كتبت المؤلفة البريطانية آني بيسانت ذات مرّة قائلة: "مِن ظلمة الرحم إلى ظلمات القبر، يعبر الإنسان ممرّ الحياة الضيق". إنّ الوقت المخصص للبشر في الحياة يكتسب أهمية شخصية وعلمية كبيرة، فيما أيّد تحليلٌ إحصائي للسكان بالتوافق مع بحث سابق ـوجود حدّ لمدى عمر الإنسان، مشيرًا إلى أن الزيادة في العمر المتوقع من المرجّح أن تتباطأ، أو تتوقف على مدى السنوات القادمة...
بقلم: إس. جاي أولشانسكي
كتبت المؤلفة البريطانية آني بيسانت ذات مرّة قائلة: "مِن ظلمة الرحم إلى ظلمات القبر، يعبر الإنسان ممرّ الحياة الضيق". إنّ الوقت المخصص للبشر في الحياة يكتسب أهمية شخصية وعلمية كبيرة.. ففي بحث نُشر مؤخرًا بدورية Nature، اتجه دونج وزملاؤه نحو المنشورات الإحصائية السكانية؛ لتحليل ما إذا كان هناك حدّ لمدى عمر الإنسان، أم لا، وقد عثروا على أدلة تشير إلى ذلك.
وقبل مناقشة الدراسة الحاليّة، يتعين علينا تحديد بعض المصطلحات ذات الصلة. يصف تعبير "مدى العمر" طول عمر الفرد. و"متوسط العمر المتوقّع" هو تقدير لمدة الحياة المتوقعة لمجموعة من الأفراد في أي عمر كان، استنادًا إلى "جدول الحياة" الإحصائي. والحدّ الأقصى لمدى العمر هو السنّ الذي يصل إليه أطول أفراد أحد الأنواع عمرًا.
ارتفع متوسط عمر الإنسان المتوقع بسرعة وبثبات إلى حدّ ما على مدى الـ150 سنة الماضية3في معظم البلدان. وفي عام 1990، توقّعت أنا وزملائي أن تتباطأ هذه الزيادة مع مرور الوقت4، وقد ثبت ذلك5، إذ يبدو أن المدى العمري الأقصى قد ارتفع بثبات هو الآخر6، إلا أنه ربما يكون قد وصل أيضًا إلى الحدّ المقارِب الأعلى، فلم يُعرف أن أحدًا عاش أكثر من جين كالمنت، التي توفيت عام 1997 عن عمر يناهز الـ122 عامًا. وهكذا، فإن الجدل حول حدود العمر لا يزال مستمرًا.
يَعتقد بعض العلماء أنه من غير المرجّح أن تكون هناك حدود ثابتة للحياة، إذ لا يمكن مراقبتها باستخدام الأدوات الرياضية الخاصة بإحصاءات السكان7، بينما يشير آخرون إلى أن التقدم التكنولوجي المستقبلي الذي لا يزال مجهولًا سيستمر في خفض معدلات الوفيات8، مؤديًا إلى مكاسب متسارعة، كتحسين متوسط العمر المتوقَّع، والمدى العمري الأقصى. ومع ذلك.. لا يزال البعض الآخر يرى أن هناك حدًّا لمدى العمر9.
استخدم دونج وزملاؤه البيانات الإحصائية السكانية؛ للتحقق من وجود هذا الحدّ في الإنسان، وبالتبعية حد متوسط العمر المتوقَّع أيضًا، فافترضوا أولًا أنه في حال عدم وجود حدّ بيولوجي (أو إذا كان غير قابل للرصد في الوقت الحالي)، فإن الفئة العمريّة التي تشهد الزيادة الأكبر في معدل البقاء على قيد الحياة يجب أن تنتقل إلى المجموعات الأكبر سنًّا مع الوقت. وتبدو هذه الفرضية منطقية تمامًا، كما اكتشف الباحثون أنه في معظم البلدان التي تمتلك بيانات موثوقة، بلغ التحسُّن الأكبر في معدل بقاء المجموعات الأكبر سنًّا ذروته في عام 1980، ولم يتغير منذ ذلك الحين.
وكخطوة تالية، قام الباحثون بالتحقيق فيما إذا كانت الزيادة في المدى العمري الأقصى قد لُوحظت في العقود الأخيرة، أم لا. واكتشفوا أن الحدّ الأقصى للمدى العمري في البشر قد تراجع منذ وفاة كالمنت؛ رغم زيادة حجم فئة المسنين حول العالم، وكان يجب أن يؤدي ذلك ـ في حد ذاته ـ إلى زيادة في الحد الأقصى للمدى العمري. ويستنتج دونج وزملاؤه أن هاتين الملاحظتين تمثلان أدلة دامغة على أن مدى عمر الإنسان له "حدّ طبيعي"، (الشكل 1).
ببلوغها 116 عامًا، تُعتبر إيما مورانو أكبر إنسان على قيد الحياة في يومنا هذا. ويقدِّم دونج وزملاؤه دليلًا على أننا نقترب من الحدّ الطبيعي للمدى العمري البشري.
ببلوغها 116 عامًا، تُعتبر إيما مورانو أكبر إنسان على قيد الحياة في يومنا هذا. ويقدِّم دونج وزملاؤه2 دليلًا على أننا نقترب من الحدّ الطبيعي للمدى العمري البشري.
يدرك العلماء الذين يدرسون الشيخوخة أن هناك تباينًا كبيرًا في مدى العمر عبر الأنواع المختلفة10، لكن ثمة ضمن النوع الواحد سمات ثابتة ترتبط بتاريخ الحياة. وتحديد طول العمر هو إحدى هذه السمات. وفي ظل ظروف معيشية محمية، ينتفي فيها الافتراس إلى حد كبير، من الممكن أن تعيش الفئران حوالي 1000 يوم10، والكلاب حوالي 5000 يوم10، والبشر حوالي 29,000 يوم11. لذا.. من الواضح أن هناك أسبابًا بيولوجية لمتوسط المدى العمري لكل نوع، فلماذا يمكن لأي شخص أن يعتقد أن بإمكان الناس العيش لفترة أطول بكثير مما نعيش الآن؟
تكمن الإجابة في السياق التاريخي الذي تَغَيَّر فيه طول عمر الإنسان. فازدياد متوسط العمر المتوقع عند الولادة بمقدار 30 عامًا، الذي شوهد خلال القرن الماضي، لا علاقة له بمعدل الشيخوخة الذي تم تعديله12. فهو يعكس ـ بدلًا من ذلك ـ أوجه التحسّن في الصحة العامة، التي خفّضت بشكل كبير معدّل الوفيات في سن مبكرة، مما أتاح لمعظم الناس في الدول المتقدمة بلوغ سن الشيخوخة للمرة الأولى في التاريخ. وتتجمع غالبية الوفيات الآن في الأعمار ما بين 65، و95 عامًا 11. ومِن دون مزيد من الاختراقات الطبية الحيوية، لا يمكن لمتوسط العمر المتوقع أن يستمر في الارتفاع كثيرًا، وهكذا فإن الزيادة في طول العمر ستتضاءل مستقبلًا. أما السؤال المهمّ الآن، فهو: ما هي مدة البقاء الإضافية التي يمكن اكتسابها عن طريق التكنولوجيا الطبية؟ بوجود سمات ثابتة لتاريخ الحياة، سيبدو الأمر وكأننا نحاول اجتياز حاجز هائل.
وكما يشير الباحثون.. ففكرة "الحدّ الطبيعي" للحياة لا تعني أن حدًّا كهذا هو نتيجة ثانوية مباشرة لبرنامج تقوده عوامل وراثية، ويؤدي إلى الشيخوخة والموت. إنّ البرامج الوراثية الثابتة، التي تؤدي بشكل مباشر إلى الشيخوخة والموت، لا يمكن أن توجد كمنتَج مباشر للتطور، لأنّ النتيجة النهائية ستكون الموت في سن يفوق ما سيعيشه في الأحوال العادية كل عضو تقريبًا من نوع محدد. إن تصميم قنبلة وراثية موقوتة؛ لتقضي علينا في أعمار متقدمة، يماثل ما يمكن أن يفعله صانعو السيارات، إذا وضعوا في السيارات جهازًا متفجرًا ينطلق فقط عندما تقطع السيارة مسافة مليون ميل، لأنه نظرًا إلى أن غالبية السيارات لا تتم قيادتها لهذه المسافة أبدًا؛ فإنّ جهازًا كهذا سيكون عديم الفائدة.
إذَن، كيف يمكن أن يوجد حدّ بيولوجي للحياة، دون وجود برنامج وراثي يفعّله؟ تقوم ساعات بيولوجية بقياس الوقت ما بين بدء الحمل، والولادة، إلا أن تلك "البندولات" توجد في الأصل لتحويل بويضة ملقَّحة إلى إنسان بالغ قادر على التكاثر. إنّ هذه البرامج الوراثية الثابتة الخاصة بالنمو، والتطور، والنضج، والتكاثر (التي تُعرف مجتمعةً باسم "استراتيجية تاريخ الحياة") هي نتاج أكثر من 3.7 مليار سنة من التطور. فبندولات الإيقاع البيولوجية لا تقيس الوقت اللازم للشيخوخة، أو الموت؛ بل إن الشيخوخة هي ناتج ثانوي غير مقصود لهذه الساعات، المصمَّمة لتحافظ على استمرارية الحياة.
إنّ هذا التمييز مهم، وهو يعني أنه لا يوجد حدّ ثابت لا يمكن للبشر أن يعيشوا بعده؛ لكنْ على أي حال.. ثمة حدود لمدّة الحياة تفرضها سمات أخرى محددة وراثيًّا، خاصة بتاريخ الحياة. فلننظر ـ كمثال على القيود المفروضة ـ إلى سرعة الجري.. إذ لا يوجد برنامج وراثي يحدِّد بشكل خاص السرعةَ التي يمكن للإنسان أن يجري بها، إلا أن القيود الميكانيكية الحيوية على سرعة الجري يفرضها تصميمُ الجسم الثابت الذي تَطَوَّر لأغراض أخرى، بل إنّ غياب برامج تتعلق بالشيخوخة والموت يفتح الباب أمام تداخلات غير وراثية تحسِّن الصحة، وتؤدي إلى طول العمر، مثلما تمكِّننا تمامًا أساليب التدريب الحديثة من الجري بسرعة متزايدة. وهذا هو بالضبط السبب في كون تعديل عوامل الخطر السلوكية ـ كالنظام الغذائي، وممارسة الرياضة ـ يؤدي بالفعل إلى إطالة العمر الذي يعيشه الإنسان بصحة جيدة، لكن مردوده ضئيل في إطالة متوسط العمر المتوقَّع.
يذكِّرنا دونج وزملاؤه بأن الإنسانية تقترب من حد طبيعي للحياة، ويتضح هذا الحد الآن في إحصاءات حيوية وطنية، حيث تعمل البشرية بجدّ؛ لإتاحة المزيد من الزمن؛ من أجل البقاء، وبقَدْر معين من النجاح؛ لكن علينا أن نعترف بأنّ استراتيجية ثابتة لتاريخ الحياة، محدَّدة وراثيًّا لجنسنا البشري، تقف في طريق إطالة الحياة بشكل جوهري.
اضف تعليق