيلة المعرفة والعقل في مصادر التراث الاسلامي والتراث اللغوي العربي فإن هذه الملازمة أوحت الى كثير من الكتاب والباحثين العرب على تعريف العقل الاسلامي بانه عقل اخلاقي تهدف المعرفة فيه والعلم الى غاية الاخلاق والالتزام العملي بها.
وقد شكلت تلك المصادر في الحديث واللغة بالنسبة لنظرية اللاعنف عند السيد الشيرازي المدرك التشريعي بالنسبة لفقيه إمامي في ادلته الفقهية والعقلية في بناء نظرية اللاعنف لديه ودعوته الدينية الخالصة في بعدها الفقهي/الاسلامي الامامي نحو صيغة في الاعتدال بهويته وصيغته وأصوله الاسلامية، وهكذا تكتمل الرؤية الاسلامية في الاعتدال الاسلامي.
اضف تعليق