يرى باحثون أن العالم اقترب خطوة إضافية من شبح اندلاع حرب نووية، بعدما أعلنت روسيا الشهر الماضي اعتزامها تعليق مشاركتها في آخر معاهدة كبرى أبرمتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، للحد من انتشار الأسلحة النووية، ويأتي هذا التحرك الروسي في خضم التوترات المتصاعدة بين روسيا والدول الغربية بشأن الحرب الدائرة في أوكرانيا....
بقلم: جيف توليفسون
يرى باحثون أن العالم اقترب خطوة إضافية من شبح اندلاع حرب نووية، بعدما أعلنت روسيا الشهر الماضي اعتزامها تعليق مشاركتها في آخر معاهدة كبرى أبرمتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، للحد من انتشار الأسلحة النووية.
ومن المتوقع أن البيان الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الشأن سوف ينهي رسميًّا عمليات تفتيش كانت تُجرى بموجب اتفاقية تعرف باسم معاهدة «ستارت الجديدة» New START (معاهدة تدابير تعزيز الحد من حيازة الأسلحة الهجومية الاستراتيجية). وتجدر الإشارة هنا إلى أن عمليات التفتيش تلك كانت تتيح للعلماء من كلا الطرفين التحقق من أن الطرف الآخر يلتزم ببنود الاتفاقية. ويأتي هذا التحرك الروسي في خضم التوترات المتصاعدة بين روسيا والدول الغربية بشأن الحرب الدائرة في أوكرانيا.
تفرض معاهدة «ستارت الجديدة» قيودًا على حيازة كل من روسيا والولايات المتحدة للرؤوس الحربية، بحيث لا يتجاوز عددها 1550 رأسًا حربيًا لكل من البلدين. غير أن إبرام المعاهدة واجهته عقبات على مدار عدة سنوات؛ إذ فرضت جائحة «كوفيد-19» تعليقًا مؤقتًا لعمليات التفتيش على الأسلحة، ولم تُستأنف تلك العمليات منذ أن غزت روسيا أوكرانيا العام الماضي. وقد صرح مسؤولون حكوميون أمريكيون في يناير الماضي أن روسيا شرعت في انتهاك المعاهدة بعدم السماح باستئناف عمليات التفتيش.
ومن جانب آخر، وفقًا لخبراء في هذا المجال، فإن تعليق روسيا لعمليات التفتيش على نحو رسمي يوجه ضربة أخرى إلى المساعي الدولية الرامية إلى فرض قيود على حيازة الأسلحة النووية. وقد أعرب هؤلاء الخبراء عن مخاوفهم من أن يجعل ذلك القوتين النوويتين الأكبر على مستوى العالم، وهما الولايات المتحدة وروسيا، في حل من الالتزام بأي ضوابط تتعلق بالحد من التسلح ما أن تنتهي فترة سريان معاهدة «ستارت الجديدة» بعد ثلاث سنوات من الآن، أو قبل ذلك حتى.
وقد ناقشت دورية Nature قضية تصاعد التهديدات النووية مع ماثيو بَن، المتخصص في متابعة السياسات النووية من جامعة هارفارد في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية. وجدير بالذكر أن بَن يشارك في إحدى آخر قنوات الحوار غير الرسمية المتبقية بين العلماء الأمريكيين والروس؛ وهي آلية طورها باحثون في أثناء الحرب البادرة بهدف تعزيز التواصل بين الجانبين وتجنب النزاعات.
وأمضى بَن عقودًا في العمل على بناء علاقات مع باحثين وعلماء في مجال الطاقة النووية ومسؤولين عسكريين من الجانب الروسي، غير أن كثيرًا من تلك العلاقات طُويت صفحته منذ أن اندلعت الحرب الدائرة في أوكرانيا، التي خلقت، على حد وصف بًن، حالة من العداء بين القوتين النوويتين بلغت مستوى لم نشهد مثله منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. ويضيف بَن أن خطورة الموقف تتفاقم على جميع الأصعدة، لكن لا تزال هناك أسباب تدعو للتحلي بالأمل.
ما الأخطار المترتبة على تعليق الرئيس بوتين لمشاركة روسيا في معاهدة «ستارت الجديدة»؟
إن تعليق روسيا لمشاركتها في المعاهدة هو محطة بارزة أخرى على طريق ينتهي إلى نسف مستقبل معاهدات الحد من التسلح. إذ من المتوقع أن ينتهي سريان معاهدة «ستارت الجديدة» في شهر فبراير من عام 2026. وفي ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا، لا تُجرى حاليًّا محادثات حول أي بديل لتلك المعاهدة. والآن، أضحى تداعي وفسخ معاهدة «ستارت الجديدة» قبل فبراير من عام 2026 محتملًا. وعليه، قد نجد أنفسنا، لأول مرة منذ نصف قرن، نحيا في عالم لا يفرض قيودًا على حيازة كل من روسيا والولايات المتحدة للأسلحة، وهو وضع يُنذر بأخطار متزايدة تمسنا جميعًا.
ساعدت قنوات الحوار غير الرسمية خلال الحرب الباردة على التخفيف من حدة التوترات بين القوتين النوويتين. ألا تزال تلك القنوات قائمة؟
انقطعت الغالبية العظمى من قنوات التواصل في هذا الشأن بين الولايات المتحدة وروسيا، وكثير من قنوات الحوار غير الحكومية المعنية بذلك بين الطرفين اندثرت كذلك. ويبدو أن المعسكر الروسي قد وجه تعليمات إلى العاملين في قطاع الأسلحة النووية لديه، والمتقاعدين من هذا القطاع، إلى عدم المشاركة في أي من قنوات الحوار تلك. ومن ثم، فإن مثل هذه المحادثات التي اعتدت إجرائها بصفة دورية مع نظرائنا الروس توقف انعقادها.
مع ذلك، واصلت الأكاديميات الوطنية في روسيا والولايات المتحدة الحوار القائم بينها حول الحد من التسلح النووي، وهو حوار أشارك فيه حاليًّا. وقد استعرضنا العديد من القضايا المحورية التي قد يلزم بحثها في الجولة التالية من المفاوضات حول الحد من حيازة الأسلحة النووية. ولن أزعم أن تلك المناقشات جرت بسلاسة، فقد وجدنا خلالها أن إضاعة الكثير من الوقت في الجدال حول الطرف المخطئ والطرف المحق في الحرب لن يفضي إلى نتائج مفيدة. بيد أن ذلك الحوار لا يزال قائمًا وقد طلبت حكومتا البلدين منا مواصلته.
أمضى ماثيو بَن، الباحث في مجال السياسات النووية، عقودًا في العمل على بناء وتعزيز العلاقات مع الجانب الروسي في مفاوضات مع الباحثين وعلماء الطاقة النووية والمسئولين العسكريين من هذا المعسكر.
أمضى ماثيو بَن، الباحث في مجال السياسات النووية، عقودًا في العمل على بناء وتعزيز العلاقات مع الجانب الروسي في مفاوضات مع الباحثين وعلماء الطاقة النووية والمسئولين العسكريين من هذا المعسكر.
ما رد الفعل الذي ينبغي أن تتخذه الولايات المتحدة وغيرها من الدول النووية استجابةً للقرار الروسي؟
تحتاج الولايات المتحدة إلى الالتزام قدر المستطاع بمعاهدة «ستارت الجديدة». كما عليها أن تقنع روسيا مرة أخرى بالعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن عمليات التفتيش النووي، وأرى أن علينا بذل قصارى جهودنا كي نبقي على الأقل على الالتزام بالحد الأقصى لعدد الرؤوس النووية التي يمكن حيازتها، الذي فرضته معاهدة «ستارت الجديدة»، وهو حد صرحت روسيا بدورها برغبتها في الالتزام به. كما ينبغي لنا بحث السبل التي تمكننا من العودة إلى طاولة المفاوضات حول موضوعات لا تقتصر على الحد من التسلح، بل تشمل كذلك المحادثات حول العلاقات العسكرية بين روسيا والدول الأخرى، وغير ذلك من التدابير الرامية إلى تقليص خطر الوقوع خطئًا في شَّرَك نزاع نووي تنأى جميع الأطراف بنفسها عنه.
روسيا هي بلد واحد، ومعاهدة «ستارت الجديدة» ليست إلا معاهدة واحدة. فماذا عن تداعيات هذا الوضع فيما يخص سائر دول العالم؟
إذا تأملنا المشهد النووي حاليًّا، سنجد عداءً متزايدًا بين الولايات المتحدة والصين. كما نواجه أيضًا كوريا الشمالية وترسانتها النووية المتنامية، فضلًا عن الهند وباكستان وما تمتلكانه من ذخيرة نووية متزايدة. ولا ننسى إيران التي تشارف حاليًا على امتلاك القدرة على إنتاج ترسانة نووية بعد انهيار الاتفاق النووي الإيراني عام 2018. خلاصة القول، يبدو أن المشهد أكثر قتامةً مما كان عليه قبل عقد مضى.
لكن هل يعني هذا أن على الجميع أن يسارع إلى النجاة بنفسه وحده؟ لا أظن ذلك، بل أرى أن استهداف وضع سياسات رادعة في المقام الأول له أثر قوي. وثمة الكثير مما يدعو الولايات المتحدة والصين من جانب، والولايات المتحدة وروسيا من جانب آخر إلى تلافي مصير يتضمن تراشق طرفي كل من هذين الجانبين للقذائف نووية. إلا أن ثمة الكثير أيضًا مما يجب القيام به من أجل إصلاح نظام حيازة الأسلحة النووية على مستوى العالم.
هل تجد بصيصًا من الأمل في ظل هذه الأوضاع؟
أجد الوضع مقلقًا، لكني أعد نفسي أحد آخر من يتشبثون بالأمل. وإن كان لي أن أضع رهانًا في وضع كهذا، سيكون رهاني على أنه بعد عشر سنوات من الآن لن تظهر أي دول نووية جديدة. إذ تمتلك نسبة قوامها 5% فحسب من دول العالم أسلحة نووية، وقد ظلت تلك النسبة ثابتة على مدار الخمسة والثلاثين عامًا الماضية. وهو ما يُعد انتصارًا مذهلًا للسياسات العامة، بيد أنه لا يزال علينا أن نقطع شوطًا كبيرًا وأن نولي المسألة الكثير من إعادة النظر كي نحد من الأخطار النووية التي تفاقمت على مستوى العالم خلال السنوات الأخيرة.
اضف تعليق