اكتُشِفت الجمجمة المعروفة باسم «بوسكوب مان» Boskop Man في جنوب إفريقيا عام 1913. وآنذاك، سارع عديد من خبراء علم الإنسان القديم البارزين إلى عد أحفورة العصر الحجري الأوسط تلك، التي تعود إلى فترة تتراوح من 280 ألف عام إلى 30 ألف عام مضت، واتسمت بدماغ، وتشريح شبيه بذاك الذي يتمتع به الإنسان الحديث...
بقلم: فاتيما جاكسون
اكتُشِفت الجمجمة المعروفة باسم «بوسكوب مان» Boskop Man في جنوب إفريقيا عام 1913. وآنذاك، سارع عديد من خبراء علم الإنسان القديم البارزين إلى عد أحفورة العصر الحجري الأوسط تلك، التي تعود إلى فترة تتراوح من 280 ألف عام إلى 30 ألف عام مضت، واتسمت بدماغ، وتشريح شبيه بذاك الذي يتمتع به الإنسان الحديث، على أنها الشكل الأول لبشر شعوب الـ«بوشمن» Bushman (وهو مصطلح يشير إلى الشعوب التي تتحدث بلغة السان في جنوبي إفريقيا). ووصفوا هذه الأحفورة بأنها "صورة بدائية من الإنسان"، أدنى على السلم التطوُّري من الأوروبيين المعاصرين.
وبعد مضي عقد من الزمان، رايموند دارت، أول من اكتشف أحفورة القرد الجنوبي الإفريقيAustralopithecus africanus المعروفة بـطفل تونج، عثر على أدلة تشير إلى وجود مجتمعات إفريقية سابقة، كتلك التي احتضنها مجمع مصاطب نيانجا الأثري في زيمبابوي، والذي يُعتقد أنه استخدم في الزراعة منذ عام 1300 إلى عام 1900. كذلك اكتشف دارت آثارًا تشير إلى أنشطة تنقيب عن الذهب، تعود إلى حقبة ما قبل الاستعمار في جبال نيانجا. وجزم بأن الشعوب الإفريقية القديمة كانت على صلة بالإمبراطوريات الأوروبية والآسيوية، نافيًا قدرتها على أن تترك من تلقاء ذاتها آثارًا تدل على حضارة.
من هنا، في كتاب «عظام ورفات: كيف تناول علماء إفريقيا الجنوبية العرق؟» Bones and Bodies: How South African Scientists Studied Race، يصحبنا آلان موريس، المتخصص في علم تشريح الإنسان، في رحلة إلى الماضي ليفضح تلك التفسيرات المشينة والعنصرية للأحافير والقطع الأثرية التاريخية الثمينة، المرتبطة بأصل الإنسانية. ويا لها من جولة مذهلة، ومحبطة، وملهمة في الوقت ذاته! فمن خلال التنقيب في نتاج ما يزيد عن مئة عام من الأبحاث، يقدم كشفًا صارخًا للممارسات التي انتهجها متخصصون في علم الإنسان القديم، لاختلاق تبرير "علمي" للمكانة الدُنيا على السُلم التطوري التي سلّموا بانحدار ذوي الأصول الإفريقية منها، لا سيما في جنوبي إفريقيا. وكيف أن هذا التبرير أصبح جزءًا من مساع ممنهجة لضمان حرمان الشعوب الإفريقية من حقوقها.
تاريخ مظلم وطويل
لم يكن العالم الأسترالي دارت إلا واحدًا من الأعلام الذين وضعوا جنوبي إفريقيا على خارطة علم الإنسان القديم. ومن بين الأعلام الآخرين، نجد العالم توماس دراير الذي اكتشف في عام 1932 جمجمة عمرها 259 ألف عام لأحد أفراد إنسان هايدلبيرج Homo heidelbergensis في جنوب إفريقيا. فضلًا عن ماثيو درينان، الأسكتلندي الذي هاجر إلى جنوب إفريقيا عام 1913 ليصبح محاضرًا في علم التشريح، في المؤسسة التي شكلت نواة جامعة كيب تاون الحالية. وروبرت بروم الذي بدأ يجمع المئات من عينات القردة الجنوبية australopithecine. بما في ذلك أول عينة لبالغ من أشباه البشر من نوع «القرد الجنوبي الإفريقي»A. Aficanus ، والتي عُثر عليها في ستركفونتاين في جنوب إفريقيا.
وعلى الرغم من العبقرية والألمعية التي اتسم بها هؤلاء العلماء، وعملهم الجاد، وحظهم الوفير، فإن دراساتهم شابتها افتراضات مُسلَّم بها، وتفسيرات عنصرية. وقد أسهموا في إرساء الركيزة "العلمية" التي استند إليها نظام الفصل العنصري بمخولات قانونية، وهو ما أسفر عن ترسيخ ممارسات حرمان شعوب جنوب إفريقيا الأصلية من السود من المعاملة المنصفة، على الصعيد الاقتصادي، والتعليمي، والإسكاني، والصحي. ومن ثَّم، خدم هذا الإطار الفكري العنصري في توجيه ممارسات نظام الفصل العنصري الذي أجازته وأعطته حكومة جنوب إفريقيا الضوء الأخضر، وأرشد خطى نظام الفصل العنصري غير النظامي الذي درجت العادة على أن يحكم التفاعلات بين الأفراد في جنوب إفريقيا.
ويسرد موريس التسلسل التاريخي لأبرز مكتشفات علم الإنسان القديم في جنوب إفريقيا، مع رسم معالم السياق الدولي لكل منها. فلا يمكن بأي حال من الأحوال انتقاص أهمية تلك المكتشفات، إذ من دونها، لاستمر تركيزنا الخاطئ على دور منطقة أوراسيا في التطور البشري. ويكشف موريس الثغرات التي دخلت منها التفسيرات المُحرَّفة والعنصرية إلى النهج العلمي. فلم يكن علماء الإنسان القديم الأوائل هؤلاء ليتصوروا، على سبيل المثال، أن السود الأصليين لجنوب إفريقيا، الذين سكنوا كهف وندروِرك في جنوب إفريقيا قبل مليوني عام مضت، قد انبثقت عنهم سلالات أنشأت مدنًا حجرية غامضة وحضارات قديمة (مثل المنازل الحجرية في زيمبابوي العظمي، التي ترجع إلى 900 عام مضت)، أو أن هذه الشعوب أنشأت واستوطنت المعمار الذي صمدت أطلاله في باكوني في ماتشادودورب، بجنوب إفريقيا، والذي يعود عمره إلى 4000 عام مضت. واستحال لهؤلاء الباحثين الإقرار بأن الإبداع والتميز الفكري الذي أظهرته الشعوب الإفريقية القديمة من السود في جنوب إفريقيا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بسكان تلك المنطقة المعاصرين، بالنظر إلى المكانة الدُنيا على السلم التطوري التي سلمّوا بأن تلك الشعوب تقبع فيها.
بعبارة أخرى، المفاهيم عن سيادة الجنس الأبيض وتميُّزه، المترسخة بعمق في أبحاث علم الإنسان القديم لم تطلق شرارة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وإنما عززته. إذ عادة ما افترض علماء التشريح، واختصاصيو علم الإنسان القديم، وعلماء الآثار في أبحاثهم أن الأفارقة يحلون في مرتبة تطوُرية دُنيا.
التصدي للعنصرية
بعد عقود من التقدم الاجتماعي بطيء الخطى في جنوب إفريقيا، وعبر ثورات أطلقت شرارتها جهات داخلية وخارجية، بدأت منظومة الفصل العنصري ترضخ للضغوط، ليتشكل عوضًا عنها سياق يمكن فيه مجابهة منظومة التحيز المجحف تلك. فأصبحت روديسيا الجنوبية في نهاية المطاف جمهورية زيمبابوي المستقلة في عام 1980. وبعدما ظل جنوب غرب إفريقيا خاضعًا لهيمنة الاستعمار في جنوب إفريقيا، حتى عام 1990، نال استقلاله ذاك العام مع ناميبيا. وانفرط عقد منظومة الفصل العنصري في نهاية المطاف، لتنشأ في عام 1994 دولة جنوب إفريقيا التي تخضع اليوم لنظام حكم أغلبية.
وقد حث هذا علماء من جنوب إفريقيا إلى التصدي للتفسيرات العنصرية للقرون الماضية. ويُعد فيليب توبياس، المتخصص في علم الإنسان القديم من جامعة فيتفاترسراند في جوهانسبرج ممن تجدر الإشارة إليهم من أولئك الباحثين. فبالإضافة إلى دوره المحوري في اكتشاف كهوف ستركفونتين في أربعينيات القرن الماضي والخمسينيات منه، نادى في العديد من خطاباته وأبحاثه الأكاديمية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بالقضاء على الفصل العنصري. كما سهَّل إعادة رفات المرأة «الخويخوئية» Khoekhoe الإفريقية، التي أُطلق عليه اسم «سارتجي بارتمان» إلى موطنها في جنوب إفريقيا، بعد عرضها بصورة مهينة في أوروبا القرن التاسع عشر، على أنها "أنثى حيوان". ومن العلماء البارزين الآخرين في هذا السياق، رونالد سينجر، وهو عالم من جنوب إفريقيا درس في جامعة شيكاجو في ولاية إلينوي الأمريكية، وقاد بعثة استكشافية في عام 1953، نتج عنها اكتشاف الجمجمة المعروفة باسم «سالدانها»Saldanha ، وهي عينة بالغة الأهمية لإنسان هايدلبيرج. وقد نجح هؤلاء الباحثون في توسيع آفاق علم الإنسان القديم. فمن خلال دعم منهجيات تسعى إلى تمثيل مزيد من الأطياف في الجهود البحثية بهذا المجال، فتحوا الباب أمام نهج أقل عنصرية في تفسير المكتشفات الأحفورية وسالفاتها.
ويستعرض كتاب «عظام ورفات« التناقضات المتأصلة في تفسير أحافير وقطع أثرية بالغة الأهمية بتبني منظور ضيق الأفق. فتلك الصدامات قد تدفع العلماء إلى اختلاق تفسيرات ملتوية تخدم مصالحهم، عند تأويل ما يقعون عليه من اكتشافات واضحة أخرى. ويتضح جليًا مما سبق أنه ينبغي لنا أن نحذر التحيزات المتأصلة المبنية على أسس غير صحيحة (التي تقوِّض في نهاية المطاف مسيرة العلوم). وقد أظهر ستيفن جاي جولد في كتابه لعام 1981 «معايير خاطئة للسمت البشري» The Mismeasure of Man أن الطبيب الأمريكي صامويل مورتن قد وضع عمدًا تصنيفًا خاطئًا للجماجم البشرية في أوائل القرن التاسع عشر، وزعم في كتابه «جماجم أمريكية» Crania Americana (1839) أن الأوروبيين امتلكوا أكبر الأدمغة، ويليهم في ذلك الأمريكيون الأصليون بأدمغة متوسطة الحجم، بينما امتلك الأفارقة السود أصغر الأدمغة، ما يجعلهم الأقل ذكاءً من بين من سبق ذكرهم. وكانت هذه محاولة لإضفاء تبرير علمي لأكذوبة الدونية الإفريقية، ولإضفاء قبول لأفكار استعباد أجناس بشرية ودونية هذه الأجناس.
وهذا التأخُر في إدراك حجم الضرر والجمود الفكري اللذين تتسبب فيهما العنصرية للعلم، يذكرنا بالمثابرة والجَلد اللذين نحتاجهما لمقاومة العنصرية. فتفوُق البيض وتميُّزهم المسلم به في كل الشؤون ظل معتادًا لفترة طويلة، إلى حد أنه تحول إلى مفهوم راسخ في المجتمعات الغربية. ومن ثمَّ، فإن دحض تلك الأفكار الراسخة، مثلما فعل موريس، يتطلب شجاعة، لا سيما إذا كان هناك طرف مستفيد من ممارسات التحيز هذه. علاوةً على ذلك، فإن الإقرار بالتحيز، وفضحه، وكشفه للعيان ليس بهذه السهولة في مجال العلوم، لا سيما في الأروقة الأكاديمية المقدسة.
ويسدي هذا الكتاب خدمة جليلة لمجالي علم الإنسان القديم، وبيولوجيا الإنسان، بتصديه للتصنيفات العنصرية في تخصصيَّ هذين. ففي مجتمع يسود فيه البيض، يشعر ذوو ألوان البشرة المغايرة في كثير من الأحيان بمسؤولية تقع على عاتقهم بالتخفيف من وطأة تلك العنصرية، والسعي لتهدئة النزعة الدفاعية للبيض، بما فيهم من باحثين. وهذا الخلل في رد الفعل الشعوري لإثارة قضايا كتلك يُضفي بُعدًا أعمق على رؤى موريس. فإقراره بالتحيزات التي شابت مجال العلوم في الماضي يُعد بالغ الأهمية، لتصحيح مسار التاريخ العلمي، وتقديم إرشادات تحذيرية للباحثين حاضرًا ومستقبلًا.
اضف تعليق