لاشكّ أنّ الإنسان المؤمن يطمح لأن يكون من عباد الله الصالحين والمتّقين، ولكن لابدّ لذلك من مقدّمات ومراحل تكون كفيلة بذلك. هذه المقدّمات أشار إليها الإمام السجّاد في هذا المقطع من الدعاء، من جملته قوله: «وطيب المخالقة والسبق إلى الفضيلة»، فقد عدّهما سلام الله عليه مقدّمتين من مقدّمات تحقّق التقوى والصلاح في الإنسان.
طيب المخالقة
لم أرَ في قصائد شعراء العرب أو كلمات فصحائهم أنّهم أضافوا عبارة «الطيب» إلى «المخالقة» كما فعل الإمام سلام الله عليه في هذه الجملة. فهذا التعبير يعكس أدباً وبلاغةً رفيعتين للغاية. ولو تدبّر أدباء العرب في هذه الجملة وغاصوا في بحورها لأخرجوا من بديع معانيها وجمال الذوق فيها الكثير. ولعلّ كلّ من له أدنى إلمامة بالأدب يمكنه أن يكتشف بعض كنوز ما قاله الإمام سلام الله عليه.
إنّ كلمة «طيب» تستعمل في الغالب بمعنى المستحسن المرغوب فيه، وهي نعت يشير إلى معنى حقيقي ذاتيّ غالباً، كما يُستعمل في الأمور التي هي خارج كذلك، فيطلق مثلاً على الأكل اللذيذ: بأنّه طعام طيّب؛ حيث أُضيفت إليه بعض المقبّلات ذات النكهة الطيّبة مع الطهي الجيّد، كما يطلق على المسك والعنبر أنّهما من الطيب.
إنّ موارد الاستعمال لهذه الكلمة، سواء في القرآن الكريم ـ الذي هو القمّة في البلاغة جمالاً ودقّة ـ أو في السُّنة المطهّرة المرويّة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام أو في قصائد فطاحل الشعراء مثل البحتري وأبي تمام والمتنبّي ومن سبقهم كامرئ القيس وغيرهم، غالباً ما تكون في أحد موردين:
الأوّل: في الأمر الذاتي كما في المسك وسائر الأنواع الطبيعية حيث تسمّى طيباً.
الثاني: في الأمر الخارجي كما في الأطعمة الطيبة بسبب ممازجتها بما يجعلها كذلك(1).
أمّا استعمالها لإرادة معنى جديد عبر إضافتها إلى كلمة أخرى للخروج بمعنى ثالث يوحي بذاتية الأمر، فلعلّه مما تفرّد به الإمام السجّاد سلام الله عليه في هذا الدعاء، حين جمع بين الطيب والمخالقة، فلم يقل: (حسن المخالقة) مثلاً، لأنّ ذلك كان سيدلّل على رغبته في أن يكرمه الله تعالى بحالة خارجية، قد يكون باطنها غير ظاهرها، ولذلك قال: «طيب المخالقة» ليتعزّز طلبه من ربّه تبارك وتعالى بحالة داخلية يتكافأ فيها الباطن مع الظاهر.
ولعلّ من النكات الخاصّة بهذا الاستخدام، أنّه صلوات الله عليه أراد أن يضمّن كلمته أو يشربها معنىً آخر، حيث يأتي بتعبير واسع ثمّ يربطه بكلمة ما، ليستخرج من هذا الربط معنى جديداً.
أمّا المخالقة فتعني لغةً: التعامل الخلقي أي المعاشرة، فمن المخالقة مثلاً إجابة الدعوة إلى الطعام وغيره من الأمور الحسنة والتكلّم مع الناس والإصغاء إليهم، والتعامل بالحسنى معهم عموماً، فهي إذاً أمرٌ أكثر ما يرتبط بالحواسّ الخمس؛ العين والأنف واللسان والأذن والبشرة، ولذلك قيل في المخالقة: المخالطة والاستيناس.
فتارة ينظر المرء إلى أخيه بعين المحبّة وأخرى بعين الغضب، وقد يصغي إليه وقد يسمعه فقط، وقد يصافحه بحرارة، وقد يقدّم يده إليه ببرودة ليجامله وهكذا.
فهذه جملة من مصاديق المخالقة ذات العلاقة بالجانب الحسّي من الإنسان والذي يطلق عليه اسم المخالطة أو المعاشرة، ولعلّ ما نسبته تسع وتسعون بالمئة من مصاديق المعاشرة ـ باعتبار أن المعاشرة أعمّ من المخالقة ـ مرتبط بهذا الجانب.
فإذا قرنت المخالقة مع الطيب حصلت صورة جديدة تؤدّي إلى تصوّر الصدق في العلاقة بين الإنسان ومن حوله، وكأنّ هذه العلاقة طيّبة ذاتاً ومنذ البداية وأنّها من الصميم. فالكلمة الصادرة عبر طيب المخالقة توحي بأنّها قد خرجت من القلب، ولا يراد بها المجاملة وحسب، وتعرف على أنّها كلمة صدق وليست مراوغة يراد بها المكيدة والخداع، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع مصاديق المخالقة. فطيب المخالقة تعني إحراز الصدق وإبرازه في التعامل مع الناس.
فلنغرس طيب المخالقة في نفوسنا، ونرقَ بعلائقنا عبر صفاء ذواتنا ونقاء سرائرنا وسلامة قلوبنا من الكدورة. وليس شيء أبلغ وأنزه يمكن أن يحققه الإنسان في ميدان التعامل الاجتماعي أكثر من هذا الأمر.
أهل البيت سلام الله عليهم وطيب المخالقة
يشهد المخالف والمؤالف أنّ أهل البيت سلام الله عليهم كانوا يتمتّعون بأعلى مستويات طيب المخالقة في علاقاتهم مع الناس، مؤثرين لهم على أنفسهم، وأنّهم كانوا صادقين في سلوكهم هذا ومتّسمين به في كلّ المواقف وفي مختلف الظروف؛ سواء كانوا، كباراً أو صغاراً، ظاهرين أو مستترين، قائمين بالأمر أو مقصيّين عن الحكم. فالإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه هو نفسه في زمن النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله، وهو نفسه في الخمسة والعشرين عاماً بعد النبي، وكذلك في أيّام حكمه سلام الله عليه، لم يتغيّر في خلقه شيء.
لقد روى العامّة والخاصّة بل غير المسلمين أيضاً، قصّة شراء الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قميصين أعطى أفضلهما خادمه قنبراً، مع أنّه كان يرأس أكبر حكومة على وجه الأرض، ويرتقي المنبر، ويلتقي كبار الرجال من مختلف الديانات والمذاهب والأقوام.
ولم يكن يتصرّف سلام الله عليه ذلك التصرّف إلا لأنّ خُلقه من سنخ خُلق الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، فقالها سلام الله عليه مدويّة: «إنّ الله عزّ وجلّ قد فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعَفة الناس كيلا يتبيّغ (أي يهيج) بالفقير فقره»(2).
ومن هنا نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله «نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد»(3).
روى الفتّال النيسابوري أنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه أتى سوق الكرابيس، فاذا هو... فقال: يا غلام عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ قال: نعم، عندي ثوبان. فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين. فقال: يا قنبر، خذ الذي بثلاثة دراهم...(4).
طيب المخالقة تنفع صاحبها
وهناك قضية يلزم الانتباه لها، وهي أنّ المخالقة الحسنة إن لم تكن نابعة من داخل الإنسان، فإنّه سيبتلي بالتعرّض للضغوط النفسية الشديدة، جرّاء تصنّعه وتذبذبه، الأمر الذي يؤدّي بالتالي إلى عجزه في المحافظة على سلامته وصحّته، بينما إذا كان الفرد مؤمناً صادقاً بمخالقته ـ أي كان طيّب المخالقة ـ فإنّه سوف ينطلق الى آفاق الحياة بكلّ أمن وسلامة.
إنّ من مميزات طيب المخالقة أنّها تساعد الإنسان على مقاومة المشاكل، والصمود بوجه المشاكسين والمغالطين والمعاندين والوصول إلى برّ الأمان رغم كلّ الظروف.
ولقد رأيت شخصين لكلّ منهما قصّة، قد ابتلي كلّ منهما بمشكلة مالية، فكان الأوّل مختلفاً مع شخص على نسبة حصّته من أرض يتنازعان فيها، فكان يدّعى أنّ نسبته 80% في حين كان خصمه لا يقرّ له بأكثر من 40% وكان لكلّ منهما أدلّته وشواهده، فكان الأوّل يتظاهر بحسن المخالقة ويقول: رغم ثقتي بكسبي للدعوى ـ فيما لو ترافعنا للمحكمة ـ إلا أنّي لا أقوم بذلك لأنّ الترافع ليس من شأني، كما أنّي لا أريد تعريض غريمي للهزيمة القضائية. ولكنّه بعد فترة وجيزة أصيب على أثر هذا الخلاف بانهيار أعصابه، ما أدّى إلى إصابته بالسكتة القلبية ومات على أثرها، وما ذلك إلاّ لأنّه كان يتصنّع ويتظاهر بحسن السلوك وعدم الاكتراث، ولم تكن حسن مخالقته نابعة من الداخل حتى أجهد نفسه وأتلف أعصابه.
أمّا الشخص الثاني الذي له قصّة مشابهة، فكان مثالاً حقيقياً لمن لا يكترث بالنواحي المادّية، وكان طيّب المخالقة مع الناس، وذلك لأنّه عندما أُخبر بأن بيته قد صودر، لم يكترث؛ وقال: إنّ الأمر ليس من شأنه أن يقلقني بالمستوى الذي يمكن أن يسوء فيه خلقي مع الناس، بل لا يمكنه أن يؤخّرني حتى عن موعد نومي الليلة.
ولعلّ من عمدة الأسباب في تفاوت سلوك الشخصين المذكورين، هو أنّ أحدهما لم يكلّف نفسه عناء ترويض ذاته وتأديبها وتعويدها على الصلاح الحقيقي، بينما الثاني ـ كما بدا من سلوكه ـ كان أكبر همّه صقل شخصيته من خلال تهذيب نفسه بالقدر الذي يجعلها طيّعة لأمر بارئها سبحانه وتعالى. إذاً فطيب المخالقة ينتفع بها صاحبها قبل أيّ شخص آخر، سواء في الدنيا أو في الآخرة.
فإذا كان لدى المرء لسان حسن، أو نظرة إيجابية، أو مصافحة حارّة، أو ظنّ حسن، أو عمل صالح فإنّ هذه وغيرها من مظاهر طيب المخالقة ستعود عليه بالنفع أوّلاً، وستشمل غيره أيضاً بمنافعها ومردوداتها الإيجابية.
السبق إلى الفضيلة
من روائع البلاغة في تعبير الإمام السجّاد سلام الله عليه أنّه ضمّ الى طيب المخالقة، السبق إلى الفضيلة. أي بعد أن يتأكّد الإنسان من طيبه الداخلي وحسنه الذاتي، يمكنه أن يتقدّم خطوة نحو الأمام ليشرع في إعمال الفضائل، ثمّ يسمو إلى مرحلة التسابق أو السبق فيها.
فالمرء إذا كان طيّباً في داخله فإنّه لا يتوقع الفضل والإحسان من الآخرين بقدر ما يكون دَيدَنُه الإسراع في عمل الخير وإنجاز الصالحات. فيزور قبل أن يزار، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسب غيره، ويبدأ بالسلام قبل أن يضطرّ إلى ردّه، ويَحترم قبل أن يُحترم، إلى غير ذلك من شواهد الإسراع في الخيرات وطيب التعامل.
وبالنسبة إلى ما ذكر من الابتدار في السلام، فقد أكّدت الروايات بأنّه من المستحبّ أن يبدأ الإنسان بالسلام على كلّ من يلقاه بل حتى على زوجته وأطفاله عند دخوله البيت، كما في قوله صلى الله عليه وآله: «إنّ أولى الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام»(5) وقوله صلى الله عليه وآله: «وإذا دخل أحدكم بيته فليسلّم فإنّه ينزل البركة وتؤنسه الملائكة»(6).
ولطالما رأيت السيّد المرحوم والدي(7) يبدؤنا بالسلام وكنت من ضمن الصبية، وعندما مضى بي العمر، تأكّدت بأنّ من وراء ابتداره بالسلام على من هم أدون منه قناعة تامّة لديه، بأنّه يحرز بذلك كثيراً من الفضل والدرجة وتربية الذات، فضلاً عن تعليم الآخرين هذا السلوك الحسن.
اضف تعليق