يسفر حمض نووي قديم استُخلِص من أسنان بشر عاشوا قبل زمن بعيد، عن معلومات جديدة حول تاريخ عدد من مُسَبِبات الأمراض وحاضرها، فللمرة الأولى، كشف باحثون النقاب عن جينومات لفيروسات هربس قديمة وعيَّنوا تسلسلها الجيني، بعد استخلاصها من بقايا أسنان أوربيين قضوا نحبهم قبل زمن طويل...
بقلم: فريدا كرايَر
يسفر حمض نووي قديم استُخلِص من أسنان بشر عاشوا قبل زمن بعيد، عن معلومات جديدة حول تاريخ عدد من مُسَبِبات الأمراض وحاضرها، فللمرة الأولى، كشف باحثون النقاب عن جينومات لفيروسات هربس قديمة وعيَّنوا تسلسلها الجيني، بعد استخلاصها من بقايا أسنان أوربيين قضوا نحبهم قبل زمن طويل. وتجدر الإشارة إلى أن سلالة فيروسات الهربس التي تسبب اليوم تقرحات شفاه بين البشر، والمعروفة بسلالة فيروسات الهربس البسيط من النوع الأول (HSV-1)، ساد فيما مضى اعتقاد بأنها ظهرت في إفريقيا قبل أكثر من 50 ألف عام. غير أنه مؤخرًا، نشرت دورية «ساينس أدفانسز» Science Advancesفي السابع والعشرين من يوليو1 الماضي بيانات تشير إلى أن السلالة نشأت قبل نحو 5 آلاف عام خلال العصر البرونزي.
وتدل هذه النتائج على أن التغيرات التي طرأت على الممارسات الثقافية خلال العصر البرونزي، ومن بينها بدء طبع القبلات في العلاقات الرومانسية، ربما لعب دورًا في انتشار فيروس الهربس البسيط من النوع الأول انتشار النار في الهشيم.
تعقيبًا على ذلك، تقول كريستيانا شيب، اختصاصية البيولوجيا الجزيئية للآثار من جامعة تارتو في إستونيا، إن هذه الدراسة وغيرها من الدراسات التي تناولت الحمض النووي المُستَخلَص من حفريات سِنية تقودنا إلى معلومات مثيرة للدهشة عن تاريخنا المشترك مع مرض الهِربس. وتضيف: "مُسَبِبات الأمراض التي نتعرَّض لها اليوم كافة، كانت فيما مضى ممْرضات مُعدية مستجدة. لذا، من المُهِم دراسة الحمض النووي القديم حتى نتمكن من فهم تجربتنا السابقة مع هذه المُمْرضات، وحماية الأجيال القادمة من الأوبئة".
وتُعد الحفريات السِنية كنزًا يزخر بالحمض النووي القديم ويحفظه على نحو جيد، نظرًا إلى قدرتها على حماية الجزيئات البيولوجية من التحلل. ويُذكر أنه في العقد الماضي، بالاستعانة بالحمض النووي الذي وُجد في هذه الحفريات، استخدم العلماء تقنيات متطورة وعالية الكفاءة لتعيين التسلسلات الجينية لهذا الحمض، وتكوين تصوُّر عن جينومات لقي أصحابها من البشر والحيوانات حتفهم قبل زمن طويل، وأقدمها يعود لحيوانات ماموث اندثرت قبل 1.6 مليون سنة.
ومن خلال هذه التقنيات، نجح العلماء أيضًا في فرز المواد الوراثية للبكتيريا والفيروسات التي احتفظت بها الحفريات السِنية. إذ تتصل الأضراس والقواطع وما شابهها في الجذور التي تنتبت منها بأوعية دموية. وعليه، عندما يموت شخص أو حيوان، تصبح هذه العظام السِنية بمثابة مستودعات تحفظ أيَّة مُسَبِبات أمراض سرت في مجرى دَّمه وقت الوفاة.
واكتشاف دور الأسنان كمستودعات لمسَبِبات الأمراض فتح أمام دراسات الأمراض القديمة الباب لـ"طفرة معرفية لم تسنح قط"، على حد تعبير مارتن سيكورا، الباحث في علم دراسة الجينومات القديمة من جامعة كوبنهاجن.
وقد زوَّدَت هذه المعلومات الوراثية الباحثين بأدلة تستند إلى دراسات للبِنى البيولوجية الجزيئية، يمكن من خلالها الوقوف بدقة على توقيت ظهور مُسَبِبات أمراض بعينها ومكان نشأتها في شتى الحقب الزمنية، على حد ما أفاد به سيكورا. على سبيل المثال، في عام 2013، استخدم علماء الحمض النووي المُستَخلَص من الحفريات السِنية للتحقق من أن طاعون جستنيان، الذي اجتاح دول البحر الأبيض المتوسط وشمال أوروبا في القرن السادس الميلادي، شكَّل أول تفشٍ كبير لسلالة «اليرسينيا الطاعونية» Yersinia pestis2 البكتيرية. وفي يونيو الماضي، ذكرت مجموعة مختلفة من الباحثين أن هذه السلالة التي انطلق منها الطاعون الأسود — الذي قتل ما يزيد على 60% من البشر في بعض أجزاء أوراسيا إبان القرن الرابع عشر — يرجح أنها ظهرت في ما بات يُعرف بدولة قيرغيزستان، وذلك استنادًا إلى حمض نووي جُمع من أسنان قدماء عُثِر على رفاتهم في تلك المنطقة.
التمحيص في الرفات
دراسة الحمض النووي القديم من شأنها أن تساعد أيضًا الباحثين في معرفة تاريخ مُسَبِبات أمراض أقل فتكًا، مثل سلالة الهربس الفموي التي تصيب حاليًا نحو ثلثي الأشخاص دون سن الخمسين على مستوى العالم. وقد عكفت شيب وفريقها البحثي في عام 2016 على البحث عن آثار لبكتيريا «اليرسينية الطاعونية» في بقايا أسنان عمرها 600 عام لمراهق، تُوفيَّ في مستشفى سان جون خلال العصور الوسطى في بلدية كامبريدجشاير بالمملكة المتحدة. وقد عثر الفريق ذاك العام على تسلسلات جينية يبدو أنها تتطابق مع تلك التي تميِّز فيروس الهربِس البسيط من النوع الأول.
تعقيبًا على ذلك، تقول شيب إنه حتى تلك النقطة: "لم تكن أية أوراق بحثية قد نُشرت عن تسلسلات الحمض النووي التي ميزت فيروسات الهربس قديمًا". وكان الجينوم الأقدم على الإطلاق لفيروسات الهربِس قد عُزل من شخص عاش في نيويورك عام 1925. وقاد هذا الاكتشاف شيب وفريقها البحثي إلى تقصي وجود آثار لفيروسات الهربس في بقايا أحفورية أخرى. ولتحقيق ذلك، احتاج الفريق إلى العثور على أشخاص لقوا حتفهم من جراء الإصابة بعدوى نشطة بهذه الفيروسات. ويُذكر أن فيروس الهربس البسيط من النوع الأول، يقضي معظم وقته كامنًا في الجهاز العصبي لمضيفه. وفي أوقات الإجهاد الخلوي، ينتقل إلى مجرى الدَّم ويتفاقم انتشاره ليشكل قُرَحًا شبيهة بتلك التي تميز نزلات "البرد".
وبعد فرز عشرات الرُفات، عثر الفريق في نهاية المطاف على الحمض النووي لفيروسات الهربس في أسنان ثلاثة أشخاص لقوا حتفهم من جراء عدوى نشطة بهذه الفيروسات، واستخلص الحمض منها. وكان من بين الرفات واحدًا يعود لامرأة شابة دُفنت في القرن السادس الميلادي خارج ما يُعرَف حديثًا بمدينة كامبريدج بالمملكة المتحدة.
ومن خلال دراسة الطفرات الجينية التي نشأت على مدى تطور الجينومات الأربعة القديمة لفيروسات الهِربس، ومقارنتها بالسلالات الحديثة من فيروسات الهربس البسيط من النوع الأول، خلص الفريق البحثي إلى أن جميع هذه الفيروسات انحدرت عن سلف مشترك ظهر قبل حوالي 5000 عام. وقد سبق ذلك انتشار لأنواع مختلفة من فيروسات الهربس، على حد ما أفادت به شيب. بيد أن فيروس الهربس البسيط من النوع الأول تطور مكتسحًا خلال انتشاره الأنواع السابقة.
سبب الانتشار
لا يزال سبب تفوُّق هذه السلالة الجديدة من الهربس على سابقاتها غير واضح. بَيْدَ أن شيب تفيد بأن تحليلات فريقها البحثي تشير إلى أن فيروسات هذه السلالة ظهرت خلال فترة شهدت هجرة مكثفة إبان العصر البرونزي، وربما تكون قد انتقلت مع مهاجرين إلى أوروبا من أراضي السهوب العشبية في أوراسيا.
ولعلها انتشرت مع تزايُد ممارسة طبع القبلات، والتي نشأت قبل قرابة 3500 عام في شبه القارة الهندية، ثم جرى تبنيها لاحقًا في أوروبا، خلال الحملات العسكرية للإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد. وينتقل الهربس عادة إلى الطفل من أحد أبويه عبر المخالطة الوثيقة. ويرى الفريق البحثي أن ممارسة طبع القبلات ربما فتحت أمام فيروس الهربس البسيط من النوع الأول مسارًا أسرع لإصابة البشر، ويُحتمل أنها ساعدته على التفوق على سلالات الهربِس السابقة.
ويقول سيكورا إنه، من الناحية النظرية، بإمكان الباحثين تعيين تسلسل الحمض النووي لكائنات ممْرِضة أصابت بشرًا وحيوانات أقدم، قد يمتد تاريخها إلى مليون عام مضت. وهو ما من شأنه أن يسمح للعلماء بجمع المعارف عن الكائنات المُمْرِضة التي أصابت الأنواع البشرية القديمة، مثل إنسان نياندرتال وإنسان دينيسوفا. غير أن وجود بعض العقبات التقنية في هذا السياق يجعل قدرة الباحثين على تعيين التسلسلات الجينية لهذه الممْرِضات قاصرة على الكائنات المُمْرضة التي تملك حمضًا نوويًا مزدوج الشريط، وهو ما يقصي من دراساتهم عديدًا من فيروسات الحمض النووي الريبي المهمة، مثل تلك التي تسبب شلل الأطفال والحصبة.
ومع ذلك، فإن الحمض النووي القديم يتيح لنا نافذة على تاريخنا المشترك مع عدة أمراض، على حد قول سيكورا. ويضيف: "لقد أخذ تطوُّر هذا المجال يكتمل. وأتوقع أن نكشف النقاب عن رؤى متعمقة جديدة تحظى بكثير من الاهتمام في العامين المقبلين".
اضف تعليق