q

حرصت فرنسا ومنذ زمن بعيد على تامين مصالحها الخاصة في تونس، والتي كانت اهم مستعمر دام احتلاله لها قرابة 75 عامًا، هذا الحرص ازداد بشكل كبير في الفترة الأخيرة وخصوصا بعد اندلاع الثورة التونسية في العام 2011، وما تبعها من تطورات سياسية وأمنية في هذا البلد، حيث سعت السلطات الفرنسة الى تغير خططها السابقة وفح صفحة جديدة في تعاملها بما يضمن لها الحصول على مكاسب اضافية، خصوصا مع وجود دول حكومات اخرى تسعى الى بناء تحالفات عالمية موسعة قد تضر بفرنسا. وشهدت العلاقة بين البلدين كما نقلت بعض المصادر، انقلابة واضحة بعد الثورة إذ أيدت فرنسا نظام بن علي، وهو ما أدى إلى فتور في العلاقات، إلى أن حل الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند على تونس في زيارة رسمية في يوليو/تموز 2013 لتبدأ العلاقة تعود إلى طبيعتها بعد تعهد أولاند بمساندة تونس حتى إنجاح ثورتها، وكرر الزيارة في يناير/كانون الثاني 2014 في مشاركته احتفالات اتمام صياغة الدستور الجديد، وشارك أيضًا في المسيرة الدولية ضد الإرهاب بتونس عقب الهجوم على المتحف الوطني في منطقة باردو بالعاصمة والذي أدى لمقتل 24 بينهم 21 سائحًا من جنسيات مختلفة.

وربطت تونس مصيرها خلال العقود الماضية بفرنسا ارتباطًا وثيقًا إلى درجة اعتمادها بشكل كلي عليها، جعلها لا تركن إلى غيرها، وحيث تشهد تونس أوضاعًا اقتصادية صعبة فإن الحكومة تزيد من اعتمادها على فرنسا. فمن الناحية الاقتصادية تعد فرنسا الشريك الاقتصادي الأول لتونس فهي أول مورد لها بنسبة 16.3% من إجمالي الورادات وأول مستورد بنسبة 28.7% من إجمالي الصاردات. وتعد فرنسا المستثمر الأجنبي الأول في تونس، إذ تجاوزت قيمة الاستثمارات الفرنسية المباشرة في تونس 90 مليون يورو، 90% منها تعد في المجال الصناعي موفرة حوالي 4000 فرصة عمل.

وتنشط في تونس 1305 شركة فرنسية أو ذات مساهمة فرنسية، بنسبة 40% من إجمالي الشركات الأجنبية، وبحجم استثمار قيمته 2.9 مليار دينار تونسي (نحو 1.5 مليار دولار). وتوجد في تونس 1300 مؤسسة فرنسية تشغل أكثر من 126 ألف أجير. وحتى على مستوى السياحة فالسياح الفرنسيون يحتلون المرتبة الأولى بالنسبة لإجمالي السياح الوافدين على تونس، رغم التراجع الذي عرفه عددهم حيث بلغ 720.165 ألف عام 2014، بتراجع نسبته 6.1% بمقارنة مع 2013.

كما زودت الوكالة الفرنسية للتنمية تونس خلال الخمس سنوات الأخيرة بـ431 مليون يورو (469 مليون دولار) كمساعدة على التنمية في شكل قروض ميسّرة وهبات، ودعمت 42 مشروعًا بصدد التنفيذ بقروض تبلغ 960 مليون يورو ( 1047.4مليون دولار) في مجالات توزيع المياه ودعم البنية التحتية وتحسين أكثر من 100 حي شعبي. وحسب بيانات فرنسية سابقة فإن المبادلات التجارية السنوية بين البلدين بلغ 8.5 مليارات دولار. أكثر ما يربط مصير الدولة بدولة أخرى هو: الدَين، ونظرًا إلى حجم الدين الكبير لفرنسا على تونس، والبالغ قرابة 13 مليار يورو وهي بهذا أكبر دائن لتونس.

وبعد فوز ماكرون في الانتخابات الاخيرة، يرى بعض المراقبين انه سيسعى الى تعميق هذه العلاقات والاستفادة منها، خصوصا وان الحكومة التونسية تأمل أن يوجه ماكرون ماكينة الاستثمارات الأجبنية المباشرة في تونس ويعمل على زيادة ضخها، بالإضافة إلى جدولة الدوين وتحويلها إلى استثمارات تنموية، وهو ما وعد به ماكرون في وقت سابق.

ماكرون والربيع التونسي

وفي هذا الشأن قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في تونس ان الربيع العربي لم ينته وان تونس مهد هذا الربيع الذي انطلق في 2011، لديها واجب انجاح انتقالها الديموقراطي لكي تبقى مثالاً يحتذى. وقال ماكرون في خطاب امام مجلس النواب التونسي "جرى الحديث عن الربيع، وجرى الحديث عن الثورة وكثيرون يعتقدون ان هذه الصفحة قد طُويت. صفحة الربيع العربي لم تُطوَ. أنتم تعيشونها الآن، وتحيونها".

وأضاف أن تونس قامت "بثورة ثقافية عميقة"، مشيرا الى حرية المعتقد والمساواة ين الرجل والمرأة التي يضمنها الدستور الذي اعتمد في بداية 2014 وكذلك التدابير التي أعلنها الرئيس الباجي قائد السبسي الصيف الماضي لإنهاء التمييز بين الرجال والنساء. وقال الرئيس الفرنسي "لقد نجحتم في بناء دولة مدنية حين كان الكثير يعتقدون أن الأمر مستحيل. لقد أثبتم كذب أولئك الذين يقولون إن الديموقراطية لا تتماشى مع المجتمعات التي يوجد فيها الإسلام". بحسب فرانس برس.

وأكد ان "مسؤولية هائلة" تقع على كاهل تونس لأن "العالم العربي، المغرب العربي، وكل شواطىء البحر المتوسط تصبو إليكم وهي بحاجة لأن تراكم تحققون النجاح (...) فرنسا ستقف إلى جانبكم حتى تُنجحوا هذا الربيع الرائع الذي لا يزال مزهراً". وأكد ماكرون رغبته في تنظيم اول اجتماع في فرنسا هذه السنة مع قادة وممثلين عن المجتمع المدني من بعض الدول الأوروبية المتوسطية ومن المغرب العربي للتفكير في "استراتيجية متوسطة حقيقية".

واظهرت موجة الاحتجاجات الاخيرة ضد التقشف وغلاء المعيشة في مدن تونسية عدة في اوائل كانون الثاني/يناير، ان هذا التحدي هائل. وقال رئيس البرلمان التونسي محمد الناصر ان "النجاح التونسي يتطلب مزيدا من التعاون بين تونس واصدقائها الفرنسيين والاوروبيين"، داعيا إلى تحويل ديون تونس الى استثمارات. كما وجّه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ومسؤولون تونسيون اخرون، والمجتمع المدني خصوصا، دعوات الى مزيد من الدعم لتونس.

زيادة الاستثمارات

من جانب اخر دعا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الشركات الفرنسية الى العودة للاستثمار في تونس بهدف مضاعفة الاستثمارات الفرنسية في هذا البلد بحلول 2022 ومساعدته على انهاض اقتصاده. وقال ان الهدف هو "مضاعفة الاستثمارات الفرنسية في تونس خلال خمس سنوات، خلال فترة ولايتي". بعدها قال ماكرون مختتما المنتدى الاقتصادي التونسي الفرنسي الذي شارك فيه نحو مئة من كبار رجال الاعمال الفرنسيين ان هذا الهدف "ممكن التحقيق. انتظر مشاركة كاملة من الشركات". وأضاف "لقد أكد العديد من الشركات رغبته في الاستثمار" من دون تفاصيل.

وأشار ماكرون الى قطاعات السياحة والتكنولوجيا الرقمية والمنتجات الغذائية بصفتها قطاعات واعدة، مبديا اسفه لتقدم ايطاليا في 2017 على فرنسا في الصادرات علما ان فرنسا هي الشريك التجاري الأول لتونس. وتصل الاستثمارات الفرنسية في تونس الى 1,4 مليار يورو وتنشط فيها أكثر من 1300 شركة فرنسية. ومن بين أصحاب الشركات الذين رافقوا ماكرون رئيس شركة "أورانج" ستيفان ريتشارد وشركة "إلياد" كزافيه نييل.

وأعلن ماكرون عن خطة "عاجلة" بقيمة 50 مليون يورو على ثلاث سنوات لصالح رواد المشاريع الشباب علما أن 35% من الخريجين التونسيين عاطلين عن العمل. وقالت الرئاسة الفرنسية ان باريس تهدف بذلك الى "دعم الانتقال الديموقراطي" لتونس الذي تضعفه نسبة البطالة التي لا تزال تفوق 15 بالمئة و30 بالمئة بين شباب خريجي الجامعات، وذلك رغم قفزة في مستوى نسبة النمو بلغت 2 بالمئة في 2017. وتم توجيه نداء للشركات الفرنسية "للعودة الى تكثيف الاستثمار في تونس"، بحسب الرئاسة الفرنسية.

أوردت صحيفة "الصباح" ان "الحكومة التونسية تريد الاستفادة من الزيارة للتوصل الى حل للدين ازاء فرنسا"، واعلنت ان قسما من الدين بقيمة 30 مليون يورو سيتم تحويله الى مشاريع استثمارية لكن باريس لم تؤكد هذا المبلغ. تقول تونس ان قيمة دينها العام ازاء باريس بلغ 2,380 مليار دينار (800 مليون يورو) في 31 كانون الاول/ديسمبر 2016.

إحياء الفرنكفونية

الى جانب ذلك أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون انه يرغب في تعزيز تعليم الفرنسية في تونس حيث افتتح فرعا لمؤسسة "الأليانس الفرنسية" هو الأول منذ ستين عاما. وقال ماكرون "أرغب في إعطاء دفعة للفرنكفونية في تونس"، محددا هدف "مضاعفة عدد متعلمي الفرنسية خلال سنتين" اي حتى انعقاد قمة الفرنكفونية في تونس في 2020. وافتتح ماكرون مقر "الأليانس الفرنسية" في حي أريانة في العاصمة تونس على أن تُفتح خمسة مراكز أخرى خاصة من هذا النوع تعنى بنشر الثقافة واللغة الفرنسيتين في 2018 لا سيما في قابس في الجنوب وفي القيروان في الوسط.

وقال ماكرون ان "الأليانس غائبة عن تونس منذ 1948"، وان قرار إعادة فتحها اتخذه التونسيون الذين صمموا ومولوا المشاريع بدعم من السفارة والمعهد الفرنسي التابع لوزارة الخارجية الفرنسية. وقالت مديرة "الأليانس الفرنسية" مريم عبدالمالك ان فتح الفرع "يلبي الطلب العالي بين التونسيين والاقبال على الثقافة الفرنسية وكذلك طلب الأهالي الراغبين في تعلم أطفالهم لغة ثانية". وقالت الكاتبة ليلى سليماني المتواجدة في تونس بصفتها ممثلة ماكرون الخاصة للفرنكفونية انه "رغم سياسة التعريب، أيقن المسؤولون التونسيون مثل المسؤولين المغربيين ان اتقان اللغتين العربية والفرنسية ميزة كبيرة في ظل العولمة". وأضافت ان "الرهان هو مكافحة أحادية الثقافة (...) هناك شاعر مغربي يقول إن اتقان لغة واحدة مثل العيش في منزل بنافذة واحدة والإطلال على المشهد نفسه". بحسب فرانس برس.

وقال وزير التعليم العالي التونسي سليم خلبوص ان الفرنكفونية تتراجع في جنوب تونس بسبب ضعف تعليم اللغة، مشيرا الى ان باريس ستشارك في برنامج لتحسين تأهيل أساتذة الفرنسية. وأعلن ماكرون عن انشاء "الجامعة الفرنسية التونسية لأفريقيا والمتوسط" (اوفام) التي ستمنح شهادات في اللغة الفرنسية خلال سنتين في تونس. وبمناسبة الزيارة اعلن أهالي الطلاب والاساتذة وقف التدريس في المدارس الفرنسية العشر في تونس للاحتجاج على ما قالوا انه عدم التزام الدولة الفرنسية بإحياء الفرنسية. ويدرس ستة آلاف طالب في هذه المدارس. ورغم اعلان ماكرون ان حكومته تولي أهمية للتدريس في المدارس الفرنسية، قررت الحكومة الفرنسية في نهاية 2017 اقتطاع 33 مليون يورو من ميزانية وكالة تعليم الفرنسية في الخارج وهي هيئة حكومية تشرف على 500 مؤسسة في العالم.

ماكرون والمجتمع المدني

على صعيد متصل انتقدت عشر منظمات غير حكومية معظمها تونسية، الجمعة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون معتبرة انه لم ينصت الى المجتمع المدني بشان مناخ "يزداد توترا" في مجال حقوق الانسان، وذلك اثناء زيارة الدولة التي قام بها لتونس. وقالت هذه المنظمات في بيان ان تصريحات ماكرون حول دولة القانون في تونس "تعاملت بازدراء مع اشارات خوف اطلقها مؤخرا العديد من الفاعلين في المجتمع المدني التونسي بشأن الافلات من العقاب الذي يرافق العنف البوليسي والاعتقالات التعسفية اضافة الى ظروف الاحتجاز".

وبين الموقعين الرابطة التونسية لحقوق الانسان ومنظمة "البوصلة" ومنظمة محامون بلا حدود. واشارت المنظمات ايضا الى "التهديد المسلط على حرية التعبير والصحافة وشيطنة حركات الاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي والبيئي". وكان تم توجيه سؤال لماكرون اثناء مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره التونسي الباجي قائد السبسي بشأن انتقادات هيومن رايتس ووتش لعنف قوات الامن وتوقيف العديد من الناشطين بسبب توزيع منشورات اثناء موجة الاضطرابات الاجتماعية الاخيرة في تونس. بحسب فرانس برس.

ورد ماكرون "اذا اردنا مساعدة الديموقراطيين في الاوضاع الصعبة ، سيكون من الجيد ان نجعل مبادئنا تواجه الواقع باستمرار لان هذا هو معنى ان تحكم مع حقوق الانسان (..) في زمن الارهاب والصعوبات". واضاف "هل هذه التوقيفات تتم في ظرف دولة ليست دولة قانون؟ لست منظمة غير حكومية لكن (الجواب) من وجهة نظري هو كلا".

اضف تعليق