إن الاتفاقية الجديدة، التي أُبرِمَت في قمة المناخ السادسة والعشرين، والتي تقضي بتقديم الحكومات تقارير سنوية توضح التقدُّم المُحرَز في المسار المناخي، يُفترض أن تساعد على مواصلة الضغط المبذول على الحكومات، لحملها على التحرك في ملف التغير المناخي، إلا أن العلم والابتكار تحظيان بأهمية مماثلة في الدفع باتجاه سياسات مناخية...
أسهمت قمة المناخ السادسة والعشرون في إعطاء دَفعة للمساعي العالمية الرامية إلى إيقاف عجلة الاحترار العالمي.. والبحث العلمي في القلب من هذه المساعي.
شهدت مدينة جلاسجو بالمملكة المتحدة أواخر العام المنصرم انعقاد قمة المناخ الكبرى (المؤتمر السنوي السادس والعشرين لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ). وقد خلقت هذه القمة الزخم المنشود في الأوساط السياسية وقطاع الأعمال، في محاولةٍ لوضع حد للتغير المناخي. وهذا العام، الذي نحنُ في مستهلِّه، يُتيح فرصة أمام العلماء على اختلاف تخصصاتهم للاستفادة من خبراتهم، وللتأكيد على أن لهم نصيبًا من الجهود الهائلة المبذولة على هذا الصعيد.
الأمرُ الذي لا مراء فيه هو أن العلم يشكِّل جزءًا لا يتجزأ من أجندة المناخ الرسمية التي تتبناها الأمم المتحدة لعام 2022. ومن المُزمَع أن تُصدر الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) في فبراير المقبل تقييمها لآخر الأبحاث التي تتناول كيفية تأثير الاحترار المناخي على البشر والأنظمة الإيكولوجية. وفي شهر مارس، يُنتظر أن تقدِّم الهيئة تحليلًا للخيارات الرامية لكبح جماح الانبعاثات، وإيقاف عجلة الاحترار العالمي. وبالنظر في هذا التحليل، مقترنًا بتقرير العام الماضي بشأن علم المناخ، سيكون في إمكان حكومات العالم إلقاء نظرة شاملة على أحدث الأبحاث المعنية بالتغير المناخي. على أن إسهام المجتمع البحثي يتجاوز أعمال الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى ما هو أبعد من ذلك.
يتربع مفهوم الابتكار على أجندة المناخ التي تطرحها الحكومات. ولا شكَّ أن التقنيات الحالية، كتقنيات توليد الطاقة من الرياح وأشعة الشمس، والتي تراجعت أسعارها على مدار العقد الماضي، إضافةً إلى أنظمة الإضاءة والمباني والمركبات الأكثر كفاءة، كل هذه التقنيات سوف تُسهم في خفض الانبعاثات. ولكن إذا أُريدَ للطاقة الخضراء أن تزيح الوقود الأحفوري بصوره المختلفة من مكانها، وتلبي الطلب المتزايد على مصدر للطاقة يمكن الاعتماد عليه في البدان منخفضة الدخل، فلا بديل عن الاستعانة بالعلماء والمهندسين لحل طيفٍ عريض من المشكلات، من بينها إيجاد وسائل لخفض سعر تخزين الطاقة الكهربائية على نطاق واسع، والتصدي للتحديات التقنية التي تنشأ عند دمج كميات هائلة من الطاقة المتجددة المتقطعة. وفضلًا عن ذلك، سيكون على العاملين في ميدان البحث العلمي تقديم جيل جديد من المركبات ميسورة التكلفة، التي تعمل بالكهرباء والهيدروجين، وتطوير أنواع من الوقود منخفض الكربون، لتشغيل المَركبات التي يتعذَّر تشغيلها بالكهرباء، مثل الطائرات.
أكبر الظن أن مثل هذه الاستخدامات لن تحقق الاكتفاء من الطاقة النظيفة، حتى في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا، لتمكين البلدان من الوفاء بالتزاماتها تجاه المناخ. فسوف يلزم الاعتماد على مزيد من الابتكار، في صورة تقنيات قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء الجوي، على سبيل المثال، وهي تقنيات لا يزال يتعين إخضاعها للاختبار، وإظهار فاعليتها على أي نطاق معتبر. علاوًة على ذلك، ينبغي على الحكومات وجهات التمويل دعم العلماء في جهودهم الساعية إلى فهم مدى أمان وفاعلية طائفة متنوعة من تقنيات الهندسة الجيولوجية المثيرة للجدل (ومنها طرق تبريد الكوكب اصطناعيًا، كإضافة جسيمات إلى طبقة الاستراتوسفير لعكس ضوء الشمس إلى الفضاء)، لتحديد ما إذا كان ثمة داعٍ لمجرد التفكير في مثل هذه البدائل.
ثمة دلائل على الدعم المتجدد المقدم للبحث العلمي والابتكار، لمساعدتهما على التعامل مع قضية التغير المناخي. فقد أعلن 22 بلدًا، إلى جانب المفوضية الأوروبية، في جلاسجو عن خطط للتعاون بشأن الابتكار المُنصَبّ على تخضير المدن، والحد من الانبعاثات الناتجة عن النشاط الصناعي، والترويج لاحتجاز ثاني أكسيد الكربون، وتطوير أنواع الوقود، والكيماويات، والمواد المتجددة. وإلى ذلك، أزاحت المفوضية الأوروبية الستار عن جهود لتوجيه موارد مالية جديدة نحو مشروعات إيضاحية، تهدف للإسهام في طرح التقنيات منخفضة الكربون لطرحها على المستوى التجاري. كما أن الصين، التي تعتلي قائمة بلدان العالم من حيث حجم انبعاثات غازات الدفيئة، تعكف على إنشاء بنية أساسية هائلة للبحث العلمي، تتركز حول التقنيات التي ستساعد في القضاء على الانبعاثات الكربونية.
ومما يُذكر في هذا الصدد أن الديمقراطيين في الولايات المتحدة، تحت قيادة الرئيس جو بايدن، قد جعلوا الابتكار محورًا للجهود المبذولة لمعالجة مسألة التغير المناخي. صدر مشروع قانون في نوفمبر الماضي، حظي بموافقة الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ومن المتوقع أن يزيد من حجم الاستثمارات في مجال البنية التحتية الخضراء، إلى جانب تقديم ما يقرب من 42 مليار دولار أمريكي لأغراض البحث والتطوير المعنية بالطاقة النظيفة في وزارة الطاقة الأمريكية على مدار السنوات الخمس المقبلة، أي ضعف الميزانية المرصودة لهذا لغرض حاليًا على وجه التقريب، وفقًا لما ذكرته «مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار»، وهي مركز بحثي مقره في واشنطن العاصمة. ويتطلع الديموقراطيون إلى تمرير مشروع قانون لإقرار ميزانية أكبر هذا العام، تتضمن 550 مليار دولار أمريكي لتمويل برامج المناخ والطاقة النظيفة. تشير النماذج الاقتصادية إلى أن الطفرة الراهنة في الإنفاق يمكن أن تسهم في خفض الانبعاثات خلال العقد المقبل، إلى حين ظهور التقنيات التي ستلعب دورًا حيويًا في القضاء على انبعاثات غازات الدفيئة في النصف الأخير من القرن الحادي والعشرين.
وإلى جانب تمكين الابتكار الأخضر، فإن للعلماء دورًا هامًا ينبغي أن يؤدوه، يتمثل في تقييم السياسات المناخية، ومراقبة التزام الحكومات والمؤسسات بالتعهدات التي قطعتها. كثير من المبادرات التي لاقت دعمًا في قمة المناخ الأخيرة تحتاج إلى تتكئ على أساسٍ من العلم لكي يتسنَّى لها النجاح. ومن ذلك تقييم كيفية إنفاق الأموال المرصودة لقضية المناخ، وهي الأموال التي خصصتها البلدان الغنية لمساعدة البلدان منخفضة الدخل في تقليل الانبعاثات، والتعامل مع التغير المناخي. ثم إننا في حاجة إلى البحث العلمي من أجل فهم تأثيرات عمليات تعويض الكربون، وتجارة الانبعاثات الكربونية، وهما من السياسات التي جرى الاتفاق في قمة المناخ السادسة والعشرين على وضع قواعد جديدة لتنظيمها.
أما علم المناخ، فلابد له أيضًا من مواصلة العمل على قدمٍ وساق، مقدمًا يد العون للحكومات والمجتمعات، في سبيل فهم تأثير التغير المناخي. من فيضانات ألمانيا حتى حرائق أستراليا، رأينا كيف أن مجال إسناد المناخ، وهو المجال الآخذ في التطور، قد أثبت بما لا يدع مجالًا لشك أن للاحترار العالمي يدًا في مآسٍ عدة. ومن شأن عِلم الإسناد المناخي، أيضًا، أن يسهم في إثراء الجدل الجيوسياسي الدائر بشأن الأطراف التي يجب أن تتحمل التكاليف المتزايدة للكوارث الطبيعية المرتبطة بالمناخ، في ظل سعي كثير من البلدان منخفضة الدخل للحصول على تعويضات من البلدان الغنية المسؤولة حتى الآن عن القسم الأكبر من انبعاثات غازات الدفيئة.
من المزمع أن تجري مناقشة هذه القضايا وغيرها مرةً أخرى في نوفمبر المُقبل، ضمن فعاليات قمة المناخ السابعة والعشرين، المقرر انعقادها في مدينة شرم الشيخ المصرية؛ حيث سيكون من الأهمية بمكان الحرص على مشاركة الجميع، ودعم الأبحاث العلمية لرصد المناخ والابتكار في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في البلدان الأشد ثراءً.
إن الاتفاقية الجديدة، التي أُبرِمَت في قمة المناخ السادسة والعشرين، والتي تقضي بتقديم الحكومات تقارير سنوية توضح التقدُّم المُحرَز في المسار المناخي، يُفترض أن تساعد على مواصلة الضغط المبذول على الحكومات، لحملها على التحرك في ملف التغير المناخي، إلا أن العلم والابتكار تحظيان بأهمية مماثلة في الدفع باتجاه سياسات مناخية أكثر جرأة من أي وقت مضى.
اضف تعليق