عادة ما يتضمن دستور الدولة التفاصيل الرئيسة لشكل الدولة ونظام الحكم فيها وسلطاتها العامة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومن خلال ذلك يسعى المشرع الدستوري إلى تنظيم علاقة هذه السلطات مع بعضها البعض أو مع الأفراد بصيغة النص على الحقوق والحريات العامة لضمان الاحترام اللازم لها ومنع التجاوز عليها وكفالتها للأفراد بشكل متساوي، بل ان المشرع الدستوري في الدول الديمقراطية يحرص كل الحرص على تضمين الوثيقة الدستورية من الضمانات ما من شأنه ان يمنع السلطات العامة من الاعتداء على الحقوق والحريات ويجعل منها متنوعة أي ان بعضها قانوني أو قضائي أو سياسي أو ما شاكل ذلك ليضمن ممارستها بشكل لائق من قبل الأفراد.
ومن أجل تحقق ما تقدم على أرض الواقع لابد ان تتضمن الوثيقة الدستورية نصوصاً صريحة تمنع السلطة التشريعية وهي بصدد وضع القوانين من المساس بها أو مصادرتها بحجة التنظيم، كما وتمنع السلطة التنفيذية وهي تمارس دورها التكميلي للنصوص التشريعية في مرحلة التنفيذ من العصف بالحقوق والحريات حين تضع الأنظمة والتعليمات اللازمة، فالملاحظ ان السلطة التنفيذية تنحرف في الغالب عن المصلحة العامة وهي تقوم بإصدار القرارات الفردية التي تمكنها من تنفيذ القوانين والقرارات التنظيمية، وهنا يكون الدور الأكبر والأهم للحيلولة دون ذلك على البرلمان في إعمال الرقابة على الحكومة لمنع التعسف في السلطة وتجاوز حدود الحرمة واجبة الاحترام لحقوق المواطنين وحرياتهم، ومما لا شك فيه ان سمو وعلو الحقوق والحريات بحاجة إلى ضمانات حقيقية تمنع السلطات العامة من المساس بها ووضعها في صلب الدستور أحد تلك الضمانات إذ تكتسب قوة النصوص الدستورية، وتحقيقاً لما تقدم وضع الدستور العراقي للعام 2005 نصاً عاماً تضمنته المادة الثانية في فقرتها الثالثة مقتضاه أن ((لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور)).
بيد ان المشرع الدستوري التف على هذ النص وأفرغه من محتواه حينما نص في المادة (46) على انه ((لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناءً عليه على ان لا يمس ذلك التحديد أو التقييد جوهر الحق أو الحرية))، ويتضح لنا ان المشرع الدستوري لم يكتفٍ بمنح البرلمان سلطة التنظيم بل اردفها بسلطة التقييد، وتمادى أكثر حين سمح للسلطة التنفيذية بناءً على قانون يصدر من البرلمان بالقيام أيضاً بالتنظيم والتقييد ولم يضع من ضمانة سوى ان لا يمس ذلك جوهر الحق أو الحرية، فهناك تناقض واضح وقع فيه المشرع في البداية هو منع سن القوانين التي تتعارض مع الحقوق والحريات ثم سمح للبرلمان والحكومة بالتنظيم والتقييد للحقوق الواردة في الدستور.
ولما كان الدستور قد نص على الحقوق والحريات في المواد التي تضمنها الباب الثاني من المادة (14) إلى المادة (45) وضمن بعض النصوص قيوداً محددة على الممارسة فكان ينبغي الاكتفاء بتلك القيود وعدم السماح للسلطات العامة بإضافة ما تشاء من القيود بحجة التنظيم ما يمكن ان يؤدي إلى نتائج وخيمة في التطبيق، ولو رجعنا إلى نصوص الدستور سنجد ان المشرع حرص في العديد من المواد الدستورية على ان يكل للبرلمان سلطة التنظيم بالنص على ذلك صراحة وفي أكثر من صيغة إذ ورد ما نصه (وينظم ذلك بقانون) أو (إلا وفق القانون) أو (إلا ما استثني بقانون) أو (في حدود القانون) أو (إلا لضرورة قانونية)، ويمكننا ان نشير إلى ان بعض الامثلة من النصوص الدستورية التي تضمنت بعض القيود فقد ورد بالمادة (السابعة عشر في بندها الأول بان لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة).
فقد وضع المشرع قيدين في ذات المادة هما عدم المساس بحقوق الغير أو التعارض مع الآداب العامة، بينما وردت نصوصاً أخرى مطلقة من أي تقييد ومثال ذلك ما تضمنته المادة (الثامنة عشر في فقرتها الأولى التي تؤكد ان الجنسية حق لكل عراقي وهي أساس مواطنته)، وكذا الأمر بالنسبة للحريات نجد أحكام المادة (38) تتضمن القيد مع الحرية في ذات المادة الدستورية والتي جرى نصها بان (تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب العامة....حرية الرأي...)، وفي المادة (42) التي كفلت للعراقي بشكل مطلق بلا قيد واضح (حرية الفكر والضمير والعقيدة) ما يأخذنا إلى القول ان بعض الحقوق والحريات بحاجة إلى تنظيم لا إلى تقييد، بيد ان المشرع العراقي منح السلطتين التشريعية اختصاصاً عاماً بالتنظيم والتقييد بموجب المادة السادسة (46) أو تخويل السلطة التنفيذية ذلك بناءً على قانون.
ولا نتفق مع البناء الدستوري المتقدم والسبب ان حرية العمل مثلاً بحاجة إلى تنظيم بيد ان حرية العقيدة لا تحتاج إلى تنظيم بل هي بحاجة إلى ضمانة أي معاقبة من يعتدي عليها وهذا يعني ضرورة التمييز بين التنظيم والضمانة الواجبة ان تتوافر، ونحن نعترض على ما ورد بالمادة السادسة والأربعين لاعتقادنا الجازم ان الحقوق والحريات فوق السلطات العامة التشريعية والتنفيذية ووجودها والاعتراف بها وضرورة حماية ممارستها بنحو من العدالة والمساواة سابق للسلطات العامة فمن خلال ممارسة تلك الحريات ستتكون السلطات العامة وتفوض سلطة العمل باسم الشعب ولمصلحته، وحين تريد السلطة العامة التدخل والتنظيم ينبغي ان لا ينصرف ذلك إلى التقييد فما هو لاحق لا سلطة له على ما هو سابق.
هذا من جهة ومن جهة أخرى ينبغي ان يحاط عمل البرلمان والحكومة بضمانات حقيقية ورسم حدود واقعية تمنع كل منهما من الانحراف عن المقاصد الحقيقية من وراء الاعتراف لهما بسلطة التنظيم والتقييد وسنبين في ما يلي أهم تلك الحدود:
أولاً// أن يكون التنظيم نسبياً: فالحظر أو المنع المطلق للتمتع بالحق أو الحرية حتى في الظروف غير الاعتيادية أو الاستثنائية غير جائز، فالأصل ان السلطة تنظيمية لا سلطة حظر ومنع تام وعلى سبيل المثال حرية التجمع أو التظاهر لا يمكن للإدارة التذرع باي حجة لمنع التمتع بها بوصفها تطبيقاً للتعبير عن الرأي، ولها أساس من القانون الوطني والدولي يجعلها بمنأى من سلطة البرلمان والإدارة.
ثانياً// أن يكون التنظيم ضرورياً: بمعنى ان تكون الغاية من التنظيم صيانة حقوق الغير وحرياتهم خشية التأثير عليها أو الانتقاص منها ولمنع تهديد النظام العام والآداب العامة.
ثالثاً// أن يكون التنظيم ملائماً: أي متفقاً مع الحاجة اليه، فلا حاجة لتدخل السلطات العامة إلا للتوفيق بين المصالح الفردية ان تعارضت أو لإبعاد خطر الاضطراب، على أن يكون الإجراء التشريعي أو التنفيذي متناسباً مع ما تقدم.
رابعاً// أن يكون التنظيم مشروعاً: فالحد من حق أو حرية لا يكون مشروعاً إلا ان كان متفقاً مع الدستور والوثائق الدولية ذات الصلة، ولتحقيق غاية محددة هي ضمان حقوق الآخرين أو بعبارة أخرى للموازنة بين الحقوق والحريات وتقديم الأولى فالأولى، كمنع التشهير لحفظ حق الكرامة الإنسانية للشخص محل التقييم.
خامساً// أن يكون التنظيم عاماً: لا ان يكون انتقائياً كأنظمة المرور التي تفرض على الجميع بغية حفظ النظام والنفس والمال من الهلاك أو الضرر، وأنظمة النظافة والأمان وغيرها.
إضافة لما تقدم يمكننا القول ان الحقوق والحريات تكمل بعضها بعضاً فالإقرار للمواطن بحق الاقتراع تكمله حرية التنقل والسفر وحرية الاعتقاد لا تظهر بصورتها الأبهى ما لم ترافقها حرية التعبير وحرية التفكير والضمير، كما وان الحقوق والحريات ليست من نوع واحد فبعضها لصيق بشخصية الإنسان كحق الكرامة الإنسانية والحق في الخصوصية وبعضها مرتبط بحياته الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية وكل ما تقدم يحتم على المشرع والإدارة ان تأخذ الأهمية النسبية للحق أو الحرية بعين الاعتبار عند التنظيم.
ونطرح في هذا الموطن سؤال عن نطاق سلطة البرلمان والحكومة في تنظيم الحقوق والحريات؟ بعبارة أخرى هل ان الحقوق والحريات هي فقط ما ذكر في الدستور؟ وهل ان القيد على سلطة التنظيم هو فقط ما ورد بالمواد (2، 46) (لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات، وان لا يكون من شأن التنظيم المساس بجوهر الحق أو الحرية)؟
والجواب، ان الحقوق والحريات لا يمكن حصرها بما ورد في الوثيقة الدستورية فما جاء فيها كان على سبيل المثال لا الحصر، بيد ان ما لم يرد به النص سيختص بتنظيمه المشرع أو ممثلي الشعب لوضع القواعد العامة المجردة لتنظيمها، مع الأخذ بنظر الاعتبار ان ما ورد في الدستور من قيود على سلطة البرلمان والحكومة وهما بصدد تنظيم الحريات المنصوص عليها ستسري على تنظيم ما لم يرد به نص والدليل ان كلاهما لا يملك ان يقيد حرية ما بقيد لا يتفق مع الأسس الدستورية واحترام الشرعة العامة الناظمة للحقوق على الصعيد الدولي والوطني، وعلى سبيل المثال كفل الدستور الحق في التعليم ولم ينص صراحة على الحق في البحث العلمي وكفل الدستور الحق في الحياة ولم ينص صراحة على الحق في التكامل الجسدي أو الحق في التخلص من الألم وما شاكل ذلك كثير.
ولعل ما يدعم قولنا ان الأصل هو الحق أو الحرية والاستثناء هو التنظيم أو التقييد ولا يجوز التوسع بالاستثناء وينبغي حصره في أضيق نطاق، وحين ينظم المشرع أحد الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور أو لم ينص ويتجاوز الحدود الدستورية المرسومة له يكون منحرفاً عن إرادة الشعب مالك السلطة الحقيقي ومنحرفاً في استعمال السلطة عن مقاصدها ومخالفاً للوثيقة الدستورية التي بينت حدود اختصاصه في هذه الوظيفة، كما وأن الحقوق والحريات تارة تكون تقريرية وأخرى تكون توجيهية، فما ورد في الدستور بالغالب هو تقريري أي لا يحتاج إلى تدخل للحد منه أو التقييد بل للتنظيم فقط كما في المادة التاسعة عشر التي كفلت الحق بالتقاضي، فدور المشرع تنظيم المحاكم ودرجاتها وأنواعها وولايتها ولا يكون لأي نص يمنع التقاضي من قيمة قانونية لأنه يقيد ولا ينظم وهي المخالفة التي ارتكبها البرلمان العراقي في أكثر من مناسبة ومنها على سبيل المثال ما ورد بالمادة (29) من قانون التقاعد الموحد رقم (9) لسنة 2014 التي نصت على ان اعتراضات وطعون المحالين على التقاعد بصدد حقوقهم التقاعدية تكون أمام مجلس تدقيق قضايا المتقاعدين وليس أمام محكمة ما يشكل مصادرة للحق بالتقاضي وانحراف عن جادة الصواب ارتكبه المشرع العراقي، اما الحقوق غير المنصوص عليها في الدستور فهي تعد ذات قيمة توجيهية بالنسبة للمشرع فتتطلب تدخله لتنظيمها ويتمتع إزاءها بسلطة أكبر.
بيد ان ذلك لا يمنحه المكنة في تقييدها بما يخرجنا من دائرة كفالتها للمواطنين كافة في ضوء ما يلي من أهداف ينبغي للمشرع والإدارة استهدافها في التنظيم:
1- أن يدعم التشريع المنظم للحق والحرية الذي أو التي لم ترد في الدستور أسس العلاقة بين السلطة التنفيذية الهادفة إلى التنظيم والفرد ببيان كامل لنطاق الحق أو الحرية وآليات الاستعمال والضمانات التي تكفل منع الانحراف في الاستعمال أو التنظيم على حد سواء.
2- أن يكون التشريع المنظم مراعياً للحدود الدستورية والشرعية ولا يؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مصادرة جوهر الحق أو الحرية.
3- أن يبين الضمانات الكفيلة بحماية الحق والحرية لاسيما القضائية والقانونية منها إزاء سلطة الإدارة التي تتدخل في حال ممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم ولربما تتمادى في تدخلها إلى الحد الذي يمنع ولو بشكل غير مباشر الأفراد من حقوقهم أو ينتقص منها.
ويحصل في الواقع العملي للبرلمان انه يفوض الحكومة ممثلة بمجلس الوزراء أو أحد الوزراء سلطة تنظيم الحقوق والحريات وقد يصل الأمر إلى السماح للسلطة التنفيذية بان تنظم بقراراتها ممارسة الحقوق والحريات وتكتسب قراراتها قوة العمل التشريعي حين تستند إلى تفويض من البرلمان، كما لو صدر قانون يفوض رئيس الحكومة بعض الاختصاصات البرلمانية في وضع القواعد القانونية وهو ما يعرف بالتفويض البرلماني للسلطة التنفيذية بممارسة بعض الاختصاصات المحددة لمدة معينة، وهذا الاسلوب من العمل معروف في العديد من الدول ومنها فرنسا على سبيل المثال في دستور الجمهورية الخامسة للعام 1958 النافذ والذي أجاز التفويض التشريعي في المادة الثامنة والثلاثين التي سمحت للحكومة ان تطلب من البرلمان وهي بصدد تنفيذ برامجها تفويضاً لتقوم بتدابير تدخل بالأصل في ولاية القانون بطريق القرارات الإدارية بشرط أن تأخذ قبل إقرارها رأي مجلس الدولة الفرنسي، ولا يمكن الركون إلى التفويض الا بعد استكمال شروطه التي يقف في مقدمتها ان يكون له أساس في نصوص الدستور وانعقاد المجلس النيابي أصولياً وتصويته على مقترح التفويض، وان يكون التفويض محدداً من ناحية الموضوع والزمان، والغالب ان الدساتير تشترط في زمان التفويض ان يكون في الظروف الاستثنائية، كما ان العمل يجري على تحديد موضوعات التفويض بالقانون فلا يكون مطلقاً من هذه الزاوية أيضاً وان ما يصدر عن الحكومة خلال التفويض في الظروف الاستثنائية لابد ان يعرض على البرلمان وهو ما عبرت عنه المادة (61) البند تاسعاً من دستور جمهورية العراق للعام 2005 التي نصت على تخويل رئيس الوزراء الصلاحيات اللازمة التي تمكنه من إدارة شؤون البلاد أثناء الحرب أو إعلان حالة الطوارئ شريطة ان ينظم هذا التفويض أو الصلاحيات بقانون كما اشترط المشرع الدستوري على رئيس مجلس الوزراء عرض الإجراءات والنتائج التي حصلت على مجلس النواب خلال خمسة عشر يوماً من انتهاء الحرب أو حالة الطوارئ، وبمفهوم المخالفة في حال عدم عرضها ستزول عنها صفتي الإلزام والمشروعية ويمكن مقاضاتها ومن اتخذها والمطالبة بالتعويض عن الإضرار التي سببتها للأفراد وبالخصوص ان تضمنت تقييداً للحقوق والحريات الفردية والجماعية خلال الظروف غير الطبيعية.
أما في ظل الظروف العادية فلا سند في العراق للبرلمان لتفويض الحكومة بعض الاختصاصات التشريعية وما القرار البرلماني الذي اتخذه مجلس النواب يوم 11/8/2015 وفوض رئيس الوزراء بعض الاختصاصات نتيجة ضغط المتظاهرين المطالبين بالإصلاح على السلطات العامة في العراق فلا سندله من الدستور ولا يمكن الاحتكام إلى مثل هذه التصرفات القانونية الباطلة لتقييد الحقوق أو الحريات في العراق والتفويض البرلماني كما لاحظنا لا يكون إلا في الظروف الاستثنائية فحسب كون الأمر بحاجة إلى قانون يؤطر سلطة التفويض ويحدد نطاقها من حيث الزمان والموضوعات وهو ما لا يمكن ان يكون لانعدام السند الدستوري لمثل هذا التشريع، كما ان عرض الأعمال ونتائجها على البرلمان يكون خلال مدة دستورية محددة.
مما تقدم نجد ان المجلس النيابي قد اضطر لاحقاً لإلغاء التفويض كونه لم يكن مستنداً على أساس قانوني سليم، من كل ما تقدم ندعو المشرع العراقي إلى عدم الركون إلى ما تقدمه الحكومة من مقترحات قوانين ومشاريع تنظم ممارسة الحرية أو الحقوق الفردية والمبادرة إلى صياغتها من قبل اللجان والأعضاء المختصين وبمساعدة منظمات المجتمع المدني والمهتمين بملف حقوق الإنسان.
.............................
اضف تعليق