ثلاث سلطات مستقلة، تشكل ركائز حتمية للدولة المدنية المستقرة، السلطة التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، دون هذه السلطات المنفصلة عن بعضها لا تقوم قائمة للدولة، ونظرا لأهمية الإعلام مُنحَ تسمية (السلطة الرابعة)، وجاءت التسمية من أهمية وسائل الإعلام ومضمونه، واتجاهاته، وقدراته على (التحكم) في اتجاهات الرأي العام، وما ينعكس عن ذلك سياسيا وفكريا وعمليا أيضا.
ما جاء في أعلاه، يعطي انطباعا عن مهمة الإعلام في الترويج لفكر ما، فقد يكون هذا الفكر في صالح البشرية، وربما يمضي بالضد منها، تباعا للغايات والأهداف والمصادر التي ينطلق منها الإعلام، فالعقول الخيّرة تسعى لنشر الخير بين ساكني المعمورة ليعم السلام والاستقرار وينشغل الناس بالعلم والفكر الجيد والإبداع والابتكار.
من هنا تنطلق دعوة سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، لصناعة إعلام ينقل الخير للبشرية كلها، انطلاقا من رؤية سماحته التي تنص على أن: (الشيء الحسن إذا وصل للناس وللبشر، فسيأخذون به).
يعتمد هذا الرأي على الفطرة الإنسانية، وعلى التجارب الميدانية التي أكدت على أن الإنسان يسعى الى ما هو أحسن من سواه، ومن بين أهم المجالات المشمولة بهذا القول هو الفكر الجيد، فسكان الأرض باتوا من الضخامة والتكاثر والتنوع والاختلاف، ما جعل الحاجة الى الفكر الجيد حاسمة، لتطوير وترسيخ القيم الخلاقة والفكر الراقي.
فالشيعة على سبيل المثال ينعمون بإرث فكري هائل، كله يصطف الى جانب مصلحة الإنسان، ولكن للأسف قد لا يصل هذا الفكر للناس، بل حتى شباب الشيعة ربما لا يستهدفهم هذا الخطاب، فلماذا لا يصل هذا الفكر الى الآخرين، بل لماذا لا نسعى في تعميمه على العالم أجمع من خلال الإعلام الهادف؟.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في كلمة توجيهية قيمة له: (نحن الشيعة لدينا الكثير والكثير من الجيّد والجديد، وليس للعالم كلّه فقط، بل حتى للشيعة، وبالذات لشباب الشيعة الذين لا يعرفون الكثير من هذا الجديد والجيّد).
هنا تحديدا تكمن أهمية الإعلام السليم، أو الدعاية الجيدة، فالإعلام كما هو معروف له هدفين، فهو أما مع الإنسان أو ضده، سليم أو مضلِّل، لذا ينبغي أن نبذل قصارى الجهود لنشر الفكر الجيد ومضاعفة الدعاية له.
في هذا المنحى تكمن أهمية الدعاية والإعلام، كما نلمس ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي يجيء فيه: (هناك كتاب لغاندي اسمه (هذا مذهبي) يقول فيه: أنا لو يكون عندي مائة ألف (روبية هندية) وأريد أن أفتح بها محلاًّ، أخصّص عشرة آلاف منها للبضائع، وتسعين ألفاً الباقية أخصّصها وأصرفها على الدعاية).
الإعلام عمل مهمّ جدّاً
ومن كلام غاندي نستطيع أن نخمّن مدى الأهمية التي تنطوي عليه الدعاية، لذلك يعد العمل الإعلامي غاية في الأهمية، إذ يذهب العلماء في الحرب النفسية ونشر الإشاعة، الى أن الهزيمة التي يمكن أن تشنها الجيوش ضد بعضها البعض، تعود في نسبة كبيرة منها الى الحرب النفسية وحرب الإشاعات عبر ما يسمى بالترويج المخادع، وتضع الدول ميزانيات ضخمة لهذا الغرض، وقد يأخذ الإعلام مسارا آخر فيكون الهدف منه تضليل الوسط المستهدّف، وربما ينجح في تحقيق مآرب تعجز عن تحقيقها الدول بالقوة العسكرية.
وفي مجال الإعلام الجيد يمكن أن تكون وسائل وقنوات ووسائط الإعلام المختلفة، منهجا لتحقيق نتائج بالغة الأهمية، وقد ركّز سماحة المرجع الشيرازي على هذه الأهمية، ونوّه عنها وعلق على أهميتها قائلا:
(اعلموا انّ الإعلام عمل مهمّ جدّاً. بلى فيه المتاعب والحرمان والمشاكل وصراعات داخلية وسلبيات، ولكن المهمّ هو أن تخرجوا أنفسكم من السلبيات، حتى يمكنكم العمل، وإلاّ فلا يمكن العمل).
ونظرا لهذه الأهمية القصوى، طالب سماحة المرجع، بالابتعاد عن السلبيات والانشغال بما هو جاد وفعال، يحقق النتائج الفعالة للفرد والمجتمع، وقد ضرب سماحته مثالا عن الجهود العظيمة لأخيه الإمام الشيرازي (رحمه الله) في هذا المجال، وإرادته الفولاذية في تجنب الانشغال بالسلبيات أو العقبات في مقال الاهتمام الكلي والتام بما يستحق من اهتمام في الفكر والعقائد وتحقيق كل ما هو مفيد للمسلمين والإنسانية عموما.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في المثال الذي تحدث عنه في هذا المجال: إن (المرحوم السيد الأخ (المرجع الراحل)، دخل الكويت وصنع الكثير من الأعمال والمشاريع حول أهل البيت صلوات الله عليهم. فضادّه بعض الناس، وكتبوا ضدّه، وطبعوا ما كتبوه، وكان السيد الأخ لا يتكلّم حتى بكلمة واحدة ضد من قاموا بذلك. حتى أنّ أحد الأصدقاء المقرّبين قال له ذات مرّة وكان الأخ حينها منشغلاً بالتأليف: سيدنا لقد كتبوا ضدّك الكثير، فلماذا لا تردّ عليهم؟ فقال الأخ: أنا لا يوجد عندي وقتين، وقت أكتب فيه، ووقت أردّ عليهم).
الجهد الناجح والنتائج الناجعة
يصف سماحة المرجع الشيرازي الإعلام المناوئ والقائم على التضليل، بأنه إعلام (معاوية) في إشارة الى التبشير بالفكر المنحرف، من خلال وسائل الإعلام المضللة، أو ما يُطلق عليها بوسائل الدعاية السوداء، فهي تعتمد المبدأ المخادع الذي يذهب الى الباطل عن طريق سلوك الحق الظاهري، فهو ظاهرا يبدو داعيا الى الحق لكنه في الحقيقة يؤيد التضليل ويدعمه، من باب (كلمة حق يُراد بها باطل).
لاسيما في الظروف الراهنة التي يمر بها العراق والعرب والمسلمون، حيث تلعب الدعاية السوداء دورا محبوكا لزيادة تعقيد الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة كلها. ولكي يتم التخلص من هذا النوع الإعلامي التضليلي لابد من العودة الى النبع الثري للقيم الخلاقة متمثلا بالفكر العظيم لأئمة أهل البيت عليهم السلام.
حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كلمته ذاتها على أن: (الإعلام المضلّل، أو كما يقولون الدعاية السوداء، يعمل عمله ويؤثّر، كما ما ترون في الوقت الراهن، وجود إعلام معاوية كداعش، لكن بالنتيجة إنّ الأفراد الذين بيدهم مصابيح أهل البيت صلوات الله عليهم، وهم الشيعة، بمقدار عدم انشغالهم بالسلبيات يوفّقون أكثر).
إذاً فإن عمل الإعلام يمكن أن يصب في أحد اتجاهين، إيجابي وسيّئ، وطالما أن المسلمين بحاجة الى الإعلام الجيد، فهذا يستوجب عدم الانشغال بالتوافه والصغائر والمعوقات الصغير، والإصرار على الخط الفكري السليم، ونشر القيم العظيمة لأهل البيت (ع)، لأن الانشغال بما هو جيد يقود الناس الى النتائج الجيدة، والعكس يصح، فإذا انشغل الناس بالسلبيات سوف يبتعدون عن ضفة النجاح والتوفيق.
ولهذا بيّن سماحة المرجع الشيرازي هذا الأمر بوضوح عندما قال: (إذا عزم الإنسان على ترك السلبيات فسيوفّق، والعكس بالعكس أيضاً. لأن الذين يشغلونه بالسلبيات لا يدعونه ينال الموفقيّة. كما إذا عزم الإنسان على أن لا يعتني بالسلبيات، قد يُبتلى بها أقلّ وأقلّ).
ثم يؤكد سماحته، أن كل من ينشغل بالصغائر والسلبيات في مجال الإعلام، أو سواه، سوف لا يحصد سوى الندم، وسيصل الى نتائج لا قيمة لها إطلاقا، حيث أكد سماحته، قائلا ومتسائلا حول هذا الموضوع الحساس: إن (الذين انشغلوا بالسلبيات، وينشغلون بها، ماذا قدّموا؟ وماذا أعطوا للناس؟ وماذا خلّفوا من آثار؟ والجواب هو: لا شيء).
وهكذا ينبغي التأكيد على الإعلام الجيد، من حيث الوسائل والوسائط والأفكار، لاسيما أن عالمنا كله يحتاج الى الفكر المتوازن الوسطي، في ظل مشهد الاحتقان العالمي الذي يلقي بظله على المعمورة كلها، ما يستدعي الى اللجوء الفوري والمستمر الى نشر الفكر المعتدل ضمن الخط الشيعي الذي لا يصل منه الى العالم سوى النزر اليسير، في حين نحتاج إعلاما ذكيا هادفا وقويا وذا مضمون وسطي يُستمد من عمق مبادئ أئمة الدوحة المحمدية، وصولا الى البشرية كلها، نعم هو جهد ضخم، لكنه ليس مستحيلا، خصوصا أنه يحمل الفكر الشيعي الهادف الى نشر السلام والأخلاق وقيم العدل في بقاء وأرجاء الأرض عموما.
اضف تعليق