ما هو الشيء الذي يقف وراء تطوّر حياة الإنسان، بل حياة الكائنات كافة؟، هل هناك تطور (آلي) يمكنه أن ينقل حياة الإنسان من العصر الحجري الى العصر التكنولوجي، أم هناك شيء ما يقف وراء هذا التطور العملاق؟، ولعل هذا الوصف لا يفي حق النجاحات الكبرى التي تحققت فوق البسيطة برمتها.
فعندما نعود الى بدايات البشرية، ونشأتها الأولى سوف نجد أن الاختلاف بين حياة الإنسان والحيوانات الأخرى التي تقاسمه الأرض لا تختلف كثيرا، فالحيوان يطارد الفرائس ويصطاد من هو أقل قوة وشأنا منه فيكون فريسة له يتغذى بها كي يبقى على قيد الحياة، ولم يكن الإنسان يفعل أكثر مما يفعله الحيوان حتى يديم استمرارية وجوده.
كيف إذاً تحقق هذا البون الصناعي الهائل والضخم والعملاق في حياة الإنسان، ما الشيء الذي يقف وراء ذلك؟، إن الجواب المباشر عن هذا السؤال يكمن في مفردة اسمها (العمل)، نعم لا شيء سوى العمل ساعد الإنسان على إنجاز ما يمكن وصفه بالمعجزات، ولكن هناك عنصر داعم لمواصلة الإنسان للعمل، ونقصد به (المثابرة)، التي تقف وراءها ملَكَة (العظَمة) حيث يتحول الإنسان بأعماله الى شخصية يطلق عليها الجميع بالشخصية العظيمة، كونه يستحق ذلك استنادا الى ما حققه من أعمال عظيمة في حياته فاستحق عليها توصيف (العظَمة).
لهذا السبب يمكن للإنسان أن يتوقف عن كل شيء، وربما بإمكانه الاستغناء عن معظم الأشياء، لكنه لا يمكن أن يستغني عن العمل مهما كانت الأسباب، لأنه لا يمكن أن يحقق عظمته من دون العمل، ولأنه يذهب بأقدامهِ للفناء إذا ترك العمل.
سماحة المرجع الديني آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كلمة توجيهية للمسلمين: (مادام الإنسان موجود في الحياة تبقى يده مفتوحة للعمل).
وطالما كان الإنسان على قيد الحياة، وأنفاسه مستمرة شهيقاً وسفيرا، فإنه مطالَب بالعمل، ومتى ما توقف عن ذلك، فهذه علامة حاسمة على نهايته من هذا العالم القائم على العمل، على خلاف الدار الأخرى القائمة على (الحساب).
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في كلمته نفسها بقوله: (ذات مرّة جاءني رجل كبير السن من العراق، وكان مريضاً ومرهقاً، فقال لي ادع لي كي يأخذ الله تعالى أمانته، أي يموت. فقلت له: لا أدعو. قال: لماذا؟ قلت له: أنت الآن موجود في الحياة، تصلّي، وتسبّح الله تعالى، وتصلّي على محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله، وتلعن أعداء الله، وتنصح الشباب وأولادك وأحفادك، وهذه كلّها فيها الثواب. فإذا تريد الذهاب إلى عالم الآخرة، فستنتظر كل ليلة جمعة من يذكر أحد بسورة الفاتحة، أو قد لا يذكرك أحد. فاليوم يوم العمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).
الشجرة المثمرة تُضرَب بالحجارة
هكذا إذاً تكمن قيمة الإنسان في قيمة أعماله، واستمراره في أداء الأعمال الكبيرة المتميزة القائمة على خدمة الآخر قبل الذات، أو خدمة الآخر والذات في مستوى واحد، ولعله من المفارقات القاسية في حياة البشرية كلها، أن يكون الإنسان الناجح، المثابر، العظيم، معرَّضا للحسد والكراهية والحقد، والدسائس والعمل المستمر للحد من تميزه ومثابرته.
أما الإنسان الفاشل، أو الإنسان الذي لا ينجز شيئا متميزا في حياتي ويبقى خاملا لا دور له في الحياة، فإنه لا يكون محط عداوة أحد، لأنه كما يقول المثل الدارج (لا يهبّ ولا يدبّ)، أو من أولئك الذين ينطلق عليهم المثل القائل (إن حضرَ لا يُعدّ وإن غاب لا يُذكَر)، ولكن الإنسان المثمر صاحب الانجازات الكبيرة المتميزة، يبقى مصدر حسد، ودسائس الفاشلين الذين يكرهون العمل ويتجنبون التعب، ويبحثون ليل نهار عن الراحة والدعة، لهذا لا أحد يتعرض لهم، أو يرميهم بسوء، لأنهم أصلاً بلا قيمة أو صفر على الشمال كما يُقال.
لهذا السبب أوضح سماحة المرجع الشيرازي في كلمته هذه: بـ (أنّ الشجرة غير المثمرة لا يتحرّش بها أحد ولا يضربونها بالحجارة. أما إذا كانت ذات أثمار فيضربونها بالحجارة. وهكذا هو الأمر بالنسبة للإنسان المثمر. والمهم لمثل هذا الإنسان وعليه هو أن لا تتأثّر أعصابه بهذه الحجارة).
ولكن من المفارقات الأخرى، أن العظيم سوف يستفيد من أصدقائه وأعدائه أيضا، ولعل شيء من الغرابة يكمن في ذلك، وقد يتساءل أحدهم كيف يستفيد الرجل العظيم من أعدائه، والجواب يتلخص في أن كل ما يقوم به أعداء العظيم يمثل فائدة له من حيث لا يعلم أعداؤه، حيث أنهم يضاعفون من شأنه، وينشرون أعماله بإعلانهم الحرب عليه، لأن السبب والدافع واضح للجميع، فالأعمال العظيمة هي التي تدفع الفاشلين الى محاربة الناجحين المتميزين.
يرد في هذا المجال رأي للمرجع الشيرازي حول هذا الجانب، إذ يقول سماحته: (يوجد مثَل عربي قديم، يقول: العظمة صرح يحمل أحجارها أصدقاؤها وأعداؤها على حدّ سواء. وهذا يعني ان الذين يعادونك، هم في الواقع يؤثّرون في صنع العظمة لك).
العمل يصنع المعجزات
وهكذا يتضح لنا، دور العمل في القدرة على صناعة العظماء، وإلحاق (العظمة) بمن يستحقها، كتوصيف ينطبق على أولئك المثابرين، الذين يقضون أعمارهم من أجل تحقيق الأهداف العظيمة، بعيدا عن الملل أو الكلل أو الشعور بالتعب أو الجزع، وفي هذا الإطار يضرب لنا سماحة المرجع الشيرازي مثالا حقيقيا مأخوذا من التاريخ القريب، ويخص الرجال المؤمنين بالمبادئ الحسينية العظيمة، والعاملين على إحيائها في كل مناسبة، بغض النظر عن موقف السلطات المعارض لإحيائها كونها تهدد مصالحهم وعروشهم.
إن العمل من أجل إحياء الشعائر الحسينية، لا يمكن وصفه بالعمل السهل الخالي من المخاطر، في ظل الأنظمة التي ترتعب وترتجف من هذه الشعائر خوفا وفزعا من سقوطها، لذلك كانت تلك الأنظمة تلجأ الى أكثر العقوبات وحشية وتعذيبا وتقتيلا وتشريدا وتهجيرا، من أجل أن لا يستمر الحسينيون المؤمنون في عملهم العظيم الهادف لإحياء الشعائر المقدسة.
ولا شك أن من عاش في عصور وعهود الأنظمة الفردية العسكرية الدكتاتورية الظالمة، رأي بعينه ولمس لمس اليد، تلك الأساليب الوحشية التي كانت تلجأ لها الحكومات الفاشلة كي توقف الرجال الأشداء المؤمنين العظماء عند حدهم، نعم لقد قدم هؤلاء الرجال الحسينيون العظماء أغلى ما يمتلكون، أرواحهم ودماؤهم كي تستمر الشعائر في أشد الظروف خطورة، فكانت هذه الأعمال العظيمة التي تقف وراءها إرادات وعقول عظيمة مؤمنة، لا تتوقف، ولا تكف عن تحدي الظالمين القتلة، فبقيت الأعمال العظيمة شامخة وبقي أصحابها العظماء خالدين في وهج الحرية، وهم يقدمون أعمالهم الفريدة من أجل إحياء الشعائر المقدسة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي عن العاملين المثابرين في إحياء الشعائر الحسينية المقدسة بكلمته هذه: (قبل قرابة ثمانين سنة، كان ياسين الهاشمي رئيساً للوزراء في العراق، وكان ضدّ الشعائر الحسينية، وكان يستهزئ بها ويشاكسها، ويضيّق عليها. وفي ذلك اليوم، في كل بغداد، لم يتجاوز عدد المواكب الحسينية الخمسين موكباً. أما اليوم وحسب قولكم، فبغداد، ولله الحمد، فيها أكثر من خمسة آلاف موكباً حسينياً). هكذا هي الأعمال العظيمة، وهذا هو مآل ومكانة أصحابها، فالعمل الصالح والمثابرة عليه، بروح التحدي والإصرار، كفيل بصناعة العظمة لأصحابه الذي يستحقون هذا التوصيف بلا أدنى شك.
اضف تعليق