لا يكفي أن يكون المعنى صحيحا ومقبولا، لكي يستقبله الناس بصورة جيدة، هناك شرط آخر ينبغي أن يتنبّه له مقدِّم المعنى، كأن يكون خطيباً أو كاتبا، أو داعية أو مربياً، ذلك الشرط هو (جمال الأسلوب)، وهو بمثابة الوعاء الذي يتم من خلاله تقديم المعاني للوسط المستهدَف، فالكلام ربما يكون معيباً أو ناقصا من حيث المعنى، ولكن قد لا يكون مشجّعا على الاستقبال إذا كانت الكلمات الناقلة له عاديّة أو جافة.
عند ذاك يشعر المتلقي بأن المعنى رغم صحته، لكنه غير مستساغ ولا محبب للسمع والقلب والنفس معا، وبهذا يخسر القائل أو الكاتب فرصة كسب المستمعين والقراء والتأثير بهم، فالهدف الأهم للخطيب وللأديب، أن تصل أفكاره الى الناس وأن يستقبلوها أحسن استقبال وأن يتأثروا بها ويجعلوا منها مصدر توجيه مستدام لهم، تُرى كيف يتمكن الخطيب والأديب من هذا الهدف؟؟.
يقدّم سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيم، الموسوم بـ (العلم النافع) هذه النصيحة المهمة للخطيب والكاتب والأديب، عندما يقول سماحته: (إنّ الجمال مهمّ ومطلوب لهداية الناس، فلا يكفي أن يكون المطلب صحيحاً، بل لابدّ من جمال الأسلوب والتعبير أيضاً).
ويضيف سماحته قائلا في هذا المجال: (يعتبر القلم والبيان في هداية الناس وإرشادهم بمثابة إناء الإرشاد وظرفه ووعائه).
ويضرب سماحته مثلا بالطعام الذي يتم تقديمه للإنسان، فحتى لو كان هذا الطعام لذيذا ربما لا يُقبل عليه الإنسان اذا قُدِّم له في إناء رديء، في حين اذا قُدِّم له طعام عادي في إناء جميل ونظيف، سوف يُقبل عليه بشهية عالية، هذه الصورة التقريبية تنطبق على المعنى والكلام أيضا، فإذا لم تكن الكلمات راقية والأسلوب جميلا ومشوّقا يكون الإقبال عليه فاترا من لدن الناس.
حول هذا الجانب يقول سماحة المرجع الشيرازي: (الطعام مهما كان لذيذاً وطيّباً إلاّ أنّه قد لا يُستساغ فيما لو وُضع في إناء أو وعاء غير نظيف أو غير صحّي، فترى الإنسان لا يفكر أن يمدّ يده نحو مثل هذا الطعام ليرى إن كان لذيذاً أم لا، وذلك لوجوده في وعاء غير مناسب. أمّا إذا جيء بطعام عاديّ ولكن في إناء نظيف وجميل فسوف تتناوله الأعين قبل الأيدي بشوق وإن لم يكن بمستوى الطعام الأوّل).
القرآن يهتمّ بجمال الأسلوب
لنا في الأسلوب القرآني درس مهم فيما ذهب إليه سماحة المرجع الشيرازي، فلو لاحظنا كيف يقدّم النص القرآني المعنى لقارئه، لاتضحَ لنا أن الأسلوب مهم للغاية في توصيل المعنى بصور بالغة الجمال، وهذا يشكل سبيل الكاتب والمؤلّف لكسب ذائقة الجميع، فترى إقبالا واسعا على هذا المعنى وذاك بسبب الأسلوب اللغوي الراقي.
ويُسهم جمال الأسلوب بصورة فعالة في تعميق الهداية والإرشاد في قلوب الناس وذائقتهم، لذا من المستحسَن للقائل، المتكلم، الخطيب، الأديب، الكاتب، أن يتذكر دائما، أن جمال الأسلوب هو أقصر الطرق له نحو كسب المستمع أو القارئ، على أن يهتم بصورة قصوى بالبيان وصقل الأسلوب وتجميله كي يتناسق مع المعنى، من أجل الانسياب الى الذائقة والتفاعل مع النص المكتوب او الكلام المُقال.
لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أن: (وعاء الهداية والإرشاد هو القلم والبيان. فكلّما كانت الكتابة أجمل كان التأثير أفضل وأحسن. انظروا إلى القرآن وكلام الرسول صلّى الله عليه وآله وأهل البيت سلام الله عليهم، أوَليس كلّ ذلك قدوة لنا؟).
ولدينا في القرآن أسوة ودليل على مثل هذه الآراء المتميزة لسماحة المرجع الشيرازي، فالنص القرآني يعتني بالأسلوب ويضفي جماليات عميقة على المعنى من خلال الوسيط البياني والكلمات المناسبة والمعبّرة والتي تتحلى بجمال الصورة والمنطق على حد سواء، فيكون قارئ القرآن ازاء صورة من الجمال الثنائي العميق، طرفاه جمال الكلام وجمال المعنى، وقد لوحظ أن هذا الأمر يضاعف من هداية الناس ويسرّع بها، ما يؤكد التأثير الجمالي الكبير على المتلقي:
نلاحظ ذلك في هذا الكلام الذي يرد في كتاب (العلم النافع) للمرجع الشيرازي حينما يؤكد سماحته على: (إنّ القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، فلماذا يهتمّ بجمال الأسلوب والتعبير؟ نقول في الجواب: إنّ ذلك جزء من عملية الهداية. وهكذا الحال بالنسبة لكلام المعصومين سلام الله عليهم).
ولدينا دليل قاطع على أهمية الأسلوب الجمالي في توصيل الأفكار والمعاني للوسط المتلقي، وتأثيره الكبير، ليس على المسلمين وحدهم، بل على شخصيات تنتمي الى أديان أخرى كالنصارى والمسيح، فعندما اطلع هؤلاء على النص القرآني، تأثروا بالقيمة الجمالية له، وساعد ذلك على الإقبال الشديد على معاني القرآن الكريم، ومن ثم الهداية والإنتماء الروحي الإيماني العميق للدين الاسلامي.
نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (كثير من علماء المشركين والنصارى واليهود، اهتدوا عبر جمال التعبير في القرآن الكريم).
المعنى بحاجة لوعاء جميل
ومن حسن وجمال هذا الموضوع الشيّق، أن سماحة المرجع الشيرازي يضرب أجمل الأمثلة واكثرها تأثيرا ودقة حول هذا المضمون، فالناس عادة يقبلون على البروتين في اللحوم ويستطيبون ذلك، ولكن هل يتناولون ذلك مفردا، أم يضيفون له التوابل وأشياء أخرى لتحسين المذاق؟، لا شك أن اللحوم لذيذة، لكن لا احد يتناولها بعيدا عن تحسينها عبر التوابل وما شابه، فالغابة لا تكمن في تناول اللحوم لذاتها، بل لجمال المذاق وحسنه مضافا الى جمال المعنى.
حول هذا الجانب يقول سماحة المرجع الشيرازي: (إذا كان الناس يبحثون عن البروتين في اللحم فلماذا لا يكتفون بتناوله وحده هكذا من دون توابل ومرق و... مع أنّه هو الأساس، فنراهم يخلطون معه عشرات الأشياء لا لشيء إلاّ ليصبح لذيذاً ومقبولاً؟ هكذا هو الحال مع المعنى الصحيح، فلابدّ أن تجعلوه في وعاء جميل لكي يتقبّله الناس منكم).
وينبّه سماحته على أمر غاية في الأهمية، ينبغي على المعنيين من مؤلفين ومحاضرين الأخذ بها، وهي تتعلق بقضية القدرة على إضفاء الجماليات على القول والكتابة معا، فمثل هذا الهدف الجميل والصعب في الوقت نفسه، لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها، ولا يمكن أن يتحقق بمجرد أن يرغب الانسان بذلك.
بل لابد أن يسعى الخطيب والأديب والكاتب الى تحصيل الجماليات واكتسابها وتشذيبها ومن ثم إضفائها على كلماته المقولة او المكتوبة، وهذا السعي لا يتحقق بالتمني او الرغبة الخالية من الفعل، فينبغي على من يرغب بتحقيق هذه الميزة واكتسابها والحصول عليها، أن يتمرن كثيرا على تحسين اسلوبه وتجميله وجعله متميزا وعبرا عن شخصيته هو بالذات، فتفرّد اسلوب الكاتب والخطيب هو الذي يمنحه التميز والتفرد والتفوق.
وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون التوجّه الحثيث والسليم لكسب الجمال الاسلوبي، عبر المران والمراس وعدم الكف عن ذلك، والبحث عنه في أهات الكتب الأدبية واللغوية والابداعية عموما، وكلما كان الساعي الى هذا الهدف جادا في تمرينه، كان اقدر من سواه على امتلاك الاسلوب الأجمل.
هذا المعنى يؤكده لنا سماحة المرجع الشيرازي في قوله التالي: (هذا الأمر - جمال الأسلوب- بحاجة إلى تعلّم وتمرين، لأنّه لا يأتي هكذا عفواً، بأن ينام الشخص ـ مثلاً ـ في الليل ويستيقظ في اليوم التالي وقد أصبح أديباً).
اضف تعليق