إنسانيات - حقوق

الحق في الخصوصية الرقمية

بعض الشركات العالمية ولاسيما المتخصصة بعالم التواصل أو المعلوماتية تتكدس لديها بيانات شخصية لملايين البشر ويمكن لها إساءة استعمالها بشتى الطرق لا أقلها خطرا تعريض هذه البيانات للذكاء الاصطناعي ما يجعل الفرد بحالة من الضيق أو الحرج بسبب ظهور الإعلانات التي تحاكي اهتماماته أو بياناته أو مضايقته...

يتزايد حول العالم وبشكل يومي عدد مستخدمي التقنيات التكنولوجية والوسائط المرتبطة بها كالانترنيت والخدمات التي تدعمها مثل وسائل التواصل الاجتماعي، لذا يبرز على السطح مشكلة طالما أرقت الجميع ألا وهي "الخصوصية" سواءً الرقمية أو الافتراضية.

ومما لا شك فيه إن للإنسان الحق الكامل بالانفراد بمعلومات أو بيانات أو غيرها لها نمط من الخصوصية أو السرية ولا يمكن كشفها بأي حال من الأحوال، وعلى الجانب الآخر وفرت التقنيات الحديثة وسائل عدة يمكن للبعض ان يستغلونها للعدوان على هذا الحق، كما إن بعض الأنظمة الحاكمة هي الأخرى يمكن ان تتعسف بسلطاتها بحجة حماية أمن النظام أو المجتمع لتمارس شتى صور التجسس أو الاختراق وتجمع من البيانات ما من شأنه ان يجعل الحق المتقدم مجرد من مضمونه الحقيقي.

ولا يفوتنا إن بعض الشركات العالمية ولاسيما المتخصصة بعالم التواصل أو المعلوماتية تتكدس لديها بيانات شخصية لملايين البشر ويمكن لها إساءة استعمالها بشتى الطرق لا أقلها خطرا تعريض هذه البيانات للذكاء الاصطناعي ما يجعل الفرد بحالة من الضيق أو الحرج بسبب ظهور الإعلانات التي تحاكي اهتماماته أو بياناته أو مضايقته بالتوقع لسلوكه الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، وبذا يشعر انه لا يملك أي نوع من الخصوصية الذاتية في حياته الافتراضية وانه محاصر بسبب المحاكاة التي وفرتها أنظمة الذكاء الصناعي أو بسبب سلوكيات البعض غير المتزنة.

والخصوصية مفهوم يؤشر الحق لكل فرد في حياته الخاصة بأن يحيى بالشكل الذي يحب بعيداً عن تطفل الأغيار على حياته وبياناته الخاصة، بمعنى آخر هي قدرة الفرد على التعبير عن نفسه بالشكل الذي يختار بعيداً عن الإملاءات المادية أو الأدبية أياً كان مصدرها أو سببها، فهي الحق الفردي ببقاء الحياة الخاصة طي الكتمان إن لم يختر الإنسان بشكل طوعي الإفصاح عن المعلومات الخاصة به، والخصوصية الرقمية بالمعنى المتقدم هي قدرة الفرد على الاحتفاظ بمعلوماته في العالم الافتراضي سرية وعدم إفشائها من قبل الأغيار أو الإطلاع عليها بشكل غير مشروع ومرخص، أو هي "حق يمنح الفرد في تحديد متى وكيف والى أي مدى تصل معلوماته الشخصية للآخرين".

والسؤال الذي يمكن إن يطرح للمناقشة هل إن هذا الحق مكفول للفرد الطبيعي والشخص المعنوي كالجمعيات والهيئات والأحزاب، وللإجابة نقول إن نطاق هذا الحق مكفول إلى الفرد الطبيعي دون الشخص المعنوي والعلة لاتصال الخصوصية بالجانب المعنوي (الاعتبار) وبالمشاعر والشخص المعنوي له اعتبار أو كرامة حتماً لكنه مجرد من المشاعر وبالتالي يفترض انه لا يشعر بالحاجات المعنوية كالانتماء إلى جماعة أو دين أو مذهب وإنما من يكونونه يمكن إن يتمتعوا بما تقدم فحسب، لذا يكون من حقه الاحتفاظ بسرية بياناته المالية أو المصرفية والتي تكون حتماً محلا للمراقبة المشددة من الأجهزة الرقابية في الدولة كديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة خشية استغلال البعض للشخصية المعنوية لتحقيق فوائد مالية أو غيرها بشكل غير مشروع فلا يمكن إن يكون الحق بتكوين الجمعيات أو الأحزاب باباً للتربح المادي أو غير المشروع، لذا نجد إن الدستور العراقي للعام 2005 حين تطرق للخصوصية كفلها بالمعنى الفردي للإنسان الطبيعي حيث ورد بالمادة السابعة عشر ما نصه "أولاً: لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة. ثانياً: حرمة المساكن مصونة ولا يجوز دخولها أو تفتيشها أو التعرض لها إلا بقرار قضائي ووفقاً للقانون"، وأضافت المادة الأربعون أنه "حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والإلكترونية وغيرها مكفولة ولا يجوز مراقبتها أو التصنت عليها أو الكشف عنها إلا لضرورة قانونية وأمنية، وبقرار قضائي" ومما تقدم نتلمس حرص المشرع الدستوري العراقي على الحق في الخصوصية ومنعه من الكشف عنها من قبل السلطات العامة إلا في أضيق الحدود ووفق إجراءات تتطابق مع القانون وبإذن من القضاء.

وللخصوصية الشخصية معنى ضيق يتصل بالبيانات الشخصية التي تتصل بالحالة الاجتماعية والأسرية وآخر أوسع يمتد ليضم البيانات المتصلة بالأفكار والعقائد والميول السياسية والحزبية وغيرها، ولعل الغاية من الإقرار بهذا الحق تتصل بما لايدع مجالاً للشك بالحق في الكرامة فحين تكون بعض المعلومات متاحة للعامة قد تكون سبباً للتنمر على الفرد أو للاعتداء المادي أو المعنوي عليه وقد يتطور الأمر لتكون تلك البيانات باباً للتهديد والاستفزاز وسبباً لرد فعل غير متوقع وخطير يصل أحياناً إلى الانتحار أو الإصابة بأمراض وعلل نفسية أو عقلية والعيش بحالة من العزلة كما أنها قد تكون سبباً لمشاكل اجتماعية وتؤدي إلى التفكك الأسري.

ومن الملاحظ بشكل جلي إن مصطلح الخصوصية يحمل معنى نسبي يختلف ويتباين باختلاف الظروف المحيطة بالفرد فليس من المنطقي إن نسمي المعلومات المالية للرئيس الإداري (كرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو من سواهما) أنها حق في الخصوصية بل إن الإفصاح عن ذممهم المالية واجب قانوناً عليهم خشية استغلال المنصب أو الوظيفة للتربح على حساب الوظيفة أو التكليف أو استغلال المنصب لتحقيق فائدة مادية أو ما سواها لنفسه أو لغيره، بيد إن لهؤلاء بينات تتصل بحالته الأسرية أو علاقته بزوجه أو أولاده أو مجتمعة المحيط فهي تعد من البيانات التي لا يمكن الكشف عنها أو اختراقها لكونها تتصل بحقه كمواطن في الخصوصية في العالم الحقيقي أو الافتراضي، وفي هذا المعنى نشير إلى إن قانون هيئة النزاهة رقم (30) لسنة 2011 أشار بالمادة السادسة عشر منه إلى إصدار الهيئة لائحة تنظيمية تنشر في الجريدة الرسمية للدولة لتنظم أحكام الإلزام بتقديم تقارير كشف الذمة المالية من المكلفين أو ذويهم.

وللخصوصية الرقمية العديد من المصادق التي تتطلب منا الإشارة إليها لأهميتها العلمية والعملية وتتمثل في الآتي:

أولاً: البيانات الرقمية: وتتمثل في جميع أنواع المعلومات الفردية التي يتم زجها للحصول على خدمات معينة أو لاكتساب عضوية المجتمعات الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتما اختراق هذه البيانات والوصول إليها بشكل غير مرخص يتسبب للفرد بالضرر ومن الصور الجرمية التي تتعرض لها هذه البيانات هي الاستيلاء عليها، أو تعديلها أو تغييرها بشكل غير مرخص.

ثانياً: الاتصالات الرقمية: والتي تطورت في الآونة الأخيرة بشكل كبير جداً بسبب التقدم التقني والتكنولوجي وتعددت صورها من هاتفية أو إلكترونية أو برقية وغيرها، والوسائط التي تتم بها متعددة وتديرها بالغالب شركات غربية تتطلب من المشترك الإدلاء ببيانات ومن ثم تتمكن من تحديد العديد من المعلومات التي تتصل بالفرد ويمكن لأجهزة الاستخبارات العالمية إن تتعقب هذه الاتصالات وتسئ التعقب بما يحرم الفرد من الحق بالخصوصية، ويشار إلى أنه في الآونة الأخيرة تواترت الأنباء عن معاقبة دول أوربية لشركات مالكة لمواقع تواصل بسبب سوء استخدام البيانات الشخصية لمواطنيها.

ثالثاً: الحقوق المعنوية الرقمية: إن المخاطر الرقمية لا تأخذ شكل الاستيلاء غير الشرعي للبيانات بل قد تأخذ شكل الإساءة إلى السمعة أو التشهير الرقمي باستغلال وسائل التواصل والفضاء الذي يوفره الانترنيت للإساءة للغير وبما ان الجاني بالغالب يتخفى خلف شخصيات أو صفحات ومواقع وهمية وقد يكون من خارج حدود الدولة ويصعب في الكثير من الأحيان التعرف عليه ومحاسبته لذا يمكن اختراق بيانات الأغيار ونشرها بشكل يخالف إرادتهم بقصد الإساءة أو الابتزاز.

كما ان الحق في الملكية الأدبية للاكتشافات وبراءة الاختراع أو حقوق المؤلف وغيرها بالكاد تذكر مثل هذه الحقوق أو تحترم في الواقع الافتراضي فهنالك اعتداءات لا تعد ولا تحصى تطال هذه المفاهيم.

رابعاً: تقرير المصير المعلوماتي: في كثير من الأحيان يتم تضليل الرأي العام وبث الدعايات المغرضة والإشاعات التي تهدف إلى تحقيق أغراض غير مشروعة والتي من شأنها التأثير على إرادة الأفراد أو تكوين قناعات غير حقيقية كبث معلومات مضللة عن تلقي اللقاح المضاد للوباء مثلاً، وأحياناً يستغل الفضاء الافتراضي لبث الرعب بين الآمنين وهذا ديدن الجماعات المتطرفة، كما يمتد الحق في تقرير المصير المعلوماتي ليطال حق الفرد في طلب محو بعض البيانات التي سبق إن وافق على عرضها على الجمهور لأسباب شخصية كبعض الصور أو المناسبات الاجتماعية، والتي يمكن ان تستغل للإساءة له فيما بعد.

وقد تضمنت العديد من التشريعات العراقية الضمانات التي من شأنها إن تمنع الإساءة للحق في الخصوصية بالعالم الواقعي أو الافتراضي فقد أشار قانون المحماة العراقي رقم (173) لسنة 1965 إلى أنه "لا يجوز للمحامي إن يفشي سراً اؤتمن عليه أو عرفه هو عن طريق مهنته ولو بعد انتهاء وكالته إلا إذا كان ذلك من شأنه منع ارتكاب جريمة" وبين قانون العقوبات العراقي رقم(111) لسنة 1969 بالمادة (327) بأن "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات...كل موظف أو مكلف بخدمة عامة أفشى أمراً وصل إلى علمه بمقتضى وظيفته لشخص يعلم وجوب عدم إخباره به،...." وأضافت المادة (328) بأن "يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات كل موظف أو مكلف بخدمة عامة في دوائر البريد والبرق والتليفون فتح أو اتلف أو أخفى رسالة أو برقية أودعت أو سلمت للدائرة المذكورة أو سهل ذلك لغيره أو أفشى سراً تضمنته الرسالة أو البرقية".

...........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2021
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق