احتفلت البوسنة بذكرى مرور 20 عاما على مذبحة سربرنيتشا التي تعد أسوأ مذبحة في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي راح ضحيتها نحو ثمانية آلاف مسلم من الرجال والصبية على أيدي قوات صرب البوسنة خلال خمسة أيام في يوليو تموز عام 1995، وقد ارتكب المجزرة وحدات من الجيش الصربي تحت قيادة الجنرال راتكو ملاديتش. وحضر أكثر من 50 ألف شخص بينهم ممثلون رفيعو المستوى عن نحو 90 دولة ومنظمات دولية في نصب بوتوكاري التذكاري، على مشارف سربرنيتشا.
هذه المجزة وبحسب بعض المراقبين لاتزال وعلى الرغم من فضاعتها محل جدل ونقاش، خصوصا مع عدم اعتراف بعض الدول بأن ما حدث بعد اجتياح القوات الصربية سربرنيتشا التي كانت تحظى بحماية أممية قبل أشهر من نهاية الحرب الأهلية التي استمرت ثلاث سنوات هو ابادة جماعية. وقد أخفق مجلس الأمن الدولي، في تبني قرار قدمته بريطانيا، لإدانة جرائم الإبادة العرقية في سربرنيتشا، وذلك بسبب استخدام روسيا حق النقض الفيتو.
ففي إبريل 1993 وكما تنقل بعض المصادر أعلنت الأمم المتحدة بلدة سريبرينيتسا الواقعة في وادي درينا في شمال شرق البوسنة "منطقة آمنة" تحت حماية قوات الأمم المتحدة، ممثلة بعناصر الكتيبة الهولندية في قوات الأمم المتحدة والتي يبلغ تعدادها 400 عنصر ، وبناءً على ذلك قام المتطوعون البوسنييون الذين كانوا يدافعون عن المدينة ، بتسليم أسلحتهم. إلا أن إعلان المدينة كمنطقة آمنة تحت حماية الامم المتحدة، لم يحل دون وقوع المجزرة، كما أن عناصر الكتيبة الهولندية لم يتدخلوا لأجل حماية سكان البلدة ذوي الأغلبية المسلمة.
وقامت القوات الصربية وباوامر مباشرة من أعضاء هيئة الأركان الرئيسية لجيش جمهورية صربياالقادة-العسكريين والسياسيين- بالقيام بعمليات تطهير عرقي ممنهجة ضد المسلمين البوسنيين والمعروفين باسم "البوشنياق"، وقد حدثت على مرأى من الفرقة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام الاممية دون أن تقوم بأي شيء لإنقاذ المدنيين، علما أنها كانت قد طلبت من المسلمين البوسنيين تسليم أسلحتهم مقابل ضمان أمن البلدة، الأمر الذي لم يحصل بتاتاً. فبعد دخول القوات الصربية البلدة ذات الاغلبية المسلمة، قامت بعزل الذكور بين 14 و 50 عاماً عن النساء والشيوخ والأطفال، ثم تمت تصفية كل الذكور بين 14 و 50 عام ودفنهم في مقابر جماعية، كما تمت عمليات اغتصاب ممنهجة ضد النساء المسلمات.
وتم تحميل رادوفان كاراديتش الزعيم السياسي لصرب البوسنة والجنرال راتكو ملاديتش الذي قاد المليشيا الصربية بالإضافة للعديد من القادة السياسيين والعسكريين وشبه العسكريين المسؤولية عن تنظيم عمليات قتل المدنيين وتشريدهم. فيما لا يزال معظمهم متواري عن الأنظار وملاحقين من قبل الإنتربول وقوات الأمم المتحدة في البوسنة. كذلك، اتهم أهالي الضحايا القوات الهولندية العاملة في نطاق قوات الأمم المتحدة بعدم الدفاع عن أهالي المدينة وتسليم من التجأ لثكنة هذه القوات لميليشيا صرب البوسنة التي قتلتهم جميعاً لاحقاً.
في عام 2004 أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي الخاصة فيما سُمّي بقضية كراديتش ، أن ما حصل في سربرنتسا هي عملية تطهير عرقي عن سبق الإصرار والترصُّد، وذلك وفقا للقوانين الدولية ، باعتبار توفر ادلة قطعية تدين القادة الصرب الذين خططوا للمجزرة. و في عام 2005، أشار الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك السيد كوفي عنان في رسالة الاحتفال بالذكرى السنوية العاشرة للإبادة الجماعية، إلى أن اللوم يقع بالدرجة الأولى على أولئك الذين خططوا ونفذوا المذبحة والذين ساعدوهم، ولكنه يقع أيضا على الدول الكبرى والامم المتحدة كون الاولى فشلت في إتخاذ إجراءات كافية ، والثانية - أي الأمم المتحدة- ارتكبت أخطاء جسيمة قبل وأثناء وقوع المجزرة، ولذلك ستبقى مأساة سربرنيتشا نقطة سوداء في تاريخ الأمم المتحدة إلى الأبد". وفي شباط/فبراير 2007، أكدت محكمة العدل الدولية ما أصدرته محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة بأن ماجرى في سريبرينيتسا كان إبادة جماعية.
ضحايا وذكريات
وفي هذا الشأن فقد شارك الالاف في مراسم نقل 136 نعشا من الضحايا الذي تم التعرف عليهم الى النصب التذكاري لمجزرة سريبرينيتسا، وحمل جنود بوسنيون وناجون من المجزرة بالاضافة الى مواطنين عاديين النعوش الملفوفة باكفان خضراء، وقطعوا عدة مئات من الامتار، للوصول الى مرآب كان مخيما لقوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة قبل 20 عاما، حيث النصب التذكاري.
ووسط بكاء النساء بصمت، وضعت النعوش على العشب حيث ستوارى الثرى. من بين الضحايا الـ136 الذين تم التعرف عليهم من خلال فحص الحمض النووي، افراد من عائلات قتل جميع رجالها، وفقا للمعهد البوسني للاشخاص المفقودين. وحتى الآن، تم دفن 6241 ضحية، عثر عليهم وتم التعرف اليهم، في النصب التذكاري، و230 ضحية في مقابر اخرى.
وقد رافقت إحياء الذكرى إجراءات أمنية مشددة لأنه وككل عام يصدر صرب البوسنة الأكثر تشددا تهديدات لموكب المسيرة متعهدين بعرقلة الأحداث. وقالت أنيتا ميتيك مدير جمعية الشباب من أجل حقوق الإنسان "هناك بعض الناس في بلغراد أرادوا تقديم تعازيهم لضحايا الإبادة الجماعية في سربرنيتشا وعلى الرغم من الحظر لتجمع، وقالت أمينة ماليتش التي تبلغ العشرين من العمر، وكانت في أيامها الأولى عندما وقعت المجزرة، "فقدت أبي هنا. إني أتخيل آلامه ومعاناته". وأضافت هذه الشابة التي تعيش اليوم في شيكاغو بالولايات المتحدة، وهي تذرف الدموع، "يجب ألا تتكرر هذه المآسي". وستدفن بيغاييتا صالح أوفيتش (51 عاما) والدها. وقالت هذه المرأة التي فقدت أيضا شقيقا في المجزرة، وقتل اثنان من أشقائها في بداية الحرب ولم يعثر عليهما بعد، "عندما أبلغوني بالعثور على رفات أبي، شعرت بأنه توفي لتوه".
نجاد مويتش في الأربعين من العمر وقد غزا الشيب شعره، جاء من الولايات المتحدة إلى حيث هاجر بعد عامين على انتهاء هذه الحرب التي أوقعت 100 ألف قتيل. وقال الرجل الذي يرتدي قميصا أبيض كتب عليه "لقد نجوت": "أشارك كل سنة في هذه المسيرة لكي لا يصبح ما عشناه في طي النسيان. على كل ناج أن يتذكر ما عاشه هنا. على العالم أجمع ألا ينسى بأن إبادة ارتكبت هنا".
وأقر القضاء الدولي بأن إبادة ارتكبت في سريبرينيتسا. وعشية سقوط جيب سريبرينيتسا، الذي كان منطقة موضوعة تحت حماية الأمم المتحدة، بأيدي القوات الصربية انفصل نجاد عن باقي أسرته. وقال هذا العسكري السابق "أصعب لحظة كانت تلك التي رأيت فيها والدي وشقيقي وأفرادا آخرين من أسرتي لآخر مرة. كانت لحظة وداع لأني لم أرهم بعد ذلك". وأوضح "اختار شقيقي أيضا الفرار عبر الغابات لكننا انفصلنا عندما أطلقوا النار علينا. حاول والدي اللجوء لدى الكتيبة الهولندية في بوتوكاري قرب سريبرينيتسا لكنه وقع في الأسر". وعثر على رفاتهم بعد الحرب في مقابر جماعية ودفنوا في 2006 في النصب التذكاري في سريبرينيتسا.
ومن أصل الرجال الـ15 ألفا الذين فروا من سريبرينيتسا، بقي سبعة آلاف على قيد الحياة. وقال نجاد "وصلت إلى هنا في نزوك بعد سبعة أيام". وأضاف "كان الأمر فظيعا. كان هناك قتلى ودماء في كل مكان. رأيت جيرانا وأصدقاء وأفرادا من أسرتي لكن لم نكن نستطيع مساعدتهم. كافح الجميع لإنقاذ حياتهم. حتى أن البعض تركوا أولادهم وراءهم". وكان يحاول حبس دموعه عندما تذكر زملاءه الجرحى الذين تم التخلي عنهم في هذه الرحلة للإفلات من الموت. وأضاف "أرغمنا على ترك الجرحى لأنه كان صراع من أجل البقاء". بحسب فرانس برس.
ويتذكر صديقه سعاد بساليتش المقيم اليوم في هولندا بأنه "تمت مطاردتهم كالأرانب". ويروي الرجل الطويل القامة البالغ من العمر 53 عاما بصوت يرتجف كيف وقعت مجموعته مرارا في كمائن نصبتها القوات الصربية. وعند الانتقال إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرة القوات المسلمة "شعرت أولا بسعادة ثم بحسرة وأنا أنتظر أقاربي وجيراني وأصدقائي عبثا. 80% منهم لم يأتوا أبدا".
هروب رئيس وزراء صربيا
في السياق ذاته اضطر رئيس وزراء جمهورية الصرب للفرار من مراسم أقيمت لإحياء الذكرى العشرين لمذبحة سربرنيتشا بعدما رشقه مشاركون بالحجارة والزجاجات في مشهد تقول حكومته إنه محاولة اغتيال. وأحاط حراس برئيس الوزراء ألكسندر فوسيتش وأبعدوه سريعا من بين الجموع التي أحاطت به بعد لحظات من دخوله لمكان المراسم. وألقى بعض الحضور الحجارة والزجاجات في حين هتف آخرون "الله أكبر" في هجوم يدل على حجم الغضب الذي يسببه إنكار بلجراد لوصف المذبحة بأنها "إبادة جماعية."
وأدانت صربيا التي دعمت صرب البوسنة بالرجال والمال خلال الحرب الهجوم ووصفته بأنه "محاولة اغتيال." وظهر فوسيتش بدون نظارته أمام الصحفيين في بلجراد قائلا إنها تحطمت. واضاف "لم يكن حادثا.. كان هجوما منظما." وكان الهدف من حضور فوسيتش -وهو قومي متشدد لكنه يريد الآن إدخال صربيا في الاتحاد الأوروبي- أن يكون تجسيدا لمدى التغيير الذي تشهده المنطقة منذ تفكك يوغوسلافيا.
لكنه جاء بعد يومين فقط من طلب حكومته من روسيا استخدام حق النقض ضد قرار في مجلس الأمن كان يدين إنكار مذبحة سربرنيتشا بوصفها إبادة جماعية مثلما فعلت محكمة تابعة للأمم المتحدة. وقضت محكمة تابعة للأمم المتحدة بأن المذبحة إبادة جماعية وهو مصطلح يجادل الكثير من الصرب في استخدامه كما يشككون في عدد القتلى والرواية الرسمية لما حدث الأمر الذي يسلط الضوء على الروايات المتضاربة لحرب يوغوسلافيا التي لا تزال تغذي الانقسامات السياسية وتعرقل التقدم صوت الاندماج مع غرب أوروبا.
وكتب فوسيتش في كتاب التعازي "هنا في سربرنيتشا يتعين علينا جميعا أن نحني رؤوسنا حتى لا ننسى وأن نبدأ في صنع مستقبل مختلف." لكن في المقبرة رفع الحضور لافتة تحمل عبارة مقتبسة من حديث له ألقاه أمام البرلمان الصربي في وقت الحرب يقول فيها "مقابل كل صربي يقتل .. سنقتل مئة مسلم."
وقال فوسيتش "أشعر بالأسف لأن البعض لم يدرك رغبتي الصادقة في بناء صداقة بين الصرب والبوسنيين... يدي مازالت ممدودة للشعب البوسني." وقالت سوباسيتش إنا "تشعر باحباط رهيب " من هذه المشاهد. ونددت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالهجوم وأصدرت الرئاسة الثلاثية في البوسنة بيانا تعبر فيه عن "الأسف البالغ" وقالت إن فوسيتش جاء "بروح المصالحة وبهدف تقديم التعازي." بحسب رويترز.
وأرسلت صربيا مذكرة احتجاج للبوسنة. وقال وزير الداخلية نيبويسا ستيفانوفيتش "كانت هذه محاولة اغتيال لألكسندر فوسيتش". وقالت حميدة جانوفيتش التي حضرت لدفن عظمتين من عظام زوجها عثر عليهما "انظروا إليه (فوسيتش) وهو ينظر إلى آلاف من شواهد القبور. ألا يخجل من نفسه لقوله إنها لم تكن إبادة جماعية؟ ألا يخجل من نفسه لكي يأتي إلى هنا.؟" وتعرض رئيس وزراء صربيا إلى إصابة في الرأس بحسب وكالة الأنباء الصربية. ولاحظ مراسلون أن أشخاصا كانوا يتولون حماية رئيس الوزراء أصيبوا أيضا جراء رشق الحجارة. ومحاطا بحراسه الشخصيين، ونجح فوسيتش في مغادرة المكان وهو يركض فيما كان المنظمون يدعون عبر مكبرات الصوت إلى التزام الهدوء.
روسيا وحق النقض
على صعيد متصل استخدمت روسيا حق النقض ضد قرار لمجلس الأمن الدولي كان يصف مذبحة سربرينتسا بأنها "إبادة". وامتنع أربعة أعضاء آخرين في المجلس عن التصويت، وصوت بقية الأعضاء بالموافقة. وقد أغضب مشروع القرار الصرب، الذين رفضوا استخدام التعبير. وقد صيغ القرار بمناسبة مرور الذكرى العشرين للفظائع التي وقعت خلال تفتت يوغسلافيا الدموي إلى دول مستقلة.
وقال القرار إن "قبول الأحداث المأساوية في سربرينيتسا باعتباره إبادة مطلب ضروري من أجل المصالحة". لكن مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين وصف القرار بأنه "غير بناء، ويدعو للمواجهة، ووراءه دوافع سياسية"، بحسب ما ذكرته وكالة رويترز للأنباء. وامتنعت الصين ونيجيريا وانجولا وفنزويلا عن التصويت في حين أيدت الدول العشر الاخرى الاعضاء بالمجلس المشروع الذي صاغته بريطانيا. وكان التصويت قد تأجل يوما مع محاولة بريطانيا والولايات المتحدة إقناع روسيا بعدم استخدام الفيتو. واعتبر السفير الروسي لدى الامم المتحدة فيتالي تشوركين ان مشروع القرار "غير بناء وله دوافع سياسية."
والاعتراف بهذه الابادة يمثل "شرطا مسبقا للمصالحة" في البوسنة. ومشروع القرار وهو الاول من نوعه، "يشيد بالجهود للتحقيق وملاحقة جميع المتهمين بانتهاكات خطرة للحقوق الانسانية اثناء نزاع البوسنة، بما فيها ابادة سريبرينيتسا". ويطلب المجلس من كافة الدول التعاون في هذا الاتجاه مع القضاء الدولي، ويدعم اتفاقات دايتن للسلام لعام 1995 التي انهت الحرب و"يجدد التاكيد على اهمية استخلاص الدروس من فشل الامم المتحدة في منع ابادة سريبرينيتسا".
وفي رسالة وجهها الى ملادن ايفانيش العضو الصربي في الرئاسة الجماعية لجمهورية البوسنة، اكد السفير البريطاني ماثيو ريكروفت ان "الابادة جريمة ومن ارتكبوها مجرمون (..) والقول بذلك لا يعني مناهضة الصرب". وكان ايفانيتش انتقد مشروع القرار في رسالة الى الامين العام للامم المتحدة.
من جانب اخر اعتبر رئيس الكيان الصربي في البوسنة ان الابادة الجماعية في سربرينيتسا "كذبة"، وخلال تجمع لاحياء ذكرى الصرب الذين قتلوا في القرى المحيطة بسربرينيتسا خلال الحرب الاهلية الدامية في البوسنة، استنكر ميلوراد دوديتش محاولة بريطانيا امرار قرار في الامم المتحدة. وقال دوديتش امام مئات تجمعوا في قرية براتوناتش قرب سربرينيتسا ان "الهدف هو ان يسجل في الامم المتحدة، بناء على ادعاءات وتقارير كاذبة، ان الابادة ارتكبت ضد المسلمين". بحسب فرانس برس.
واضاف في خطاب بث مباشرة على التلفزيون الصربي البوسني ان "كل شيء عبارة عن كذبة مكررة. قيل لنا يجب الا ننكر. كيف لا ننفي كذبة؟ انتم الذين لا تقولون الحقيقة. اين هم الرجال ال8300؟ لماذا تكذبون؟". ويرفض القادة الصرب وصرب البوسنة ان تصنف مجزرة سربرينيتسا على انها ابادة. وسبق ان شكك دوديتش في مجازر صربية اخرى لحقت بالمسلمين خلال الحرب التي قتل فيها اكثر من 38200 مدني، معظمهم من المسلمين، و57700 عسكري.
اضف تعليق