مع تواصل استعدادات بريطانيا لإجراءات خروجها من الإتحاد الأوروبي، تزايدات التوقعات بحدوث خلافات وأزمات حول إجراءات الانفصال فيما يتعلق ببعض الملفات والقضايا المهمة، خصوصا وان دول الاتحاد الاوربي تسعى إلى تشديد قراراتها من اجل الحفاظ على وحدة هذا التكتل، وقد اكد ديفيد ديفيس، الوزير البريطاني المكلف بملف خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي إنّ "محادثات الخروج لن تكون سهلة، خاصة مناقشة دور محكمة العدل الأوروبية في ما يتعلق بحقوق مواطني الاتحاد القاطنين في بريطانيا".
ولفت إلى أنه "سيتم مناقشة أمور دقيقة، وعلى سبيل المثال مسألة ما إذا كانت محكمة العدل الأوروبية ستراقب وضع مواطني الاتحاد القاطنين داخل المدن البريطانية، بعد خروج الأخيرة من عضوية الاتحاد". وأكّد ديفيس أنّ بلاده "لن تقبل بعد إتمام عملية الخروج، بتدخل محكمة العدل الأوروبية بشؤون ومشاكل مواطني الاتحاد القاطنين في بريطانيا". وانتقد "اشتراط الاتحاد الأوروبي وفاء بريطانيا لتعهداتها السابقة تجاهه ودفع المستحقات المالية المترتبة عليها، لبدء عملية التفاوض من أجل الخروج".
ويدور جدل في بريطانيا حول مدى إمكانية موافقة الاتحاد على اتفاق بالشكل الذي تريده رئيس الوزراء البريطانية تيريزا ماي، والذي لا تتخلى فيه عن تحفظاتها المتعلقة بالهجرة وحرية التنقل، وتحتفظ في الوقت نفسه بميزة تبادل السلع والخدمات مع أوروبا. من جانب اخر رفض الاتحاد الأوروبي طلب بريطانيا إجراء محادثات موازية لاتفاق الانسحاب حول "العلاقة المستقبلية" حتى يتم تحقيق "تقدم كاف" في اتفاق الخروج.
ويسعى الاتحاد للحفاظ على وحدته بينما يواجه للمرة الأولى انفصال أحد أعضائه البارزين منذ تأسيسه قبل 60 عاما. وكشف الاتحاد الأوروبي الخطوط العريضة لخطته حول مفاوضات بريكسيت ورفض طلب لندن القيام بمحادثات موازية لاتفاق الانسحاب من أجل تحديد "العلاقة المستقبلية" بين الجانبين. وقال الاتحاد في مشروع "توجهات المفاوضات" الذي أعده رئيس المجلس الأوروبي أنه يمكن أن يباشر "محادثات تمهيدية" حول "العلاقة المستقبلية" قبل انسحاب بريطانيا بالكامل.
لكنه يشترط لذلك تحقيق "تقدم كاف" في اتفاق الخروج وأن الأمر لن يتعلق سوى بـ"محادثات تمهيدية". ولإزالة الغموض الذي يلف المرحلة بين خروج بريطانيا وتوقيع اتفاق حول العلاقة المستقبلية خصوصا على الصعيد التجاري، فإن الدول الـ27 الأعضاء مستعدة لاتخاذ "إجراءات مرحلية"، بحسب الوثيقة
وأعلن رئيس المجلس الأوروبي ورئيس وزراء بولندا السابق دونالد توسك "إنه الطلاق الأول لي وآمل أن يكون الأخير"، مضيفا أن الاتحاد الأوروبي سيلتزم بمبادئ خلال المفاوضات التي يأمل ألا تشهد مواجهات. وقال توسك في مؤتمر صحافي في فاليتا عاصمة مالطا إن "الاتحاد الأوروبي لم ولن ينتهج سياسة عقابية. فبريكسيت عقاب بحد ذاته". ويريد الاتحاد الأوروبي التأكيد على وحدته بينما يواجه انفصال أحد أهم أعضائه في حدث هو الأول من نوعه منذ تأسيس الاتحاد قبل 60 عاما.
وفي هذا الشأن ربما يؤدي الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، الذي ستطلق رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي إشارة البدء فيه، إلى تغيير شكل بريطانيا لكنه سيغير الاتحاد الأوروبي أيضا. وهذه هي أوجه التغيير: موازنة الاتحاد الأوروبي: أين تذهب الأموال؟ زتمثل موازنة الاتحاد الأوروبي اثنين في المئة فقط من الإنفاق العام في الاتحاد. غير أن التحويلات من بروكسل في شرق أوروبا تسهم بحصة أكبر كثيرا تبلغ نحو ثمانية في المئة من موازنة بولندا وما يقرب من خمس موازنة بلغاريا.
وبخروج بريطانيا ستقل بمقدار السدس المبالغ المتاحة لدى بروكسل لتوزيعها على الدول التي تتلقى من أموال الاتحاد الأوروبي أكثر من الحصة التي تدفعها في موازنته الأمر الذي سيفتح باب الخلاف بين شرق أوروبا وغربها على خطة سباعية للإنفاق بدءا من عام 2021. وفي الأجل القريب ستنشب معركة أيضا مع بريطانيا على ما تدين به قبل أن تنفصل عن الاتحاد. وربما تختار لندن أن تواصل الدفع من أجل الاستفادة من بعض الموازنات الرئيسية في الاتحاد الأوروبي مثل ميزانية الأبحاث. لكن الحسابات الكبرى مثل دعم قطاع الزراعة قد تشهد مراجعة جذرية.
استخدمت بريطانيا حصتها البالغة 12 في المئة من مجموع الأصوات في الاتحاد الأوروبي في تقييد إنفاق بروكسل والضغط من أجل التجارة الحرة. وسيثير انفصالها قلق الحلفاء الأصغر في شمال أوروبا وهولندا. وتشعر دول شرق أوروبا الأفقر، التي نادت بريطانيا بضمها لعضوية الاتحاد، بالغيظ لأن ألمانيا وفرنسا قد تشدد القيود على الأيدي العاملة الرخيصة من هذه الدول أو تعزز الصلاحيات الاتحادية للتكتل وهو ما تستاء منه الدول الشيوعية السابقة.
كذلك فإن الدول الجديدة التي تطمح لعضوية الاتحاد لاسيما في البلقان قد تفقد حليفا لها في مواجهة دول غرب أوروبا الغنية التي تقلقها توسعة التكتل. وستتخلص دول منطقة اليورو التسعة عشرة من عقبة رئيسية أمام قوتها التصويتية. إذ سيصبح بوسعها أن تتفوق في التصويت على الدول غير الأعضاء في منطقة العملة الموحدة. وستحتاج كتلة الدول غير الأعضاء في منطقة اليورو بقيادة بولندا والسويد انشقاقا كبيرا بين دول اليورو لمنع المنطقة من الانفراد برسم سياسات الاتحاد الأوروبي.
وستصبح فرنسا الدولة الوحيدة من أعضاء الاتحاد الأوروبي التي تملك سلاحا نوويا وتتمتع بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كما أنها ستتخلص من خصم عنيد لطموحاتها في زيادة التعاون الدفاعي داخل الاتحاد الأوروبي بعيدا عن حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة. وقد عاد بند الدفاع إلى جدول أعمال الاتحاد. أما ألمانيا، التي يتسم موقفها بعدم الوضوح فيما يتعلق بظهورها بمظهر المهيمنة على أوروبا بفضل قوتها الاقتصادية ولأن عدد سكانها يمثلون قرابة خمس مواطني الاتحاد بعد انفصال بريطانيا، فتشعر بالقلق إزاء كيفية الحفاظ على التوازن لاسيما مع فرنسا أحد مؤسسي التكتل والتي تواجه مصاعب اقتصادية.
يفقد الاتحاد الأوروبي محاورا من الوزن الثقيل مع الولايات المتحدة والعالم الأوسع الناطق باللغة الانجليزية. فبريطانيا قوة دبلوماسية وعسكرية تاريخية وكانت حصافتها ونفوذها لدى قوى مثل الصين وروسيا أو في الشرق الأوسط مفيدة للاتحاد الأوروبي. وفي أفريقيا التي تمثل مصدر قلق متزايد في قضية الهجرة كان لميزانيات المساعدات البريطانية وغيرها من أدوات النفوذ دور أساسي.
كما اكتسبت لندن بتشددها مع موسكو أصدقاء من أمثال دول البلطيق وهولندا التي تخشى أن يؤدي نهج أضعف من جانب فرنسا وإيطاليا وربما ألمانيا إلى إضعاف الإجماع على الضغط على روسيا بالعقوبات بسبب تصرفاتها في أوكرانيا أو تقليل الاعتماد على الغاز الروسي. رغم القلة النسبية لعدد العاملين البريطانيين في مؤسسات الاتحاد الأوروبي فقد أكد المسؤولون البريطانيون على امتداد عضوية بلادهم خلال 44 عاما دورهم الرئيسي في المراكز العليا وكذلك في البرلمان الأوروبي. وسيختفي كل ذلك بعد أن يغلق باب وظائف الاتحاد في وجه المواطنين البريطانيين.
وتثمن حكومات كثيرة لاسيما من الدول الأصغر ما ترى أنه نهج بريطاني في الإدارة أكثر براجماتية وإيمانا بعدم التدخل في حياة الناس من النهج المركزي الموجه المتأصل في الأسس الفرنسية للاتحاد. ومن المرجح أن تترك بريطانيا وراءها إرثا متمثلا في استخدام اللغة الانجليزية كإحدى اللغات المعمول بها في بروكسل رغم بعض الآمال في باريس باستعادة المكانة البارزة للغة الفرنسية. بحسب رويترز.
منذ الاستفتاء الذي كانت نتيجته الموافقة على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي لا يفتأ زعماء التكتل يتحدثون عن تجديد الوحدة بين أعضائه الباقين وعددهم 27 دولة. تشير استطلاعات الرأي إلى تزايد التأييد الشعبي للاتحاد بصفة عامة. لكن هذه الوحدة ستخضع لاختبارات صعبة في مفاوضات الانفصال بوجود أولويات مختلفة للحكومات. فتفعيل المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، وهو أمر لم يسبق أن حدث من قبل، يكسر أحد المحرمات ويفرغ الحديث عن "وحدة لا تتجزأ" من مضمونه. وستضطر بروكسل إلى مغالبة تهديدات أخرى بالانفصال لتصطبغ بهذه التهديدات عملية صنع القرار بصفة عامة لسنوات قادمة.
القوة الناعمة تتسرب
الى جانب ذلك وعندما التقى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة في قصر في مالطا من الطراز الباروكي الذي يرجع للقرنين السابع عشر والثامن عشر قال الوزير الفنلندي مازحا إنه رغم الفخامة التي تشع من حولهم فهم ليسوا سوى "أطباء ولحامين" يحاولون "رتق الأمور" في العالم. شاعت مثل هذه النبرة اليائسة عن النفوذ العالمي لأوروبا في وقت يكافح فيه الاتحاد لمواكبة قرار بريطانيا الانفصال عنه وأزمة مهاجرين لم يسبق لها مثيل على أعتابه وكذلك صعود النزعة الشعبوية المناهضة للاتحاد والتي دعمت الحكام السلطويين ذوي الميول القومية في المنطقة.
ورغم أن حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة يتحمل منذ فترة طويلة العبء العسكري في أوروبا فقد استطاع الاتحاد الأوروبي الذي يتمتع بقوة اقتصادية كبيرة التباهي "بقوة ناعمة" حقق من خلالها نجاحات دبلوماسية تتراوح من دوره في إبرام الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 وتحقيق الوفاق مع كوبا والانتفاضة المؤيدة له في أوكرانيا.
غير أن بعض الوزراء والدبلوماسيين يشيرون إلى عجز الاتحاد الأوروبي عن إنهاء الصراع في أوكرانيا أو المساعدة في حل الأزمة السورية باعتبار ذلك من الأدلة على تعثره بما يفيد روسيا والإضرار بهذين الشعبين. وقال دبلوماسي كبير من الاتحاد الأوروبي "انفصال بريطانيا وأزمة المهاجرين. هذان العاملان كان لهما فعلا تأثير علينا. لم نفقد كل قوتنا الناعمة لكننا نشعر أن سلطتنا الأخلاقية ليست بالقوة التي اعتدنا عليها."
ويسعى الاتحاد الأوروبي بوصفه أكبر مانح للمساعدات في العالم إلى نشر سيادة القانون والديمقراطية في الخارج وقد حول دولا شيوعية سابقة إلى ديمقراطيات مزدهرة تقوم على أساس عوامل السوق. غير أنه بعد اجتماع في أبريل نيسان وصف وزير الخارجية البولندي فيتولد فاشتكوفسكي الجو السائد بين زملائه بأنه "متشائم ومحبط" مستشهدا "بالأزمات الكثيرة التي تغمر أوروبا: سوريا وليبيا واليمن". وأضاف "الوضع في الشرق الأوسط ليس حسنا. والنتيجة أن الاتحاد الأوروبي ليس لديه أدوات تذكر للتأثير في المشاكل التي تشهدها المنطقة".
أما وزير الخارجية الفرنسي جان مارك أيرو الذي حاول دون جدوى تنفيذ اتفاق سلام مع موسكو في أوكرانيا فقد تملكه التشاؤم بعد ذلك بأسابيع في مالطا عندما اجتمع الوزراء لبحث الحكم السلطوي المتنامي في تركيا. وقال في فاليتا "نحن بحاجة لزيادة سرعة الإيقاع وأن تكون لدينا الثقة كي نلعب دورا في العالم" مضيفا أن المناقشات بين الوزراء تركز أكثر من اللازم على الجوانب الفنية وتفتقر للرؤية.
وبوسع الاتحاد الأوروبي أن يشير إلى وحدة موقفه من العقوبات الاقتصادية على روسيا في أعقاب ضم موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014 ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا. وحتى في ظل الغموض الذي يكتنف اتجاه العلاقات الأمريكية الروسية في أعقاب انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقول دبلوماسيون إن من المتوقع أن يمدد الوزراء العمل بالعقوبات في يوليو تموز. كما أن خطط دول الاتحاد للتعاون في مجال الدفاع تحرز تقدما.
غير أن البعض يقول إن الاتحاد الأوروبي كتكتل لا يتمتع بالقوة الكافية لحل الصراع في شرق أوكرانيا الذي أسفر عن سقوط أكثر من عشرة آلاف قتيل حتى الآن منذ أبريل نيسان 2014 بعد أن وافقت حكومات الاتحاد الأوروبي على السماح لفرنسا وألمانيا بقيادة محادثات السلام. وقال أندرس فوج راسموسن الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي "زيادة الضغط على روسيا ممكن فقط بمشاركة أقوى من الاتحاد الأوروبي كله ومن الولايات المتحدة".
وقال فريدريك ويسالو المحلل بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إن زيارة فيديريكا موجيريني مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي لموسكو في أبريل نيسان لم تحرز أي تقدم. وامتنع مكتب موجيريني عن التعقيب غير أن مسؤولين بالاتحاد يشددون على أن التكتل له دور كبير في أوكرانيا يتركز على التدريب الأمني والمساعدات المالية وتنفيذ اتفاق للتجارة الحرة وتقديم الدعم القوي لاتفاقات مينسك للسلام.
وحازت موجيريني وزيرة الخارجية الإيطالية السابقة على الثناء لإحكامها استخدام قوة أوروبا الناعمة والسفر في مختلف أنحاء العالم مثل وزراء خارجية الولايات المتحدة. غير أن دول الاتحاد الأوروبي ترفض منحها سلطة أكبر في السياسات الفعلية رغم التعهدات بذلك. وقال مسؤول بالاتحاد الأوروبي إن أحدث فقدان للثقة في النفس يرجع في جانب منه إلى اتفاق مع أنقرة في العام الماضي وافقت بمقتضاه تركيا على قبول لاجئين سوريين مقابل أموال من الاتحاد الأوروبي.
وقال المسؤول الذي شارك في المحادثات "وافقنا على صفقة أعطت تركيا ضمنا سطوة علينا" مشيرا إلى أن الاتحاد أصبح بلا حول ولا قوة في وجه السجن الجماعي للمعارضين في تركيا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في العام الماضي. وفي مجالات أخرى تعمل المجر واليونان وقبرص على إضعاف بيانات الاتحاد الأوروبي عندما يحتاج لموافقة جميع الحكومات. وقال دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي "عندما لم يستطع الاتحاد الخروج ببيان قوي عن عسكرة بحر الصين الجنوبي في يوليو (تموز) كان المجريون هم من عرقلوه."
كذلك فإن بعض القوى تخرج عن سيطرة بروكسل ومنها سياسة الرد التي تتبعها روسيا وتصرفات ترامب التي لا يمكن التنبؤ بها وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. ولم يحضر وزيرا الخارجية والدفاع البريطانيان الاجتماع الوزاري للاتحاد الأوروبي في مالطا. والأمل في بروكسل الآن هو أن يوفر عام 2017، بعد انتكاسات العام الماضي، قاعدة أقوى يمكن للاتحاد أن يعمل من خلالها على تنشيط سياسته الخارجية لاسيما من خلال خطة دفاع أوروبية منفصلة عن الولايات المتحدة. بحسب رويترز.
وبخلاف الدلائل المتنامية على انتعاش اقتصادي في منطقة اليورو من شأنه تخفيف الضغوط على الميزانيات الوطنية فإن الفوز المتوقع على نطاق واسع للمرشح المؤيد للاتحاد إيمانويل ماكرون في الجولة الثانية والحاسمة من انتخابات الرئاسة الفرنسية يوم الأحد سيعتبر علامة طيبة. وقال أيرو "الأمور بدأت تتحرك قليلا في الاتجاه الصحيح".
فسحة لالتقاط الأنفاس
على صعيد متصل دخلت المؤسسة السياسية في أوروبا عام 2017 تعتريها حالة من الذعر. فالناخبون في بريطانيا اختاروا الانفصال عن الاتحاد الأوروبي قبل ستة أشهر وانتخب الأمريكيون رئيسا معاديا لمشروع وحدتهم المهيب وما يمثله من قيم. كانت القوى نفسها التي وقفت وراء انفصال بريطانيا واختيار دونالد ترامب، من الغضب الشعبي تجاه النخب الحاكمة المعزولة والتفاوت الاقتصادي والهجرة، تهدد بمزيد من الأزمات للقارة في عام تشهد فيه أكبر دولها انتخابات.
وكان آخر خطر يحدق بفرنسا ذات الاقتصاد المتعثر التي يحفل تاريخها بمواقف متناقضة تجاه الوحدة الأوروبية وبوجود مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في وضع يؤهلها للاستفادة من مخاوف الناخبين. غير أن لوبان منيت بهزيمة ثقيلة على يدي إيمانويل ماكرون (39 عاما) المستقل الذي خاض الانتخابات ببرنامج يقوم على تأييد أوروبا صراحة.
وطالب ماكرون الفرنسيين باحتضان فكرة العولمة بدلا من رفضها وتعهد بالعمل مع ألمانيا لتحقيق انطلاقة جديدة للاتحاد الأوروبي الذي يمثل مشروعا يعتبر منذ فترة طويلة ضمانة للسلام والازدهار لكنه بات يبحث عن علة وجوده بعد أزمته المستمرة منذ سنوات. ويمثل انتصار ماكرون فسحة لالتقاط الأنفاس بالنسبة لأوروبا والقيم الديمقراطية الليبرالية التي ظلت ترمز لها لأكثر من نصف قرن.
ولم تتحقق السيناريوهات الكابوسية التي ترددت همسا في العواصم الأوروبية في أوائل 2017. وحصلت أوروبا على فرصة ثانية. وهذه هي الرسائل الرئيسية من انتصار ماكرون وقد انعكست في ردود الفعل الواردة من أوروبا. فعلى تويتر أطلق رئيس الوزراء الإيطالي باولو جنتيلوني تغريدته "مرحبا بالرئيس ماكرون. ثمة أمل لأوروبا." ووصف المتحدث باسم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فوز ماكرون بأنه انتصار "لأوروبا متحدة قوية" وللصداقة الألمانية الفرنسية.
غير أن تصويت الناخبين في فرنسا يمثل تحذيرا أيضا. فقد حصلت الجبهة الوطنية اليمينية على 35 في المئة من الأصوات أي ما يقرب من مثلي النتيجة التي حققها جان ماري والد لوبان في انتخابات عام 2002 وكانت آنذاك بمثابة زلزال هز البلاد كلها ودفع إلى تكوين "جبهة جمهورية" عريضة القاعدة لقطع الطريق عليه.
وفي الانتخابات الأخيرة كان الإحساس بالصدمة أضعف كثيرا وكذلك جبهة لوبان. ووقفت لوبان على مسرح في باريس ودعت "كل الوطنيين" إلى مشاركتها في معارضة الرئيس الجديد. وقال نايجل فيراج الزعيم السابق لحزب الاستقلال البريطاني وأحد أبرز المنادين بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي ما ربما كان يدور في خلد كثيرين في أوروبا "إذا ثبتت مارين في موقعها فبوسعها الفوز في 2022".
ويواجه ماكرون وزملاؤه من القادة الأوروبيين تحديا هائلا خلال السنوات الخمس القادمة للحيلولة دون حدوث ذلك. ومن جانبه يتعين على ماكرون العمل على توحيد بلاده المنقسمة بشدة وإنجاز ما وعد به من بث حياة جديدة في الاقتصاد المتعثر بتوفير فرص عمل للشبان وأمل للمهاجرين في أحياء الطبقة العاملة في مختلف المدن الكبرى بفرنسا. ويمثل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي أيد ماكرون صراحة، قصة تحذر مما قد يحدث عندما لا تتحقق بعض الوعود.
وقال مسؤول ألماني كبير طلب عدم نشر اسمه "ماكرون أمامه من 12 إلى 15 شهرا لاتخاذ القرارات الضرورية حتى تتضح الفوائد قبل نهاية فترة ولايته". فعلى المستوى الأوروبي يتعين عليه إقناع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي يتوقع أن تفوز في الانتخابات في سبتمبر أيلول المقبل بعد أداء قوي للمحافظين بزعامتها في انتخابات إقليمية، بتطوير رؤية موحدة لدفع أوروبا للأمام.
ومن المرجح أن يلقى ماكرون وميركل قادة آخرين يفكرون على نفس المنوال للعمل معهم. فقد استطاع مارك روته رئيس الوزراء الليبرالي في هولندا صد التحدي الذي واجهه من خيرت فيلدرز زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف في الانتخابات في مارس آذار الماضي. وربما يشهد العام المقبل عودة قيادي آخر من الوسطيين المؤيدين لأوروبا هو ماتيو رينتسي الذي اضطر للاستقالة من رئاسة الوزراء في إيطاليا في ديسمبر كانون الأول لكن يبدو الآن أنه يسير في طريق العودة بعد استرداده زعامة الحزب الديمقراطي في انتخابات أولية.
وقال نيكولاس فيرون الاقتصادي في مؤسسة بروجيل للأبحاث في بروكسل "مهما قلنا فلن نستطيع تأكيد مدى التغيير الذي سيحدثه ذلك للتطورات في الاتحاد الأوروبي." ومع ذلك فمن المستبعد أن تختفي موجة معاداة المؤسسة السياسية في القريب العاجل. ففي بولندا والمجر حكومات يمينية تهزأ بقواعد الاتحاد. كما أن ساسة معارضين من أمثال لوبان وفيلدرز كسبوا منصة قوية للترويج لأفكارهم. وربما يتعلمون دروسا من هزائمهم الأخيرة. بحسب رويترز.
وقالت لوبان إن الجبهة الوطنية ستشهد عملية إصلاح بالكامل. وقال نائبها إنه سيتم تغيير اسم الحزب. وقال والدها جان ماري إن حملة ابنته أضعفها مقترحات الانسحاب من العملة الأوروبية الموحدة والاتحاد الأوروبي فيما يشير إلى احتمال التخفيف من السياسات التي أفزعت كثيرين من الناخبين الفرنسيين.
اضف تعليق