السعودية تقر على نفسها باحترام حقوق الإنسان وفق ما تأمر به الشريعة الإسلامية السمحاء وتحافظ على التراث الإسلامي فمقابر ومساجد البقيع جزء لا يتجزأ من التراث الإسلامي وممارسة العبادة وأداء الشعائر فيها حق كفلته السماء للجميع، وكذلك التشريعات والعالمية والوطنية هي الأخرى تضمن للجميع حرية الدين...
يعيش الإنسان منذ أن خلق الله الخلق في مجموعات، ويتفاعل الناس ويتقاربون بعضهم مع البعض الآخر وهذا بحكم طبيعتهم الإنسانية فيشكلوا مجتمعات لها نوع من الخصوصية لتقارب عادات وتقاليد وعقائد مكوناتها البشرية، ونتيجة للتطور التقني والتكنلوجي الذي رافق عالمنا المعاصر وتشابك المجتمعات عبر شبكات الاتصال والتواصل أضف لما تقدم حالة ازدياد عدد السكان والهجرة الإختيارية أو الإجبارية بين البلدان جميعا فحصلت حالة جميلة تتمثل بالتلاقح الثقافي، والتقارب المعرفي بتاريخ الشعوب وحضاراتها فتعرف العالم على عادات وتقاليد وتراث محلي لم يكن ليظهر للعلن لولا ما تقدم.
أضف لما تقدم بروز دور المنظمات الدولية المهتمة بالتربية والتعليم والثقافة سواء منها العالمية أو الإقليمية، والجهود المضنية التي بذلتها المنظمات غير الحكومية لتعريف العالم بتلك الثقافات، بيد ان الجانب المشرق هو ما تقدم ويقابله الجانب الأخر المتمثل بقصور قواعد القانون لاسيما القانون الدولي ومن ثم الوطني في استيعاب هذه الثقافات وتوفير الحماية اللازمة لها، كونها تمثل إرث إنساني جميل لابد من المحافظة عليه لينقل إلى الشعوب كافة والأجيال اللاحقة لتطلع عليه وتستفيد منه.
فالثقافة تعد جزء كبير ومهم من حياة الشعوب والأفراد على حد سواء، ويومياً نتأثر بالثقافة وتؤثر في سلوكياتنا وحياتنا وتتجلى الثقافة في السلوك الجمعي والفردي لكل مجتمع فتطبعه بطابع مميز عما سواه، إذ تظهر بصورة أعراف وتقاليد ومعتقدات وقيم ثقافية أو ثوابت إنسانية، كما نجد ان الاعتراف بالثقافات وتنميتها غير كافٍ ما لم تترسخ قناعة لدى الجميع بأهمية العيش المشترك وتقبل الآخر، بعبارة أخرى لابد من الاعتراف بالتنوع الإنساني وهو نعمة إلهية حقيقية، فحين تتعايش الأعراق تزدهر الثقافات الفرعية وتحترم الذات الإنسانية، وتصان الكرامة البشرية.
والحقيقة الراسخة إن أي ثقافة أو معتقد أو دين إنما هو نتاج مئات أو آلاف السنين من التفاعل بين الناس أو بينهم وبين الطبيعة، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))، وحرصا على بقاء هذه الوشائج الإنسانية حرمت الشريعة الإسلامية العدوان على الآخرين ولو كانوا من المشركين ((وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ))، كما ان المنظمات الدولية المتخصصة ومنها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة كمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة اليونسكو عملت على التشجيع المستمر لكل الأنظمة الحاكمة لتحترم التنوع الثقافي والنظر إليه بكونه عامل قوة ومنعه، وليس سبب للضعف والتفرق والصراع.
وحين نتكلم عن الأنظمة الدكتاتورية القامعة للثقافات لا نقصد الدكتاتورية السياسية أو الحاكم الدكتاتور فحسب بل ينصرف المعنى إلى أي شخص أو فئة تقصي الآخرين وتحتقر ثقافتهم ومعتقداتهم أو تتطاول عليها بأي حجة كانت ما يمنع التعايش السلمي من ان يتحقق ويزيد من فرصة الصراع بين الفئات التي تنحدر من خلفيات ثقافية مختلفة، بل وتنتقل عدوى الصراع إلى الأجيال المتلاحقة وتظهر عاجلاً أو أجلاً في صورة صراع عنيف.
ولما تقدم وجب التحذير من خطر بعض الجهات الدينية أو القومية أو القبلية التي دأبت على عدم تقبل الآخرين واستساغت العدوان عليهم، ويكفي ذكر ان بعض هؤلاء يسبغ على ما يقوم به من مخالفة للدين والقانون والمنطق الإنساني والفطرة السليمة جانب القداسة بحجة الإصلاح أو الأمر بالمعروف أو ما شاكل، كما ينبغي التذكير إن الجوانب الثقافية أو العقائدية لا تنطوي على معنى مادي بحت بل قد تنصرف إلى معنى معنوي أو خليط من الماديات والمعنويات فهي عبارة عن تراكمات عبر عصور من الزمن ترسخت في الأذهان والسلوكيات بشكل شبه فطري، ومحاولات هؤلاء التخريبية ان امتدت إلى الجانب المادي بالتخريب فهي تعجز عن التأثير بالجوانب المعنوية إلا أنها لم تيأس لهذا تم تأسيس قنوات فضائية وإطلاق حملات دعائية وإعلامية وطباعة نشرات وكتب تحاول فيها تصوير ثقافة الغير بغير حقيقتها وهذا نوع من شيطنة الآخر لتسهيل عمليات العدوان على الخصوصية.
لذا نحن أولاً ينبغي علينا ان نتعرف على الخصوصية الثقافية ونعطيها تعريفا ونحدد لها مفهوماً ثم ننطلق في إيجاد سبل الحماية القانونية لها، فالمعارف الشعبية والجوانب الحضرية لها القدرة على الدوام والاستمرار والانتقال من جيل إلى أخر لهذا عرفت منظمة اليونسكو الثقافة على هامش الأعمال التحضيرية لمؤتمرها المنعقد العام 1982 في مدينة مكسيكو بأنها ((جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة بعينها، وتنصرف للفنون والآداب وأنماط الحياة اليومية، كما تضم الحقوق الأساسية للإنسان والتقاليد والمعتقدات وما تقدم يجعل المجموعات البشرية كائنات تتميز بالإنسانية المتمثلة بالتعقل، والالتزام بالمثل، كما أنها تساعد الأجيال في التعرف على الذات))، أما منظمة الأليسكو ((المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)) فقد عرفت الثقافة بأنها((نشاط يظهر بصورة فعالية إنسانية متميزة عن أفعال الطبيعة، أو هي القيم المبتكرة من قبل الإنسان يحقق بها ويكتسب إنسانيته وينظم على أساسها حياته الخاصة الاجتماعية والفكرية والروحية والجمالية)).
أما منظمة ((الأسيسكو)) المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة فقد انتهت إلى إن الثقافة هي ((الوعاء الحضاري الذي يحفظ للأمة وحدتها ويضمن تماسكها، ويكسبها الصفات والسمات الخاصة فكرية أو مادية تميزها وتعد هويتها وركيزة وجودها، وهي مجمع علومها الخاصة، وخلاصة إبداعها، ومصدر قوتها، وأصل تميزها عن الأمم)) وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأمريكية 2001 وجدت منظمة اليونسكو ضالتها لتؤكد على أهمية التنوع الثقافي في دورتها الحادية والثلاثين في الاجتماع على المستوى الوزاري وانتهى الاجتماع إلى التأكيد إن الحوار بين الثقافات هو الحل ودعا إلى ضرورة منع التصادم والصراع بين الحضارات، وانتهى الرأي عند المجتمعين إلى ان التنوع الثقافي كالتنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية ضرورة لابد منها وهو جزء من التراث المشترك للإنسانية، واعتبر الاجتماع التأكيد على حقوق الإنسان بوصفها الضمانة الأكيدة لتحقيق التنوع.
وبالرجوع إلى مسألة البقيع نجد إن المادة (26) من النظام الأساسي السعودي للعام 1992 تنص صراحة على التزام الدولة بكل مؤسساتها بأن ((تحمي حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية)) وأضافت المادة (29) حكماً آخر مقتضاه ((أن ترعى الدولة... وتصون التراث الإسلامي العربي))، وبما إن العربية السعودية تقر على نفسها باحترام حقوق الإنسان وفق ما تأمر به الشريعة الإسلامية السمحاء وتحافظ على التراث الإسلامي فمقابر ومساجد البقيع المشرفة جزء لا يتجزأ من التراث الإسلامي وممارسة العبادة وأداء الشعائر فيها حق كفلته السماء للجميع، وكذلك التشريعات والعالمية والوطنية هي الأخرى تضمن للجميع حرية الدين والعقيدة، كما وأن هذا النص يفرض على المملكة التزاما بمنع كل أشكال الدكتاتورية الثقافية وكل صور قمع الأفكار والآراء وان تكون المملكة مثالاً يحتذى به في الالتزام بكل مقتضيات التعايش السلمي المشترك بالاعتراف الكامل للجميع بمختلف عقائدهم ومذاهبهم وأفكارهم بأن لهم كيان خاص وثقافة تشجعها الدولة وتوفر لها مقومات الحياة والاستمرار وتمنع كل ما من شأنه ان يوصف بالتنمر على الغير بحجج واهية.
وهذا ما انتهت إليه اتفاقية العام 2005 التي أبرمت برعاية منظمة اليونسكو الخاصة بـ(حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي) والتي تنص في مادتها الأولى على أبرز الأهداف التي تتغياها الاتفاقية والمتمثلة بـ((أ- حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي.
ب- تهيئة الظروف التي تكفل ازدهار الثقافات وتفاعلها تفاعلاً حراً تُثري من خلاله بعضها بعضاً.
ج- تشجيع الحوار بين الثقافات لضمان قيام مبادلات ثقافية أوسع نطاقاً وأكثر توازناً في العالم دعماً للاحترام بين الثقافات وإشاعة لثقافة السلام.
د- تعزيز التواصل الثقافي بهدف تنمية التفاعل بين الثقافات بروح من الحرص على مد الجسور بين الشعوب.
هـ- تشجيع احترام تنوع أشكال التعبير الثقافي وزيادة الوعي بقيمته على المستوى المحلي والوطني والدولي.
و- تجديد التأكيد على أهمية الصلة بين الثقافة والتنمية بالنسبة لجميع البلدان، وبالأخص للبلدان النامية، ومساندة الأنشطة المضطلع بها على الصعيدين الوطني والدولي لضمان الاعتراف بالقيمة الحقيقية لهذه الصلة)).
وخلصت المادة الثانية إلى تحديد بعض المبادئ التوجيهية وعلى رأسها ((أ- مبدأ احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية: فلن يتسنى حماية التنوع الثقافي وتعزيزه ما لم تُكفل حقوق الإنسان والحريات الأساسية، مثل حرية التعبير والإعلام والاتصال، وما لم تُكفل للأفراد إمكانية اختيار أشكال التعبير الثقافي. ولا يجوز لأحد التذرع بأحكام هذه الاتفاقية لانتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو المكفولة بموجب القانون الدولي أو لتقليص نطاقها.
ب- مبدأ السيادة: إذ تتمتع الدول، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، بحق سيادي في اعتماد تدابير وسياسات لحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي على أراضيها.
ج- مبدأ تساوي جميع الثقافات في الكرامة وفي الجدارة بالاحترام: حيث يفترض حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي الاعتراف بأن جميع الثقافات، بما فيها ثقافات الأشخاص المنتمين إلى الأقليات وثقافات الشعوب الأصلية، متساوية في الكرامة وفي الجدارة بالاحترام.
د- مبدأ الانتفاع المُنصف: ويراد به الانتفاع المُنصف بطائفة غنية ومتنوعة من أشكال التعبير الثقافي في كل أنحاء العالم، وانتفاع الثقافات بوسائل التعبير والنشر، هما عاملان أساسيان للارتقاء بالتنوع الثقافي وتشجيع التفاهم.
هـ- مبدأ الانفتاح والتوازن: حيث ينبغي للدول، لدى اعتماد أي تدابير لدعم تنوع أشكال التعبير الثقافي، أن تسعى، بالصورة الملائمة، إلى تشجيع الانفتاح على الثقافات الأخرى في العالم، وأن تضمن اتفاق تلك التدابير مع الأهداف التي تتوخاها هذه الاتفاقية)).
وما تقدم من مبادئ نجدها ملزمة للمملكة وعليها ان تتخذ الخطوات العملية لإنهاء حالة تنمر بعض رجالات الدين المتطرفين من أصحاب الفتاوى الهادفة إلى شق صف الأمة وتفتيت كلمتها ودثر ثقافتها وهي مصداق حقيقي لحالة الدكتاتورية الثقافية التي تلتزم الإقصاء وتستبعد الحوار، كما ان المملكة مدعوة لتوظيف التنوع الثقافي والديني والعقائدي بشكل سليم بما يضمن تحوله إلى عامل قوة ووحدة للأمة أو الشعب، لكونه الوسيلة الأنجع لتعزيز الحوار الحضاري بين الناس وترسيخ أسس التعايش السلمي، ويقع واجباً على الدولة سواء المملكة العربية السعودية أو غيرها إيجاد فضاء للتنوع الحضاري والثقافي وذلك من خلال ضمان حريات الأفراد وحقوقهم كافة وبلا تمييز لأي سبب كان وبالخصوص حرية الدين والعقيدة وممارسة الشعائر الدينية كونها تعد واحدة من أهم الحريات الأساسية.
.....................................
اضف تعليق