زيارة الأربعين وغيرها من التجمعات الإنسانية هي مصداق حقيقي لحرية الإنسان العراقي أو حق الإنسان العراقي في التعددية، لأنه هناك تعدد وهذا التعدد لا يمكن فرضه على أحد، وإنما الإنسان بحكم حريته في الدين أو في الرأي يعتنق المعتقد الذي يريده أو الشعيرة التي يعتقد بأنه يستفيد منها...

ناقش مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات ضمن نشاطاته الشهرية في ملتقى النبأ الأسبوعي، (المضامين الإنسانية المستفادة من زيارة الاربعين)، حيث قدم الباحث في المركز الدكتور علاء الحسيني ورقة بحثية في هذا الشأن، وشارك في مناقشة هذه الورقة عدد من الباحثين والمفكرين الذين حضروا في الملتقى.

وجاء في الورقة:

"إن كربلاء المقدسة والزيارة الأربعينية وكذلك التجمعات الإنسانية الكبيرة، تختزل الكثير من المضامين الثقافية والحضارية والتربوية المعبرة، والتي تمثل جانبا مشرقا من الحضارة الإنسانية في حقيقة الأمر.

إن هذه التجمعات بممارسة حقوق وحريات معينة كفلها الله سبحانه وتعالى لسائر العباد، كذلك كفلتها المواثيق والقوانين الأرضية بمختلف مسمياتها، ومستوياتها القانونية، وحين نأخذ الزيارة الأربعينية في الميزان سوف نجد أن هذه الزيارة وكذلك التجمعات الإنسانية عموما، بدون تسمية، لها الكثير من الدلالات، التي يمكن أن نستفيد منها في الجانب الاجتماعي، وكذلك في الجانبين الثقافي والحضاري.

وحينما نؤكد بأن هذه الزيارة مهمة، وهذه التجمعات مهمة، فهذا تأكيد وتعزيز وترصين لحالة الحقوق والحريات التي يمارسها ثلة من الناس في هذه البقعة من الأرض أو هذه البقع، وقد ذكرنا في هذه الورقة بعض المضامين التي نجدها من الناحية الاجتماعية، مثلا هذه التجمعات تعزز حالة الحوار الفكري والحضاري، حيث تتخللها كثير من الجلسات الحوارية الحضارية عبر المحاضرات والندوات والفعاليات المختلفة التي تحمل معانٍ كثيرة، ومن الممكن أن ترسخ الكثير من المبادئ التي يتحلى بها الناس عموما.

زيارة الأربعين وتمازج الثقافات

ومن شأن هذه التجمعات أن تعزز وتكرس أيضا حالة نبذ العنف، وتعزز حالة الحوار، مع الآخرين، كذلك تؤدي إلى تمازج الثقافات، حيث نجد في هذه التجمعات من هو من خارج العراق، ومن داخل العراق من المحافظة س أو المحافظة صاد، يلتقون في مكان واحد ويأكلون من إناء واحد ويشربون وكل ما شاكل ذلك، فيكونوا حالة واحدة وحالة إنسانية جميلة جدا تعكسها هذه التجمعات الإنسانية.

هنالك الكثير من المعاني التي ضمّناها في الورقة، ولا نستطيع أن نقف عند كل هذه المعاني، لأننا سوف نركز على المعاني التي تحمل الجانب القانوني في هذا المجال.

حينما نتحدث عن التجمعات الإنسانية الكبيرة، فنحن نتحدث بالتحديد عن مجموعة من الحريات، في مقدمها حرية الرأي، إذ أن هذه الحريات تعبير جلي عن حرية الإنسان، في التعبير عن رأيه، سواء رأيه السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو الاقتصاد ومن الممكن أن نبوب هذه الآراء من هذه البوابة، يعني هي ممارسة لحرية الرأي، كذلك هي ممارسة لحرية الدين وحرية العقيدة التي كفلها القرآن الكريم، وهناك آيات كثيرة في هذا الخصوص، وكذلك كفلتها المواثيق الدولية ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المادة 18.

فهذه التجمعات هي تكريس لحالة أو ممارسة حرية الدين وحرية العقيدة، باعتبار أن الناس في هذه التجمعات سوف يمارسون جزءا من شعائرهم الدينية، وجزء من شعائرهم الاعتقادية التي يعتنقونها ويمنون بها، كذلك إنها ممارسة لحرية الإنسان في قضية أخرى، وهي حرية الإنسان في التجمع، الآن تعد حرية التجمع واحدة من أهم الحريات التي ينبغي أن تُكفَل لجميع المواطنين بمختلف مسمياتهم حتى يتجمعوا في مكان وفي زمان معين ليتبادلوا الآراء وما شاكل ذلك، طبعا من كل هذه الحريات هنالك حريات أخرى مشتقَّة.

مثلا من حرية الرأي، هناك حرية الحصول على المعلومة، ومن حرية التجمع هناك حرية التجمهر، والتجمهر غير التجمع، باعتبار أن التجمهر حالة مؤقتة قد تكون للتعبير عن موقف معين وما شاكل ذلك، وهكذا.

فهناك إذن كثير من الحقوق وكثير من الحريات التي يمكن ممارستها من خلال هذه التجمعات لاسيما زيارة الأربعين، ولو جئنا الآن إلى القوانين سواء العراقية أو الدولية، ونحاول من خلالها أن نستقي أهم المضامين التي أشرنا الآن إلى بعضها إجمالا، ومنها نجد ضماناتها في القوانين العراقية.

على سبيل المثال لو قلَّبنا الدستور العراقي، وأمعنا النظر في بعض مواد هذا الدستور، واحدة من أهم الحريات أو الحقوق عفوا، إن الإنسان العراقي كفل له الدستور التعدّدية، بمعنى لا يمكن فرض رأي معي عليه أو فرض دين، أو فرض حزب معين، وإنما هناك تعددية، وهذه التعددي أشار لها الدستور العراقي في المادة الأولى حيث أشار إلى أن العراق بلد متعدد القوميات، والأديان، والمذاهب.

لذا فإن زيارة الأربعين وغيرها من التجمعات الإنسانية هي مصداق حقيقي لحرية الإنسان العراقي أو حق الإنسان العراقي في التعددية، لأنه هناك تعدد وهذا التعدد لا يمكن فرضه على أحد، وإنما الإنسان بحكم حريته في الدين أو في الرأي يعتنق المعتقد الذي يريده أو الشعيرة التي يعتقد بأنه يستفيد منها.

أشرنا قبل قليل إلى مسألة مهمة جدا وهي، إن من مضامين زيارة الأربعين أو التجمعات الإنسانية الدينية، التي تكون متأتية من جانب ديني، تؤدي إلى نبذ الفرقة ونبذ الصفات السيئة، وهذا أيضا بالفعل ما كفله الدستور العراقي في المادة 7، حينما أشار إلى أنه يُحضَ في العراق كل كيان أو نهج يتبنى الطائفية أو الإقصاء أو الفكر البعثي إلى آخره.

هنا هذا النص من مضامينه أنه في هذه التجمعات عمليا تُحضَر عملية الإكراه وعملية فرض الإرادات وما شاكل ذلك، كذلك من واجب الدولة أن توفر لهؤلاء المواطنين الأجواء المناسبة حتى يمارسوا شعائرهم أو حقوقهم وحرياتهم بنوع من الحرية، فهذا مضمون من مضامين الزيارة وهو نبذ الكراهية، كذلك نبذ العنصرية، نبذ الصفات السيئة، هذا المضمون وجدنا له إسقاط ووجدنا له أساس في المادة السابعة من الدستور العراقي.

تعظيم الشخصيات الإسلامية الخالدة

من المضامين التي تختزلها زيارة الأربعين أيضا، أن هناك تعظيم للشخصيات الإسلامية الخالدة، قدمت ليس فقط لدين، وغنما قدمت للإنسانية جمعاء، والإمام الحسين (عليه السلام) قدم نفسه وأهله كنموذج يحتذى به على كل الأديان والمذاهب، كلها تحترمه، وكلها تقدسه لأنه كان مثالا حقيقيا للإنسان المضحي من أجل الآخرين، بغض النظر عن المسميات الأخرى، فهذا الإنسان المضحي أصبح جزءا من ذاكرة العالم، وأصبح جزءا لا يتجزأ من ذاكرة العراقيين، ومن تراثهم الحضاري، وهذا ما أشار له الدستور العراقي وكفله في المادة العاشرة أيضا، حينما أشار إلى إن العتبات المقدسة والمقامات الدينية تعد كيانات حضارة تكفل الدولة صيانتها وحرية ممارسة الشعائر فيها.

فهذا هو أحد المضامين الإنسانية العميقة في زيارة الأربعين عندما تقدس أو تحيي أو تذكر العالم بهذه الشخصية الفذة (الإمام الحسين عليه السلام)، وما قدمته للإنسانية جميعا، وإن هذه الشخصية الفذة لها مقام مقدس واحترام مقدس ولذا إعلاءً من شأنها يقصدها العالم من كل صوب وحدب، حتى يأتون الناس في أغلبهم سيرا على الأقدام من أبعد النقاط حتى من خارج العراق إيمانا بهذه القضية التي وجدنا لها أيضا أساس في الدستور العراقي.

كذلك من المضامين التي تحملها زيارة الأربعين، وقد فضلتُ أن أربط المضامين الإنسانية بالمضامين القانونية، وقد أصبح واضحا لكم أنني أحاول أن أربطها بالنصوص القانونية حتى نحاول أن نربط المضمون الزيارة الأربعينية بالمضمون القانوني.

من المضامين المهمة أن الإنسان حينما يريد أن يمارس حريته، أن تُكفل له هذه الحرية بما هي حرية، ولا يتم تقييدها لأن التقييد غير التنظيم، فمن المضامين التي تختزلها زيارة الأربعين أن الإنسان حرّ، وهذا ما وجدناه في نهج الإمام الحسين (عليه السلام)، في يوم عاشوراء، لما ذكّر القوم في غير مرة بأن ينبغي أن يكونوا أحرارا، ومن كلماته (عليه السلام) كونوا أحرارا في دنياكم، وهذه المضامين التي نعرفها كلنا.

إن مضمون الحرية نجده في أجلى صوره في شخصية الإمام الحسين (عليه السلام)، ولذلك فإن الذين يقصدون الإمام الحسين ويزورون ويقدسون هذه الشخصية، ويقومون بإحياء الشعائر، هم بالتأكيد سوف يسترجعون هدف الحرية التي دافع عنها الحسين (عليه السلام) باللاشعور في أذهانهم، فإن كانوا من العراقيين، ينبغي أن يلتفتوا إلى أن الدستور العراقي كفل لهم الحرية في المادة 15.

فمن حق العراقيين في الحياة الأمن والحرية، حيث أضاف المشرّع القانوني أنه لا يجوز تقييدها، لا الحق في الحياة ولا الحق في ولا الحق في الحرية، هذه مكفولة بموجب القانون وبحكم قضائي، وبذلك لا يمكن أن تقيّد حرية زائر مثلا، أو تقيد شخصا معينا إلا بحكم قضائي، هذه الحالة نسميها نحن في علم القانون (الضمانة)، أن لهذه الحرية المشتقة من مضمون إنساني.

لذلك ذكرنا في إحدى المرات إن الحقوق والحريات هي في الأساس قيم إنسانية مشتقة من الفطرة الموجودة في الإنسان وبالتالي هي ليس جديدة عليه، وإنما آليات ممارستها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وإلا فهي مضامين وقيم إنسانية وجدت في اليوم الأول الذي وُجِد فيه الإنسان على الكرة الأرضية.

ومن المضامين المهم التي يمكن أن نجدها في زيارة الأربعين، طبعا نحن نعجز أن نحصي كل الفوائد لكن نحاول أن نرصد بعض المضامين المهمة التي تهمنا نحن كعراقيين أولا وكمسلمين ثانيا، من المضامين المهمة أيضا أن الزيارة تحفظ لكل إنسان خصوصيته، أو الحق في الخصوصية ولا نقصد هنا الخصوصية بمعناها الضيّق الذي يجعل كل واحد أسراره في حرز ولا يجوز الإطلاع عليها، ولا يجوز الإطلاع على حياته الخاصة، ليس هذا المضمون فقط وإنما الحق بالخصوصية في أني أنا لي الحق في خصوصية ما أؤمن به، وخصوصية ما أريد أن أقوم به، بحيث أنا لا يمكن لجهة سواء كانت رسمية أو غير رسمية أن تتدخل في الخصوصيات، أو تقيّد خصوصياتي وهذا ما كفله الدستور العراقي في المادة 17.

هناك أيضا مضامين من الممكن أن نستشفها في الزيارة وكذلك لها تأسيس في القوانين العراقية، على سبيل المثال عندما نريد أن نركز على خصوصية المضامين وخصوصية الحقوق وخصوصية الحريات التي يؤمن بها العراقي نذكّر بما ورد في المادة 372 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 سنة 1969 التي كفلت لكل عراقي الحق في ممارسة شعائره وأن كل من يتعمد الإساءة إلى دين أو مذهب أو معتقد أو إلى مقدس يمكن أن يعاقب بالحبس ويمكن أن يعاقب بغرامة أو بإحداهما، حسب جسامة الأمر وقد يصل إلى السجن إذا كان هناك ظرف مشدد في هذه المسائل، مثلا تحقير شعائر أو عبادات أو أماكن أو كتب أو رموز مقدسة لأي عراقي وليس هذا محصور بالمسلمين فقط بل لكل الديانات وهذه ضمانة أخرى أيضا لهذا المضمون الإنساني.

حينما نقول إن لزيارة الأربعين مضامين إنسانية وحضارية، نؤكد أن هذا الأمر ينعكس أولا على الأسرة العراقية، فالأسرة العراقية لها الحق الكامل في أن يكون لها خصوصية ثقافية وخصوصية حضارية لكونها تمثل جزءا لا يتجزأ من المجتمع العراقي، ومن المجتمع المسلم ومن المجتمع الإنساني، وإلى آخره من العناوين الأخرى.

فالأسرة الآن لما تريد مثلا أن تربي أبناءها على تقديس أو على ممارسة طقوس الزيارة الأربعينية، ماذا ينقل الأب لأبنائه في هذه العملية؟ ينقل لهم مجموعة من القيم الإنسانية، لأنه سوف يربي ابنه على مسألة رفض الظلم ويربي أبنه على مسألة الوقوف في وجه الانحراف، وإلا ماذا تعني أن تأخذ ابنك أو بنتك إلى الزيارة، لابد أن في هذه الزيارة مضامين إنسانية وثقافية وحضارية، لهذا أنت تقوم بتربية أجيال تؤمن بما آمن به الآباء، في أن هذه الشخصية الإنسانية العظيمة كانت تدافع عن القيم، فتنقل لهم هذه الصورة المرتبطة بالحق في تكوين الأسرة، ومرتبطة بالأسرة نفسها، لذلك هذا هو الذي كفله الدستور العراقي في المادة 29، حينما أشار إلى أن الأسرة هي أساس ونواة المجتمع.

الحق الحضاري للأسرة

الدولة ملزمة بموجب المادة 29 أن تحافظ على الأسرة، ككيان وثقافة ودين وأخلاقيات وما شاكل ذلك، ففي نص الدستور العراقي يوجد إلزام، هذا الأمر يأتي ممن؟، يأتي أولا من مضمون إنساني، وهذا المضمون الإنسان هناك واجب على الدولة أن تحافظ عليه، والذي هو الحق الحضاري للأسرة، أو الثقافي للأسرة الذي تتناقله الأسر أبا عن جد، ويسري في أبنائها وينقله الآباء إلى الأبناء وهكذا.

وهناك أيضا مضامين أخرى في الزيارة الأربعينية، نأخذ منها مضمونا معينا، هنالك في الدستور العراقي المادة 36 تلزم الدولة برعاية المؤسسات الثقافية، طيب ماذا نريد أن نسمي مؤسسات الخدمة، غير أنها مؤسسات ثقافية تطوعية، قد نسميها باللهجة العامية (موكب، أو مؤسسة، أو مسميات معينة) لكن هي ماذا؟، هي في حقيقتها مؤسسة ثقافية تطوعية، فيوجد إلزام للدولة بأن ترعى هذه المؤسسات الثقافية وتحافظ عليها، فهذا أيضا مضمون إنساني قبل أن يكون التزاما على الدولة في أن تكون هناك حرية في تشكيل المؤسسات أو تريد أن تسمها هيئات أو مثلا تسميها جهات تطوعية خيرية، هذه الجهات الخيرية نجدها تمارس أنشطة، هذه الأنشطة كلها عبارة عن حقوق أو حريات.

لأن هذا الموكب أو هذه المؤسسة أو هذه الهيئة قد تجمع الناس وهذا حق التجمع، ويقيمون مجلسا كما نلاحظ ذلك في كل يوم ومعتادين عليها في الزيارات أو ما شاكل ذلك، فهذه المؤسسات قد تقوم بتوزيع كتب أو إصدارات أليس هذا هو الحق في حرية الرأي والتعبير، أليس هذا هو مضمون المادة 38؟ (تكفل الدولة حرية الرأي بكل الوسائل)، أليس هذه واحدة من أشكال التعبير عن حرية الرأي؟، إذا كانت عندي إصدارات معينة سواء كانت دينية أو ثقافية أو أي إصدارات كان وأنا أقوم بتوزيعها بحرية ولا يضايقني أحد أو يمنعني، أو أقوم بعمل خدمة وبأعمال تطوعية أو بأعمال أخرى.

إذًا هذه مضمونة من المضامين الإنسانية التي من الممكن أن نستفيدها من التجمعات، وهناك البذل أو العطاء وهو مضمون إنسانية رفيع جدا لأنه سوف يحقق حالة التكافل الاجتماعي، الفقير في الزيارات يشبع، الجائع يشبع، حتى أن الإنسان يُكسى أحيانا، ونجد هذا موجود في الهيئات وعند ناسنا الخيرين الذين يقدمون ويبذلون، إذن هو مضمون إنساني وله تجليات كثيرة واحدة من التجليات هي العطاء.

فمن شأن هذه التجمعات أن تكرّس حالة العطاء عند الإنسان، أن تشجع على البذل وتشجع على الإعطاء، وبالتالي هنا سوف نحصل على الإنسان الإيجابي، الإنسان المبادر، الإنسان المبادر إلى الخير، ويقد الخير في مختلف مسمياته.

هناك كثير من النصوص الدستورية أو القانونية لها علاقة بالمضامين الإنسانية التي أشرنا لبعضها، مثلا (قانون الأحزاب 36 أو قانون المنظمات غير الحكومية 12 سنة 2010، أو في قانون المفوضية العليا لحقوق الإنسان 58 سنة 2008، أو غيرها، نجد هناك الكثير من المضامين الأخرى ولكن لم نتطرق لها بشكل تفصيلي لضيق المجال".

ثم قام الباحث الدكتور علاء الحسيني بفتح باب الحوار والنقاشات على الحاضرين في هذه الندوة، وطرح الأسئلة التالية:

أولا: ما هي الدروس الحضارة المستفادة من زيارة الأربعين؟

ثانيا: كيف يمكن أن نستثمر التجمعات المليونية الحاشدة وشحذ الهمم في ميدان العمل الإنساني العابر لكل العناوين الفرعية لبقية أيام السنة؟

ثالثا: ما السبيل لصياغة ميثاق إنساني باسم كربلاء لمناهضة كل صور الانتهاك لحقوق الإنسان وحرياته في العراق والعالم؟

المداخلات

- الشيخ مرتضى معاش؛ باحث وكاتب في الفكر الإسلامي المعاصر:

ان هذا الزمن الفردي مؤلم للإنسان، حيث يستهلكه ويستنزفه ويفرغه من محتواه، وقد لاحظت أن كثيرا من الناس يأتون إلى زيارة الأربعين بهذا التموج المليوني الهائل من اجل إعادة اختزان المعنويات وملء الفراغ الداخلي.

المجتمعات اليوم في كثير من دول العالم أصبحت منعزلة منفصلة، تعيش الحالة الفردية، وهذه الفردية أدت بالإنسان إلى أن يصبح بائسا تعيسا ولا يعيش حالة الشعور بالوجود في نفسه وفي داخله، وليس لديه مضمون إنساني ولا يشعر بذاته، كالفرد الذي ينغمس في شبكات التواصل الاجتماعي بشدة، حيث يشعر بعدم وجود تقدير للذات في نفسه، ولا يشعر بأنه محترم، ولا يشعر بأن الآخرين يحبونه، أو يقدرونه.

لذلك فإن زيارة الأربعين تعطي بعدا هائلا في عملية ملء الفراغ الوجودي للإنسان، في مقابل تلك العدمية التي خلقتها الوجودية الحديثة، فالوجودية البائسة خلقت العدمية، الوجودية البائسة قالت للإنسان أنت إنسان مستقل لا تحتاج إلى أي شيء آخر، ففصلت هذا الإنسان عن أهله ومجتمعه وعن ثقافته وجعلته إنسانا وحيدا، يعيش في سجن فردي في داخله.

لذلك فإن هذه الزيارات الموجود فيها جانب معنوي وديني، وفيها مضمون إنساني للإنسان فيتشبّع بكثير من القيم الجيدة والمشاعر اللطيفة التي تُخرجه من حالة التبلّد والجمود في المشاعر، حيث اصبح الناس ينظرون إلى الموت والقتل والكوارث كمشاهد تلفزيونية خيالية دون وجود مشاعر حقيقية، حتى تطبع انسان اليوم مع العنف والقتل.

لهذا فإن هذا الفعل وهو زيارة الأربعين هو استعادة لمشاعر الإنسان، وللتعاطف الإنساني، والخروج من هذا الانسداد الوجودي الذي يعيشه هذا الإنسان.

النضج النفسي والعقلي للإنسان

يقول الإمام علي (عليه السلام) في كلمة جميلة في نهج البلاغة: (فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا وَكَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا)، فهذا الحديث يعبر عن كل المعنى الذي نقصده نحن في هذه الزيارة، فالبشر يعيش حالة فردية، وترك حقه الوجودي في الحياة، وانمحت علاقاته الديناميكية مع الآخرين، وابتعد عن حالة النمو والتطور والنضج النفسي والعقلي التي يحتاجها كل إنسان.

والمقصود هو التطور والنضج الحقيقي عند الإنسان، وليس الانغماس في الدنيا واللذة، حيث مشكلة ما بعد الحداثة تكمن في أنها تعطي للإنسان حريته الجسدية أي تحرير غرائزه من الكبت، أي يكون منفلتا حتى يشعر بوجوده دون أن يكون هناك تأثير آخر عليه سواء كانت قيم أو مبادئ أو ثقافات أو أعراف، فأرادوا أن يكون الإنسان إنسانا بحد ذاته من خلال قطعه وفصله عن كل شيء بحسب رؤيتهم، والنتيجة انهم أرادوا أن يُخرجوا الإنسان من عدمٍ فأدخلوه في عدم آخر وفي أفق ظلامي منسد، وهذا هو معنى (وكأن الرشد في إحراز دنياها)، حيث يكون الإنسان في غاياته وسلوكه وتطوره منحصرا بالحرص على الدنيا والتكالب عليها.

لكن زيارة الأربعين على العكس من ذلك تعيد الانسان الى مضماره الوجودي وشعوره بالحياة العميقة من خلال الممارسة الوجدانية للعناصر الإنسانية الكامنة. حيث تسلط الضوء على البعد النفسي والاجتماعي عند الإنسان، ونرى ذلك في زيارة الأربعين المروية عن الامام الصادق (عليه السلام):

(فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالْأَرْذَلِ الْأَدْنَى وَشَرَى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدَّى فِي هَواهُ وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الْأَوْزارِ الْمُسْتَوْجِبِينَ النَّارَ).

ومعنى (غرته الدنيا وباع حظه)، أي أنه باع وجوده، فكل إنسان عنده وجود في الحياة، وهذا يسمى الحظ، وليس الحظ الذي نقصده نحن، وإنما الحظ هو النصيب، فأنت ما هو نصيبك في الحياة؟، مثلا هناك إنسان له نصيب في هذا المقدار من المال، أو في هذا البيت، فنصيبه في الحياة ماذا؟، هنا باع حظه بالأرذل، أو بالمقدار الأدنى، أي أدنى مستويات الأرذل.

فهذه الزيارة تسلط الضوء على قضية الإنسان وكيف يستنقذ نفسه من هذه الحيرة، ومن الضلالة وبالنتيجة كيف يتجنب السقوط في مستنقع الرذيلة.

الدروس المستفادة من زيارة الاربعين

1- استخلاص الإنسان من البؤس والاكتئاب والشعور بالشقاء.

2- استنقاذ الإنسان من مستنقع الأنانية عبر التماهي الجماعي، والشراكة بالتعاون والتعاضد والتكافل.

3- تسليط الأضواء على الأمور والاهداف التي يجب يعيش من أجلها الإنسان.

4- زيادة التعاطف والقضاء على فجوات التبلد والتباعد التي تتصاعد يوم بعد آخر بسبب التكنولوجيا الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي.

5- ترسيخ التنوع الإيجابي واحتواء النزاعات العرقية والطائفية والفئوية التي تثيرها الأجندات الانتهازية. ومثل هذه الزيارات المضمونية لا يوجد فيها بعد طائفي وإنما فيها بعد إنساني، هذا التجمع المليوني يوحدهم في مضمون إنساني عال وكبير، يخرج الإنسان من أنانيته وطائفيته وعرقيته.

6- ردم فجوة الطبقات من خلال ثقافة التكافل والعطاء ونبذ الاستئثار.

استدامة استثمار التجمعات المليونية

أولا: استثمار الزيارة والتأكيد على حب العمل، والنشاط ونبذ الكسل والخروج من الكسل الاقتصادي والاجتماعي، وتحجيم حالة العيش في عالم الاستهلاك، حيث تعطينا هذه الزيارات حركة إنتاجية للبناء والتقدم.

ثانيا: ترسيخ ثقافة التعاون على الخير، وإلا إذا لم يكن هناك كما تقول الآية القرآنية: (وتعاونوا على البر والتقوى) فسيكون هناك تعاون على (الإثم والعدوان) وهذه سنة طبيعية في الحياة.

ثالثا: تعليم النظام كثقافة أساسية ونبذ الفوضى، واستثمار هذه الزيارات لبناء النظام، فالأمم تتقدم بالنظام، والإمام علي (عليه السلام) في وصيته للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه الله: (أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (ص) يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ).

فالإمام (عليه السلام) وهو في هذا الوضع الذي سينتقل فيه إلى العالم الآخر يوصي الإمام بهذه الوصية. لذا لابد أن نتقن هذه القيمة الأساسية في حياتنا وبرامجنا وهي عملية النظام والخروج من حالة الفوضى التي هي بالنتيجة مدمرة.

رابعا: من نتائج التعاون والنظام والإصلاح هو احتواء الصراعات والاختلافات.

خامسا: البناء الاجتماعي السليم الذي ينطلق من القاعدة الى القمة وليس من القمة إلى القاعدة، بعيدا عن تأثيرات السلطوية المتحكمة التي تطويع الحراك المجتمعي لغاياتها الخاصة، فالأنظمة الاستبدادية تنطلق من القمة إلى القاعدة، لكن حين يكون هناك حراك اجتماعي قوي يشكل ذاته بذاته دون وجود مؤثرات تنطوي عليه سوف يكون هو الذي يفرض الواقع الذي يريد، ولا يُفرَض عليه في مقابل السلطة التي تحاول أن تتحكم بالجموع لصالح أجندات خاصة.

النتائج تتبع المقدمات

صياغة ميثاق إنساني

أولا: عقد التجمعات والمؤتمرات وتحويل مضامين الإنسانية إلى حقوقية.

ثانيا: التأكيد على التعليم من أجل المعرفة والمعرفة بالتعليم أيضا، عبر جعل المعرفة كأهم هدف ترفعه الزيارات المليونية. فعن الامام موسى الكاظم (عليه السلام): (من أتى قبر الحسين (عليه السلام) عارفا بحقه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).

إن ما تأخر يتبع ما تقدّم، لأن الإنسان الذي يتوب حقيقة ويبدأ حياته من جديد سوف لا يُذنب لأنه تتشكل عنده حالة من التقوى والالتزام ويشعر بالمسؤولية وكما يُقال أن النتائج تتبع المقدمات.

ثالثا: النصيحة والتناصح كثقافة وإستراتيجية للإصلاح، والتراكم في التقدم، فالنصح هي قبول الرأي الآخر وقبول الإصلاح والنقد والمعارضة، وعدم التزمت بالرأي فمن شروط النصيحة طاعة الناصح، وهذا يعني تمكين نفسك من عملية استماع النصيحة، وهو مرحلة من التقدم والنضج بحيث يقتنع بالاستماع الى النصيحة ويقبلها.

رابعا: الاستفادة من زيارة الأربعين كمصدر أساسي لكتابة وثيقة عالمية للدفاع عن كرامة الإنسان وحماية حقوقه.

- الأستاذ عدنان الصالحي؛ مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

ان زيارة الأربعين بحد ذاتها مشروع ديني وأخوي متكامل، قد يكون التركيز على أجزاء منها مفيد والتركيز عليها مهم جدا، تفضل الباحث بذكر الكثير من المضامين وهي كثيرة ومتناسقة من حيث الجانب الاجتماعي الديني والقانوني تنظيما لحياة الإنسان، ورفعا لقيمته كما أشار سماحة الشيخ مرتضى معاش لهذا الموضوع.

سجلت بعض النقاط التي رأتها من خلال التجربة، ولمست هذا الشيء في كل عام، إن زيارة الأربعين تشكل نقاط جوهرية من هذه النقاط هي عودة الإنسان إلى فطرته، فالإنسان الزائر سواء كان بسيطا أو مسؤولا يحاول أن يعود إلى فطرته، لأن زيارة الأربعين أشبه بالقانون الإلهي، أن تكون سائرا في طريق البقاء وأن ترقى إلى صفاتك الإنسانية الصحيحة.

الكل يحاول أن يرجع إلى الفطرة، والعودة إلى الفطرة باعتقادي جزء أساسي من تصحيح المسار، لذلك تتعامل الناس بفطرتها في أغلب الاتجاهات، لهذا نتحدث ونلاحظ أن المشاكل أثناء زيارة الأربعين تكاد لا توجد، لماذا؟ لأن الإنسان يرى أخاه الإنسان بعينه الإنسانية، وهذه النظرة قد تكون غائبة على مدار العام، أو قد تكون معدومة تماما في أغلب الأيام، في هذه الزيارة تتحقق هذه الفطرة بأغلب أنواعها.

الشيء الآخر الإيثار، فالكل يحاول أن يبذل قصارى جهده في هذه الزيارة حتى وإن كان فقيرا لا يمتلك شيئا، فهو يحاول أن يظهر للآخرين بأن لديه القدرة على البذل والعطاء، وباعتقادي أن موضوع الفطرة والعطاء هما أقصى ما يملكه الإنسان في سبيل حبه وتأثره بهذه المناسبة، فإذا ترك مصلحته وانتقل إلى خدمة الآخرين أصبح فعالا وإيجابيا في هذه الحياة وهذه فضيلة من الفضائل الواضحة في زيارة الأربعين.

الشيء الثالث، اختفاء الفوارق بدرجات كبيرة، بل بالعكس ترى إن كبار القوم ورموزهم والشخصيات البارزة تحاول أن تنزل إلى أدنى المستويات وتتماشى معها، وفي خدمتها، كما يحاول الناس الكبار نحو الناس البسطاء ذلك، وهكذا يعتبر متفضلا عليهم، وهذه بالنتيجة هي عملية النزول إلى الأعلى، وليس النزول إلى الأسفل.

إذن هي في الحقيقة إخفاء الفوارق بدرجة عالية وجعل الناس في طبقة واحدة من المساواة وهي كأسنان المشط من حيث تعاملهم مع هذه المناسبة.

المضامين كثيرة كما تفضل الدكتور الباحث حتى لا أطيل، أنا باعتقادي ليس الفكرة من زيارة الأربعين أن يحضر الملايين إلى مساحة عدة كيلومترات ثم تنتهي بخدمة من خدمات البلدية والماء والكهرباء والنقل والذكر في الإعلام واستخدامها لأهداف إعلامية، أنا باعتقادي هي رسالة يجب أن ينتج عنها شيء ما، فمن يأتي إلى كربلاء ويخرج منها من دون أن يستلم رسالة فأنا باعتقادي أنه لم يحظ من الحسين (عليه السلام) بشيء.

لأن الحسين (عليه السلام) رسالة وعِبرة وليس عَبرة فقط، الناس عبيد الدنيا، اليوم عندنا التديّن أشبه بمن يلبس الملابس ويخرج بها إلى الشارع، إذ لا يمكنه الخروج من دون ملابس، فأصبح الدين بهذه الطريقة لدينا، وهو الدين الذي نرتديه من أجل أن يرضى الآخرون عنا، لكن المهم هو الجوهر الذي يحرك بوصلة الإنسان.

الحسين (عليه السلام) يريد أن يعيد الدين الحقيقي، أن تدخل إلى كربلاء وتخرج منها بجرد لأعمالك، وكم كنت مطابقا لآل البيت (عليهم السلام) وكم كنت بعيدا عنهم، لهذا باعتقادي يجب التركيز على ماذا لدينا من الحسين (عليه السلام)، وماذا كسبنا من هذه الزيارة وكم تطورنا عن السنوات السابقة؟، فبرنامجنا يجب أن يكون إنساني عقائدي في بناء الإنسان، وبناء الإنسان هو أفضل ما يمكن أن يُبنى في هذا العالم، فإذا بنينا الإنسان وجدنا أن باقي الجوانب قد تصلح بشكل متواتر.

إذن هذا البرنامج ولا أريد أن أجزم، ولكن بحسب علمي لا يوجد لدينا كثير منه، قد يكون هناك بعض الشخصيات تعمل عليه، ولكن أتمنى أن يكون لدينا برنامج فعلي في بداية الأربعين كما نتهيأ للمواكب والخدمات البلدية، يجب أن يكون هنالك برنامج نتهيّأ له أو نهيّئه، ثم نرى ما أنتجناه في هذا العام عن العام السابق وما هي النتائج المتراكمة.

- مداخلة الباحث حسن كاظم السباعي:

إنَّ أهم درس حضاري يمكن أن يُستلهم من زيارة الأربعين هو تجمّع على "مبدأ" في زمن إستخرطت فيها المبادئ في عالم يدعي الحضارة والتقدم؛ فصمد هذا "المبدأ" ليرد على من يزعم بموت المبادئ ناهيك على أنه مبدأ ديني؛ والدين أساسا محارب من قبل الجميع؛ لا من قبل التيار المادي الغالب على العالم فحسب بل وحتى من المحسوبين على الدين تحت غطاء تجديد الفكر أو الخطاب الديني؛ فالعالم المادي ينادي بالتحرر من أي مبدأ، بل ويلاحق من يريد أن يعلم أطفاله أية أسس مبادئية مدعيا أن ذلك ضد حقوق الطفل وعليه أن لا يتلقى أي شيء حتى يدخل الثامنة عشر من العمر فيختار ما يريد! والأغرب أنها تصبغ ذلك بصبغ الإنسانية والحرية!

من هنا فإنَّ وجود وبقاء ظاهرة زيارة الأربعين بل واتساعه رغم مرور الزمان لهي رسالة مقدسة في زمن قد استهدف التقديس من قبل التيار المادي الغالب وتعرض أيضا للتشكيك من قبل التيار الديني المنهزم.

وأي حضارة أعظم منها حينما نرى الجفاف والجدب قد ضرب الأفكار والقلوب، فيرسل الله الرياح مبشرات، فتهطل أمطار الأربعين لتنعشها وتعيد الحياة إليها فيحيا المبدأ ويتوقد من جديد.

من هنا فإن أهم ما في هذا الأمر هو أن هذا الإعجاز الأربعيني؛ جاءت بصبغة دينية وببطولة رجل ينتمي إلى الأُسرة النبوية، مما قد عجز الآخرون أن يأتوا بمثله؛ ولذلك فإنها حضارة دينية وإنسانية في وقت نفس الوقت.

وعليه فإن هذه الظاهرة الحضارية تدل على أن الدين هو الأصل، ومن يبتغِ غيره سيكون من الخاسرين.

وما يرتبط بكيفية استثمار هذه الظاهرة؛ فيكفي أنها قد ألغت جميع الاعتبارات والانتماءات والحدود المذهبية والطائفية والقومية والعشائرية والقبلية والسياسية والاجتماعية ومثيلاتها من العنصريات؛ ولقد تجلى ذلك بوضوح في كل لحظات مسيرة الأربعين.

وعليه فإن حصلت أية أزمة أو حادثة طيلة أيام السنة تكون نقيضة لظاهرة الأربعين فما علينا إلا تذكير أنفسنا بتلك المسيرة لنعيشها في سائر الأيام. هذا ناهيك عن سائر مظاهر التعاون والكرم والإيثار والمحبة و.. الجلية فيها، والتي لابد من نقلها إلى ثقافة يومية.

ولصياغة ميثاق إنساني باسم كربلاء لمناهضة انتهاك حقوق الإنسان والحريات؛ فما أحرى أن توضع كلمة سيد الشهداء عليه السلام في قائمة الميثاق حينما قال: "إن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم"؛ فالحرية وحقوق الإنسان هي كلمة سواء بين جميع أبناء البشر وبمختلف انتماءاته وعندها تندمج كل الحضارات في بؤرة كربلاء.

- المحامي صلاح الجشعمي؛ مؤسسة مصباح الحسين:

من واقع التجربة التي عشناها في زيارة الأربعين خلال عشرة أيام، حيث كان لدينا برنامج وجاءنا متطوعون وهم شباب من مواليد 2000 و 2001 و 2002 و 2003، حيث حددنا لهم برنامج عمل تطوعي وكنّا معهم منذ الصباح حتى الليل، وقد وجهناهم وتحدثنا معهم، واستشعرت بمسؤولية معينة، فهؤلاء يمتلكون الجانب الإنساني، وعندهم روح الاندفاع ولديهم عزيمة وإصرار على أن يعملوا ويخدموا الزوار.

وحين نسألهم لماذا تأتون وتتعبون هنا، فيجيبون إنهم يعملون من أجل الحسين (عليه السلام)، وعندما نتعمق معهم في الكلام فيقول إنني حين أعمل هنا أشعر براحة نفسية، فحين أخدم الغير في هذه الأيام أشعر بالسلام النفسي، واشعر بروحانية عالية.

وعندما نسألهم عن أوضاعهم وأحوال أسرهم، فلا يشكون من أي شيء، إذن هذه فرصة بأن نكون بالقرب من الشباب ونضخ لهم مجموعة من القيم الجيدة، حتى يستطيعوا يعيشوا بها هناك في محافظاتهم، وهم لديهم رغبة بأن يؤسسوا مراكز ثقافية في أماكن سكناهم، وهم كسبة وليسوا خريجين كليات وإنما متوسطة أو إعدادية، لكنهم يمتلكون روح العمل.

ومن المفترض والمهم أن نختلط بهؤلاء الشباب، وأقصد بذلك الطبقة المثقفة الواعية، فكل موكب فيه العشرات من هؤلاء الشباب، ولديهم رغبة واضحة بالاستماع واستقبال القيم، وهكذا يمكن أن تزرع فيهم بصيص من الأمل في هذا الفضاء الموجودين فيه هم ونحن.

فنحن عملنا برنامجا سريعا استفدنا فيه من افكار المرجع السيد صادق الشيرازي والمرجع الراحل السيد محمد الشيرازي وعملنا ورقة عمل بسيطة وسريعة وعرفناهم على القيم المطلوبة أو الأنشطة التي يقومون بها في مناطقهم حتى تتبلور هذه القيم أكثر وأكثر.

- الأستاذ حامد الجبوري، باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية:

سوف أتناول زيارة الأربعين من منظور اقتصادي، إن التجمع البشري في زيارة الأربعين هو هائل ومتزايد ودوري، هائل باعتباره أكبر تجمع بشري بعد تجمع الهندوس الذي يقدّر عدد زائريه بـ 25 مليون زائر، في حين أن الزيارة الأربعينية وصلت إلى 22 أو 23 مليون زائر وهي ثاني أكبر تجمع بشري في العالم، كما أنه تجمع بشري مستمر.

في سنة 2011 بلغ عدد الزائرين 16 مليون زائر، وفي سنة 2023 بلغ عدد الزوار 22 مليون زائر، بمعنى أن العداد زاد مرة ونصف المرة، أو مرة وثلث تقريبا، أما الموعد الدوري للزيارة أي أنها تحصل بشكل سنوي، بينما الحج الهندوسي في الهند يحصل مرة واحدة في كل 12 سنة.

طبعا التجمع البشري في الزيارة الأربعينية، هو تجمع نوعي في العالم، تسعى الدول لتحقيقه، أي تحقيقي حدث عالمي هو نوع من الحصول على مكانة على مستوى الساحة الدولية، والمنطقة الإقليمية، الحصول على مساحة دولية تعني زيادة هذا التجمع وحصول الدولة على مكانة جيدة، وهكذا يكون هناك إقبال على هذا الحدث العالمي.

زيادة الإقبال تعني زيادة السواح، والطلب على منتجات وخدمات، وزيادة الطلب على المنتجات والخدمات يعني تحريك الاقتصاد والنشاط الاقتصادي والحصول على المزيد من العملة الأجنبية، كذلك حل مسألة الاكتناز في الداخل العراقي، لأنه كلما تزداد حركة النشاط الاقتصادي تزداد فرص الاستثمار ويقل الاكتناز.

وهذا بحد ذاته هو مورد اقتصادي يعني حاله حال النفط، فالنفط نتيجة عدم وجود إدارة كفوءة وبعد اقتصادي لم يتم استثماره بشكل جيد بما يخدم الاقتصاد والمواطن العراقي، الزيارة الأربعينية هي أيضا مورد لكن لم يتم استثماره بالشكل الأمثل.

من اجل استثمار هذه الزيارة في تقديري بشكل أمثل، هناك نقطتان مهمتان:

النقطة الأولى: بناء أو توفير بنية تحتية متطورة على سبيل المثال النقل البحري والبري والجوي. كذلك بالنسبة لتوفير مراكز الإيواء وتوفير الفنادق بشكل ملائم ويستوعب هذا التجمع الهائل، توفير مساحات واسعة والعمل على تطوير الأماكن التراثية، هذه المسألة بحد ذاتها هي عنصر اقتصادي مهم.

حين قدوم الزائر سواء محلي أو أجنبي، ووجود بنى تحتية تسهل تأدية الزيارة الأربعينية سوف يقوم هذا الزائر أو السائح بدعوة أصدقائه أو أقربائه من الداخل أو الخارج لتجديد هذه الزيارة مرة أخرى وبالنتيجة هي زيارة متراكمة على مدى السنوات القادمة خصوصا مع وجود بنى تحتية.

النقطة الثانية: وهي تتعلق بمسألة الاهتمام بالجانب الإعلامي، وجود هذا التجمع الهائل مع وجود بنى تحتية قادرة على استيعاب هذا التجمع الهائل وتسليط أضواء الإعلام عليه، وإظهاره للعالم سيخلق سمعة أو هوية قيمية محلية عالمية، وهذا بحد ذاته يكون مورد ودافع لإصلاح الجانب الاقتصادي وجزء منه مسألة التنمية لدعم الاقتصاد فتكون رافدا آخر إلى جانب النفط والموارد الأخرى.

- الدكتور قحطان حسين طاهر؛ أكاديمي وباحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

السؤال الأول: طبعا القيم كثيرة وأغلبها بل تكاد تكون في معظمها إيجابية، تكافل، تعاون، جود، بذل العطاء، قمة الإنسانية، أقصى درجات الالتزام بالقيم الأخلاقية، والدينية، بالمقابل يوجد قلة قليلة، بدرت أو صدرت منهم أفعال غير مقبولة اجتماعيا.

السؤال الثاني: من الممكن أن نقدم مقترحا يتضمن الآتي: تأسيس تنسيقيات بين المواكب والمؤسسات الخدمية الفاعلية التي امتازت بنشاطاتها وأعمالها الخيرية في خدمة زيارة الأربعين، هؤلاء في الحقيقة اتضحت صورتهم بشكل واضح للناس وصار لهم صيت خلال نقل ما قاموا به عبر وسائل الإعلام، فمكن الممكن أن يكون هؤلاء محل احترام وثقة أغلب الناس وبالتالي ممكن أن يعملوا تنسيقيات بين هذه المواكب تعمل على مدى أيام الزيارة، وتتعاون فيما بينها وتتبادل الآراء والحوارات والأفكار من أجل التدخل في الأمور التي يتطلب التدخل فيها كالحالات الإنسانية مثلا، أو الخدمية، والقيام بحملات عمل تطوعية، أو تشخيص مكان في منطقة ما تحتاج إلى خدمات، ومن الممكن أيضا أن ينظموا حملات تبرع للأعمال الخيرية.

السؤال الثالث: كيف نديم السلوك الأخلاقي الملتزم الذي نشاهده في أيام زيارة الأربعين؟، الحقيقة هذه مهمة المؤسسات الدينية، والاجتماعية والثقافية الفاعلة، ومن الممكن أن تقدم مبادرات وتعمل على صياغة ميثاق من خلال الاستعانة بالمؤسسات الثقافية التي تمتلك الخبرة وقدمت خدمة كما لاحظنا في هذه السنة حيث نشطت المواكب الجامعية وكما رأيت لدينا في جامعة بابل، بالإضافة إلى الأكل والطعام والخدمات الأخرى كانوا يعقدون محاضرات ثقافية دينية توعوية على مدار أيام الزيارة.

ومن الممكن من خلال هذه المواكب عقد المحاضرات الفكرية والثقافية ويتم التنسيق فيما بينهم على الأقل، من اجل عقد ندوات فكرية يثيرون من خلالها ميثاق يتكون من فقرات وبنود ممكن تعميمها والاستفادة منها في أيام الزيارة الأربعينية.

هناك ملاحظة بسيطة، نحن دائما نسأل لماذا يكون سلوك الزائر في أيام الزيارة يكون في قمة الالتزام، وقمة العطاء الفكري، وفي قمة الإنسانية، ولكن بعد أن تنتهي الزيارة الأربعينية تعود الأمور إلى ما كانت عليه بالنسبة لسلوك بعض الناس، هذا السؤال يتطلب أن نشجع الباحثين على المعايشة الفعلية لسير الزائرين وحركتهم وجلوسهم وأعمالهم خلال الزيارة الأربعينية والقيام بدراسات متخصصة لكي نعرف لماذا هم ملتزمون في هذه الأوقات، فإذا كان الباحثون متميزين من الممكن أن يقدموا لنا إجابات عن هذه الأسئلة.

- الدكتور خالد العرداوي؛ رئيس مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية:

سوف أتكلم عن موضوع زيارة الأربعين كباحث عايش الزيارة، وراقب سلوك الزوار خلال مدة الزيارة من خلال موكب الجامعة، ولذلك سوف لا أناقشها من ناحية البعد الديني، ولا أناقشها من ناحية هل أن جموع الزائرين استوعبت منهج الحسين (عليه السلام) الأخلاقي أو استوعبت القضية الحسينية أم لا، لأن هذا الأمر له مجال آخر للنقاش.

اعتقد أحيانا نظلم الناس إذا قلنا لهم تعالوا واستوعبوا المنهج الحسيني وأقصد الناس البسطاء، ونسبة 90% من مجتمعنا هم أناس بسطاء، من ناحية الوعي والثقافة وحتى من ناحية الإمكانيات الاقتصادية والمادية، ولذلك لا نريد أن نقول لهم تعالوا وكونوا مثل الحسين (عليه السلام)، أعتقد إننا سوف نظلمهم كثيرا.

أنا في اعتقادي أن الزيارة الأربعينية هي عنصر من عناصر قوة العراق، القوة الناعمة للعراق، وللأسف أن هذا العنصر أو نقطة القوة هذه أو الثروة لا تستثمر بشكل جيد، لا اقتصاديا ولا ثقافيا ولا إعلاميا ولا اجتماعيا بالشكل الجيد والمناسب، وهذا يبدو جزء منه بسبب غياب مشروع الدولة.

فحين تكون لديك اليوم مصادر متعددة للثروات، وهنا سوف أقدم وأؤخّر في الأسئلة، لن يكون لديك مشروع تنمية شاملة للبلد، مشروع بناء دولة، أكيد إنك تهدر مصادر الثروة العائدة لك من دون فائدة، لذا اليوم الدولة العراقية تهدر وتضيع مصادر ثروتها، كذلك موقعها الجيوبولتيكي المهم، لم تستفد منه، كذلك أهدرت مواردها الطبيعية، هذه الثروات الهائلة، وبالنتيجة نحن ذاهبون مع هذا الغنى إلى الاقتراض، كذلك تهدر مواردها الديموغرافية.

اليوم الشعب العراقي، عدد سكانه 42 مليون، وإيران 87 مليون، وبعد حين سوف يكون عدد سكان العراق أكثر من إيران، فسكان إيران في طريقهم إلى الانخفاض أما سكان العراق فيزدادون، وهذا سر قوة العراق لكننا لم نستفد من ذلك.

لنأتِ إلى آثار العراق، البعد التاريخي للعراق، آثار متناثرة في كل جغرافية العراق حتى أننا لم نستفد منها، هذه الأمور كلها حين نأتي ونحللها ثم نقول نحن لم نستفد من مصادر ثرواتنا، فإذا أتينا ووجدنا خللا في الزيارة الأربعينية فهذا ليس بغريب، لأن البلد لم يستفد من كل مصادر ثرواته، فمن المؤكد أن الزيارة أيضا لم يستفد منها، لكن من خلال تحليل الزيارة كمراقب لها، اعتقد أنها تنطوي على مضامين وفيها دلالات ومضامين إنسانية.

أولا هذه المضامين والتي هي مفيدة للغاية، أخلاقية الهدف ووحدته وشموليته، فنلاحظ أن جميع الزوار من خلال الزيارة لها هدف واحد، قد يكون هذا الهدف الوصول إلى حضرة الإمام الحسين (عليه السلام)، أو قد يكون الهدف هو مواساة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد يكون الهدف للنزهة والفسحة، لكن هناك هدف قام بتوحيد هذه الجموع كلها، فهذا الهدف حين وحَّد هذه الجموع، وجعلهم يتحركون في تناغم، فأصبح الهدف واضحا لكن أدوات الوصول إلى هذا الهدف مختلفة.

فمن الممكن لأحدهم توزيع الماء وآخر يقوم بتوزيع القهوة، ويمكن لآخر أن يقيم موكبا، فالكل بدأت تتحرك في إطار الهدف، الهدف واحد وواضح وهو الوصول إلى كربلاء، لكن أدوات الوصول للهدف اختلفت، ماذا يعني ذلك، يعني حين تتوحد الناس على هدف معين فسوف تبرز أفضل ما عندهم، وتبرز طاقاتهم، وتجعلهم يبدعون، ولذلك حدث هذا الإبداع، فتظهر الثقافة الشعبية بطرق مختلفة، وهذا الأمر مهم للغاية.

إنا هنا أناقش هذه المسألة كقضية اجتماعية، وهذا هو الذي نفتقر له في بناء دولتنا، لأن دولتنا لا يوجد لديها هدف ولا رؤية استراتيجية، لذلك نلاحظ أنه خلال شهريّ الزيارة طالما أن الهدف واحد فالناس بدأت ترتقي أخلاقيا لأن الهدف أخلاقي بصرف النظر عن هوياتهم الأخلاقية، لكن عندما تنتهي الزيارة ينتهي الهدف لأنهم حققوه، لذلك تعود الناس إلى طبيعتها، وهذا الأمر يتطلب أنه كيف تديم هذا الهدف عند الناس؟، وتجعل هذا الهدف هو جزء من بناء دولة.

اليوم صناع القرار في العراق بكل أطيافهم لم يستطيعوا أن يوحدوا الناس على هدف واحد، لذلك فإن جهود الناس ضائعة مشتتة.

من المضامين الأخرى هو غياب الأنا أثناء الزيارة، فنحن خارج إطار زيارة الإمام الحسين نتصارع فيما بيننا، سواء كان مسؤولا في الدولة أو وزير أو شيخ عشيرة، وأنا لا أجلس هنا ولابد أن أجلس هناك بما يليق بمقامي، وأنا لا أأكل هذا الطعام ولابد أن أتناول الأكل بهذه الطريقة، هذه الأنا هي النرجسية، لذلك على الناس أن يتواضعوا. فالتواضع يعني التخلي عن الأنا، فصنع حالة من حالات التعايش بين الناس، ولذلك نلاحظ أن شيخ العشيرة يخدم أصغر طفل، وتلاحظ وزيرا يخدم الناس.

هذا يدل على أننا محتاجون إلى التواضع، ومحتاجون إلى أن نتخلى عن الأنا، حتى يكون لدينا هذا الإطار الجيد في أثناء الزيارة، لكن نحن لا نحتاج هذا السلوك في الزيارة فقط، وإنما نحتاجه حتى خارج أيام الزيارة، فلابد أن نتخلى عن الأنا العالية، لأنها دائما تولد الأنانية، وتخلق حواجز بينك وبين الآخرين.

من خلال مراقبتي للزيارة، كنت أرى بعض طلاب الجامعة يحملون (لفات الفلافل) ويوزعونها على الزوار، وهذا شيء لطيف وجميل، ولذلك فإن الحسين (عليه السلام) وزيارة الأربعين تغذي الناس بالتواضع، لذلك نحن نحتاج إلى التواضع إذا أردنا أن نكون مثاليين فعلا وأردنا أن نبني أنفسنا وبلدنا علينا أن نتواضع تجاه بعضنا بعضا، حتى مع أطفالنا.

أولادي في عمر خمس أو عشر سنوات يتسابقون لكي يخدموا الناس، لماذا، لأنه يشعر بأن وجوده وكينونته متحققة، وأنه ليس ضائعا وسط هذه الجموع، والكل ينظر له على أنه خادم للحسين، فحقيقة الخدمة تعطيه شعورا بأنه متساوٍ مع الجميع.

حتى الطفل الذي يشارك في خدمة الزوار لا يشعر بالتهميش، فهناك هوية وحدتهم جميعا، ولذلك يحتاج هذا الشيء إلى استدامة فيما بعد الزيارة، لبناء مجتمعنا من خلال المساواة الحقيقية وليست الشكلية، وهي مرتبطة بالنقطة الأولى، أو مساواة على أرض الواقع.

كذلك النزعة التطوعية عند الناس، فالزيارة تحفز الناس على هذه النزعة التطوعية وأن الإنسان يريد أن يخدم الزوار، ولا يوجد أحد يعتذر أو يقول أنا لا أستطيع الخدمة، هناك شخص من أقربائي في الأيام الاعتيادية متكاسل وبالكاد يحصل على قوت عائلته، أما في أيام الزيارة فهو يقوم بفتح بيته ليكون مضيفا للزوار، فهذه النزعة موجودة وجعلت العراقيين مثاليين في أيام الزيارة، لأن أخلاقهم أصبحت مثالية، بمعزل عن الجوانب الأخرى.

فهذه النزعة التطوعية عند الناس مطلوبة، مجتمعنا اليوم والمجتمعات الإنسانية، نحتاج إلى هذه النزعة التطوعية، فنحن قادرون على البذل والعطاء ونخدم الناس، ولذلك هذا يسمى في موروثنا بـ إصلاح ذات البين، فهو نوع من التطوع وهو أفضل من عامة الصوم والصلاة.

أصبح الإنسان هنا يقدم الخدمة وهو يعرف أن هذا السلوك هو مرتبط برضا الله سبحانه وتعالى، فهذا وحّد البعد المادي السلوكي مع البعد الروحي الداخلي، وهذا نحتاجه اليوم، لكنه غير موجود خارج إطار الزيارة، فالإنسان يؤدي الصلاة وهو يفكر في جانب آخر، لا يؤدي صلاته وفيها بعدها الروحي، أو يصوم وهو يفكر كيف يأكل حق أخيه، لك هنا يختلف الأمر، فهو يقدم الخدمة وهذه الخدمة وحّدت البعد الروحي مع البعد السلوكي، وهذا ما يسميه الشيخ مرتضى معاش بـ التناغم، فحدث تناغم بين البعدين المادي والروحي، وهذا نحتاجه في حياتنا اليومية أيضا، لأنه يبدو أن العبادات الأخرى في الأيام الاعتيادية كالصوم والصلاة وغيرهما قد لا تؤثر التأثير المطلوب.

لكن في كربلاء، في الزيارة يختلف الأمر، لأن الزيارة نفسها كبعد روحي أثرت على سلوك الإنسان فوحَّدته، وعندما يتناغم البعد المادي مع البعد الروحي للإنسان فسوف يكون إنسانا خيِّرا، وهذا ما يقصد بـ (كنتم خير أمة للناس).

مداخلة فرعية لسماحة الشيخ مرتضى معاش:

بالنسبة للسؤال الذي طرحه الدكتور قحطان حسين، فإن الدكتور خالد العرداوي أجابه من ناحية معينة وجوابه كان لطيفا، ولكن هناك جانب آخر بالنسبة إلى تغيير السلوك الذ هو ليس سهلا، وإنما هو معقّد، لذا لابد أن ننظر إلى الأمور من زاوية معقدة لأن السلوك الإنساني معقّد، فإذا نظرت وفكرت بالسلوك الإنساني والعقد التي تنتج عنه فهذا يعني أنك تستطيع أن تصل إلى نتيجة جيدة، والغربيون اليوم توصلوا في علم النفس إلى نتائج جيدة ولم يتوقف الأمر عند فرويد بل هم طوروا العلاج السلوكي والعلاج المعرفي، كما يسمونه (العلاج بالمعرفة) فلابد للإنسان أن يعرف ما هي مشكلته ثم يقوم بحلّها من خلال معرفته الخطأ من الصواب، فيستطيع الإنسان أن يصحح حياته.

بالنسبة إلى طلب تغيير السلوك، هذا يرتبط بالخطوة الأولى، وليس الخطوة الأخيرة، ولا يوجد أحد حدث عنده انقلاب ووصل إلى مرحلة أن يكون مثل الإمام الحسين (عليه السلام) أو هو عارف بحق الإمام الحسين، لأن هذا الأمر يحتاج إلى سنين طويلة من البناء المعرفي.

نحن ننظر إلى الزيارة من ناحية الحاجة للطعام (إي إطعام الزوار)، ولكن لماذا لا تكون لدينا رؤية حول الحاجة إلى المعرفة، علما أن الناس متعطّشون للمعرفة، ويبدو أننا لا نشعر بالحاجة إلى المعرفة وهذا ما ينطبق عليه (من زار الحسين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).

في زيارة الأربعين نعم هناك حاضنة خير، ولكن بعد زيارة الأربعين تتغير الحاضنات وتكون غير جيدة حيث تضخ بالسلبية، لذلك نحن نحتاج إلى بناء حاضنات مستدامة تسند الإنسان حتى تصلحه في قضية غفر له من ناحية البداية، وما تأخر من ناحية الاستمرار والاستدامة في الاستغفار والاصلاح.

في الختام قال الباحث الدكتور علاء الحسيني:

كنا قد دعونا في واحد من الأسئلة، إلى ميثاق باسم كربلاء، على أن يكون هذا الميثاق إنساني بامتياز، ولو أريد لهذا الميثاق أن يُصاغ بصياغة معينة، بمشاركة النخب على مختلف مشاربها، الأكاديمية أو الدينية أو الثقافية الاجتماعية أو غيرها، يشاركون في صياغة هذا الميثاق ويعلن بشكل علني للنقاش العام الشعبي، ومن ثم يتم تبنيه من جهات فاعلة بحيث يمكن أن يكون هذا الميثاق مؤثرا ويكون مرجعية حقوقية يمكن الإشارة إليها بالبنان، وهذا الأمر مكفول من الناحية القانونية ومن الناحية الدستورية، لكن يحتاج إلى جهد وتنسيق بين الجهات الفاعلة حتى يمكن أن تسهم بمؤسسات المجتمع المدني بمختلف توجهاتها.

..........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2023
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق