تضمن الشرعة الدولية والوطنية حقوقاً وحريات للطفل بوصفه إنساناً في جميع مراحل حياته وتجرم كل صور انتهاك تلك الحقوق والحريات التي من شأنها ان تجعله يعيش في بيئة مضطربة لا ترعى خصوصيته وكرامته البشرية.
فعلى سبيل المثال تنص المادة التاسعة عشر من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 على جميع الدول اتخاذ جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف والضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على الإهمال وإساءة المعاملة أو الاستغلال، وأضاف الدستور العراقي لعام 2005 في المادة التاسعة والعشرون تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة وترعى النشء والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم، وانتهى البند الرابع من المادة عينها إلى منع كل أشكال العنف والتعسف في الأسرة والمدرسة والمجتمع، ولما كان الدستور أعلى القوانين واسماها منزلة والملزم للسلطات كافة واتفاقية حقوق الطفل باتت جزء من القوانين العراقية بعد المصادقة عليها بالقانون رقم (3) لسنة 1994 ما يعني وجوب حظر العنف تجاه الأطفال، وبعبارة أخرى هنالك التزام قانوني على الجميع أفراداً وسلطات عامة مقتضاه عدم استعمال العنف تجاه الجميع والأطفال خاصة، سواء اتخذ العنف صورة الإضرار بالبدن أو بالقوى والملكات العقلية والإدراكية أو النفسية، يستوي في ذلك ان يكون فعل الاعتداء ايجابياً أو سلبياً ناتج عن تعمد ام إهمال أو إساءة معاملة أو استغلال.
وكل أنواع العنف والتسلط وتجاوز الحدود بالعدوان على حقوق الغير وحرياته ويشار ان الاعتداء قد يصدر من أحد البالغين أو الأحداث ازاء الطفل ولا فرق بين ان اتحد المعتدي والمعتدى عليه بالجنس ام اختلفا، الا ان ما نود التركيز عليه هو العدوان الصادر من حدث ضد حدث أخر، وهو تسلط الأقران (التنمر) الذي يعد واحداً من الاعتداءات التي تطال الأطفال أحياناً ويحدث بصورة متكررة حينما يكون هنالك اختلال في موازين القوة العضلية والبناء الجسماني أو الملكات الذهنية اذ يشعر الحدث الضحية بالضعف والعجز عن الدفاع عن نفسه ورد العدوان وفي الوقت الذي يشعر الطرف الآخر بالقوة والاقتدار فيجنح إلى تحقير الغير والمساس بسلامته الجسدية بالضرب أو غيره.
ويحدث التسلط بين الأقران من جنس واحد، وتزداد هذه الظاهرة وضوحاً في أوساط المدارس لاسيما الابتدائية أو الدراسة الأساسية والمتتبع يلاحظ بجلاء اعتياد بعض التلاميذ في إيذاء بعضهم البعض الآخر بل يشاهد العديد منهم يمارس هواية ركل الآخرين أو التلفظ بحقهم ألفاظاً غير لائقة ما تخلف شعوراً بالإهانة ويصل الأمر إلى التهديد وإتلاف بعض الممتلكات ما يجعل الطفل في حالة من الخوف والقلق يظهر بصورة التمنع من الذهاب إلى المدرسة.
والطفل الذي يمارس سلوك الاعتداء أو التسلط هو الآخر يعاني من اختلال في حياته ناتج بالدرجة الأساس إلى عوامل عدة على رأسها الفقر أو فقدان أحد أو كلا الأبوين أو غياب دورهما في تربيته وتأديبه أضف إلى عوامل البيئة المحيطة التي تجعل منه طفلاً جامحاً ميالاً للإيذاء ويشعر باللامبالاة، ويمكننا ان نحصر بعض من هذه الأسباب ونبينها بالاتي:-
1- الشعور بالإحباط نتيجة حالة الفقر المدقع عند بعض من الأسر لاسيما في الأحياء والمناطق النائية التي يكون جل بيوتها من الصفيح والآيلة للسقوط ويعشعش فيها العوز والحاجة وتتسبب بشعور مبكر بالإحباط من كل شيء ما يسهم في جنوح البعض منهم نحو العنف.
2- الشعور المزمن بالقلق وانعدام الثقة بالمجتمع الذي يعيش فيه لافتقاره لأبسط مقومات الحياة الكريمة.
3- يزداد ميل العديد من الأطفال للعنف نتيجة التعرض لسنوات طوال لشتى صور العنف الأسري والمجتمعي نتيجة غياب وعي الأب أو الأم بأساليب التربية الصحيحة للأطفال فيتعمدان تعنيفه بشكل قاسي وتكرار الاهانات بحقه كما يتعامل سائر أفراد المكان الذي يمارس فيه الطفل العمل بسن مبكر بخشونة معه ما يخلف أثاراً سلبية تظهر في سلوكياته مع الأقران بشكل خاص والمجتمع بشكل عام في المستقبل.
ولا يمكن ان نتصور ان هذه السلوكيات غير المنضبطة من الأطفال تجاه بعضهم البعض مشكلة محلية في العراق بل هي معضلة عالمية تظهر في جميع الدول على حد سواء بل ان الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها من الدول المتقدمة تشهد أنماطاً مستحدثة من عنف الأحداث ضد بعضهم البعض لا أقلها التسلط عبر الانترنيت وتوجيه رسائل اليكترونية تتضمن صوراً أو مقاطع فيديو غير لائقة من شأنها ان تستغل للتهديد أو الإيذاء والمضايقة وهذا ما أكدته تقارير منظمة الصحة العالمية (اليونسيف)والتي نشرت على موقعها الاليكتروني العام 2014 تحت عنوان (Unicef/hidden in plain sight a statists call analysis of violence against children 2014)، وان أنماط التسلط منتشرة بين الأولاد من الذكور أكثر منها بين الفتيات الا ان الإناث يمارسن نوعاً من العنف وتسلط أقران يظهر بأشكال نفسية وكلامية ومن أهم مظاهرها (الاهانات اللفظية والشتم والتنابز بالألقاب، الضرب غير المبرح والعدوان المباشر والسرقة، التهديد ونشر الشائعات والإقصاء اجتماعياً بفرض نوع من العزلة، وقد يتطور الأمر إلى الاعتداءات ذات الإيحاءات الجنسية).
وبالعودة إلى الواقع العراقي نلاحظ ان ما تقدم متحقق بشكل يومي ومتكرر وان هنالك فئات معينة هي الأكثر تضرراً نتيجة التسلط لاسيما الأطفال من ذوي البنية الجسمانية الضعيفة أو الذين يعانون من العاهات الظاهرة وبعبارة أخرى ان ضحايا العنف والتسلط بالغالب هم من ذوي الاحتياجات الخاصة كالمصاب بالمهق أو شلل أو ضعف البصر أو التشوهات المختلفة، بل ان المؤسسات الرسمية لاسيما المدارس عادة تخلو من مرافق وتجهيزات تراعي متطلبات هذه الفئات فيكونوا معرضين لنوع من العنف أو الاستهزاء والتنكيل رغم ان المشرع العراقي ألزم الحكومة بمراعاة ذلك بقانون رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة رقم (38) لسنة 2013.
ويتسبب بالغالب العدوان والتسلط على الحدث بآثار عدة تنعكس على حياته أهمها التأثير المباشر على النمو الطبيعي لجسم الطفل وسينعكس الامر على نمو وتكامل ملكاته الذهنية ويرجح ان يكون ميالاً للانتقام فضحية تسلط الأقران قد يكون عدوانياً في سلوكه الأمر الذي يزيد من مخاطر العنف والتسلط بل ان الحدث الذي يعتاد ممارسة تعنيف الآخرون يرجح بالمستقبل ان يعاني العزلة والاكتئاب نتيجة الاضطرابات التي يتعرض لها.
إن ظاهرة انتشار التسلط بين الأقران يمكن ان تكون معقدة أكثر مع نمو ظاهرة التعامل مع شبكة المعلومات والاتصالات العالمية (الانترنيت) عبر مواقع التواصل بين المراهقين ومن هم دون سن (20) سنة عموماً ما ينذر بمشكلة معقدة حقيقية لعدة أسباب في مقدمها سهولة التأثير على هذه الفئات العمرية من الأقران وغيرهم في غرف الدردشة المغلقة ومواقع الإرهاب أو الرذيلة، بل قد يتمكن أحد الأولاد من استدراج الفتاة التي لا تعي خطورة المنزلق الذي قد تقع فيه ان أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة المجتمع العراقي المحافظ وتفكير أفراد الأسر بارتكاب جريمة قتل أو التهديد بالقتل أو إحداث العاهات المستديمة للحفاظ على الشرف.
فقد أضحت الهواتف النقالة وأجهزة الحاسوب بيد هذه الفئة من الأحداث أمر مألوف من قبل أولياء الأمور بل باتت تشكل جزء من ممتلكات الأطفال دون سن العاشرة من العمر أيضاً وما تقدم سيزيد الامر سوءً في مثل ظروف وواقع العراق الذي تزخر فيه وسائل الاتصال والتواصل، وتشير التقارير ذات الصلة إلى تزايد ظاهرة التحرش الجنسي على صفحات الفيس بوك وينشط بعض الشباب في استدراج فتيات تحت تأثير الوعود الزائفة والوعيد أحياناً ليحصلوا منها على صور أو كتابات معينة تستخدم للضغط على ارادتها والنيل من شرفها وعفتها.
وازدادت مشكلة العنف ضد الأطفال وتسلط الأقران في العراق بعد تفاقم النزوح الداخلي اذ يجد العديد من الصبية والفتيات نفسه وعائلته مهجرين في الفلوات بلا مأوى فاتخذوا من المساجد والمدارس بيوتاً ما اجبرهم على العيش بلا خصوصية بتجمع العشرات في مكان واحد بلا أي ساتر أو حجاب يحجز الآخرين عنهم فوجد العديد من الأطفال أنفسهم ضحية التعنيف المستمر نتيجة الاحتكاك بالآخرين ليل نهار أضف إلى ذلك ان خروجهم للعب في الأزقة والشوارع أو التحاقهم بالمدارس العمومية يجعلهم عرضة للإذلال، كما قد استغلت حالة عدم الاستقرار التي تعيشها الأسر فاضطرت إلى تزويج القاصرات من الفتيات وتعرضت البعض منهن للاستغلال الجنسي الذي يعد ابشع صور التعنيف من قبل بعض ضعاف النفوس ومن قبل الجماعات الخارجة عن شرعية القانون.
وقد لجأت بعض الأسر إلى الهجرة خارج العراق فلم يسلم أطفالهم من الاعتداء أو التسلط والتمييز بسبب الدين أو العقيدة أو الأصل الاجتماعي، كما ان البعض من الأحداث وقع ضحية المتاجرة بأعضائه أو المتاجرة بالإناث لأغراض جنسية وبيع بعض القاصرين في سوق النخاسة من قبل الجماعات الإرهابية تتويجاً للسلوك الممنهج في الاعتداء على الطفولة في العراق.
وأهم ما يمكن ان نخلص إليه من وسائل من شأنها الحد من ظاهرة العنف والتسلط على الأحداث من قبل أقرانهم أو أبناء الجنس الآخر هي الآتي:
1- التوعية بخطورة الظاهرة بشكل واسع لاسيما في أوساط الأسر والمدارس ورياض الأطفال.
2- العمل على تدريب المعلمين والمدرسين ورفع كفائتهم بشكل خاص بوسائل علمية لمواجهة جنوح بعض الأطفال إلى العنف أو التسلط على أقرانهم أو غيرهم من الأحداث.
3- تشجيع الضحايا على إبلاغ الأهل والسلطات المختصة فور وقوع أي شكل من أشكال العنف بين الأطفال أو تسلط الأقران، فأخبار الأب أو الأم أو المعلم لاشك انه سيخفف من آثار العدوان وتدخلهم ربما يقمع حصوله بالمستقبل.
4- ترميم عرى العلاقة الإنسانية بين المعلم والتلميذ وبين المعلمة وتلميذاتها بالدرجة الأولى وكسب ثقتهم.
من أجل ان يبوحوا بما يتعرضون له من مضايقات والعمل الدؤوب بمساعدة الأهل على القضاء على المسبب.
5- مغادرة ثقافة ضرب الطفل للتأديب الا في حدود ما رسمه الشرع المقدس بان يكون خفيفاً ولا يخلف ازرقاق أو احمرار الجلد من قبل أولياء الأمور والإقلاع عن العقوبات التأديبية المعنوية التي تؤدي إلى تحطيم الطفل من قبل الإباء والمعلمين.
6- ان تتبنى الحكومة العراقية بوصفها المختصة دستوريا بوضع الخطط والسياسات العامة خطة متكاملة لانتشال الأطفال من ظاهرتي العنف أو تسلط الأقران وان يسن قانون خاص ينظم مكافحة الظاهرتين في أوساط الأحداث عبر وسائل تقنية وبشرية وبرامج تدريبية متكاملة وان تأخذ المفوضية العليا لحقوق الإنسان دورها الريادي بهذا الشأن بتفعيل الرقابة والمتابعة لأماكن تواجد الأحداث في المؤسسات التعليمية أو في الأماكن العامة كالساحات والحدائق وغيرها وفي أماكن العمل، وتجارب الدول الأخرى بهذا الصدد جديرة بالإتباع كالتجربة النرويجية والفلندية التي أقرت تشريعاً خاصاً وبرنامجاً يدعى (Kiva) يقوم على خطوات أولها (الوقاية ثم المعالجة لكل حالة على حدة ثم التغيير التدريجي) وألزمت الحكومة المدارس برفع تقارير دورية بشأن تنفيذ البرنامج كما تضمن البرنامج دورات تدريبية للمعلمين لصقل مواهبهم في التصدي لظاهرتي العنف وتسلط الأقران.
7- ولما علمنا ان العراق قد صادق على اتفاقية حقوق الطفل 1989 بالقانون رقم (3) لسنة 1994 فأضحت جزء من القانون العراقي وبما ان الاتفاقية تحرم كل عدوان على الطفل بكل الصور والأشكال فمن هنا تنهض مسؤولية الحكومة العراقية في التصدي لظواهر العنف في المدرسة والمجتمع والأسرة في الوقت الذي نلاحظ ان الحكومة اتخذت جانب الصمت رغم الوجوب الذي أوردته المادة (29/رابعاً) من الدستور في هذا الشأن.
وبهذا الخصوص يمكننا القول ان إهمال الحكومة ساهم في جنوح العديد من الأحداث نحو العنف أولاً ثم الجريمة ثانياً وتسارع بعد ذلك الأجهزة الأمنية للتصدي لهم بالقوة ويساق العديد منهم للمحاكم أو يفقد حياته أو استقراره الاجتماعي ومستقبله، ولو نظرنا بتجرد لوجدنا الحكومة أسهمت بظاهرة الجنوح لعدة أسباب ينبغي تداركها على رأسها الفقر المدقع ونقص أو انعدام الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية وغياب الدور التوجيهي للأجيال وتركهم ضحية الصراع الدائر بالبلد ولقمة سائغة للمتطرفين والانتهازيين.
8- غياب الرقابة الحكومية على المنافذ الحدودية والسماح للتجار الجشعين باستيراد العاب الأطفال المشجعة على العنف والمرسخة لثقافة العدوان على الآخرين بالرغم من قيام البرلمان العراقي بإصدار القانون رقم (2) لسنة 2013 الذي يحظر استيراد الألعاب المحرضة على العنف.
9- ان تأخذ المؤسسة الدينية ومنابر الجمعة والوعظ والإرشاد دورها المحوري بهذا الصدد في توعية الآباء والأمهات والمربين بمخاطر الظاهرتين وضرورة التعاطي بإيجابية مع كل من الضحية والمعتدي فكلاهما لم يبلغ الحلم.
10- ان تأخذ المفوضية العليا لحقوق الإنسان بالنموذج الأمريكي بالتأسيس لمواقع اليكترونية تتاح عليها المعلومات اللازمة للآباء والمعلمين وحتى الأحداث في كيفية التعاطي مع الاعتداءات المختلفة وفتح نافذة تلقي الاخبارات ومتابعتها ميدانياً من خلال فرق مختصة في كل محافظة عراقية.
11- إن تأخذ وزارة الثقافة العراقية دورها الريادي في التأسيس لثقافة احترام الآخر وبالخصوص ذوي الاحتياجات الخاصة وتقبلهم في المدارس أو رياض الأطفال بإنتاج أفلام كارتونية تصور الفضيلة المتمثلة بالإحسان إليهم وتشجيعهم على ممارسة حياتهم الطبيعية وتؤكد خطأ السلوك الذي ينتهجه بعض الصبية أو الفتيات في ممارسة التعنيف أو التسلط عليهم.
12- ضرورة تكاتف الجهود الرسمية مع منظمات المجتمع المدني وبالتعاون مع الآباء والمعلمين لمتابعة ومراقبة سلوك الأحداث على الانترنيت وشبكات التواصل وترشيد ذلك الاستعمال لمنع الوقوع في مهاوي الخطأ ومنزلقات الرذيلة التي ستأثر على حياتهم والى الأبد.
...................................................
اضف تعليق