يؤمن العاملون في السياسة المعاصرة او معظمهم بالرأي القائل لا توجد صداقات ولا عداوات دائمة، بل توجد مصالح دائمة.. وهو رأي لسياسي براغماتي غربي معروف طبق هذا المبدأ في حياته السياسية.. وقد رسم آنذاك صورة مقاربة لتفكير ساسة اليوم كي يُسقط أهمية التلازم بين السياسة وقيمة الوفاء والالتزام، فهذه القيمة برأي العارفين هي خصلة اجتماعية خلقية تتمثل في التفاني من أجل قضية ما أو شيء ما بصدق خالص فالوفاء ينتمي لأصل الصدق.
والوفاء بحسب المختصين صفة إنسانية جميلة، عندما يبلغها الإنسان بمشاعره فإنه يصل لأحد مراحل بلوغ النفس البشرية لفضائلها والوفاء صدق في القول والفعل معاً، والغدر كذب بكليهما.. والوفاء يستحضر القيم السامية والمثلى للإنسان فمن فُقِد عنده الوفاء سوف ينسلخ من إنسانيته.. وقد جعل الله الوفاء قواماً لصلاح أمور الناس.
فقال عز وجل: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين./ آل عمران76}. وقال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا./ الآية 34 سورة الإسراء}. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ./ الآية 40 سورة البقرة}.
السياسة ليست فن (الخديعة) ولا المكر ولا ضمان الغلبة على الآخر كما يُشاع هنا وهناك.. وهذا سبب اقتران الوفاء بسياسة الرسول (ص) وتُفَسَّر السياسة بأنها إدارة شؤون الأمة والسموّ بحياتها.. ولكن ليس تبعا لمبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) أو عدم دمج الوفاء بالسياسة وضرب التعهدات بالحائط!.
قائد المسلمين الأعلى النبي محمد (ص) هو النموذج الحي لنا.. فما هي سياسته؟.. وكيف نجح بضمان قيمة الوفاء في كل قراراته السياسية عبر مسيرة ذات شقّين.. الأول نجده في معارِضته (ص) للسلطة أثناء الصراع المرير ضد قريش.. والثاني سيطرته (ص) على السلطة وإدارته لها بعد هزيمة المشركين.. وفي كلا الشقّين كانت سياسة الوفاء حاضرة.
يضرب لنا سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي أدامهُ الله.. مثالا عن سياسة النبي (ص) فيقول:
(سياسة الرسول صلی الله عليه وآله التي هي: إدارة البلاد والعباد بمعناها الصحيح كما يحب الله تعالى ويرضاه، كانت مبتنية على الوفاء بالوعد، والالتزام بالقول، والوفاء الخلقي).
وحتى تبقى الذاكرة حيّة.. يدعم سماحته أقواله بقصص عن الوفاء يأخذها المؤرخون من سيرة الرسول (ص) السياسية، وكيف كان يسوس الأمة.. فيقول حول ذلك في المؤلَّف المعروف لسماحته (السياسة من واقع الإسلام) فيذكر وفاء النبي للأنصار في كتابه هذا:
(ذكر المؤرخون الكثير من القصص الرائعة حول الوفاء، نذكر منها: في مكّة المكرمة، وقبل البعثة تواعد النبي صلی الله عليه وآله مع شخص أن ينتظره حتى يجيء ذلك الشخص، فراح الرجل، ونسي وعده، وترك النبي صلی الله عليه وآله يترقّبه ثلاث ليال في المكان نفسه. وبعد ثلاث جاء الفتى ليجد النبي صلی الله عليه و آله لا يزال في انتظاره بمكانه).
هذا الثبات على قيمة الوفاء لا نجده في عالم السياسة اليوم.. فلا احد من الحكام او القادة حتى في البلدان المتنورة او التي يُقال عنها تتبوّأ مركز الصدارة في العلم.. حتى حكام هذه البلدان المتطورة لا يؤمنون بسياسة الوفاء ومعظمهم ينظر إليها على أنها فن التغلّب على الآخرين.. ساسة المسلمين أيضا لم يستنبطوا الدرس من نبيّهم (ص) ولم يتعلموا قيم السياسة الصحيحة.
وعلى طبق من ذهب قدّم النبي محمد (ص) درساً للبشرية في السياسة لا يُضاهى، فأوجب وفاء السياسة وسياسة الوفاء.. وألزم القادة بالوفاء لوعودهم والالتزام مع الناس حتى لو كانوا أقل شأنا ومنزلةً منهم.. فالوفاء عند الرسول الأعظم قيمة لا يمكن إنكارها ولا يمكن التنازل عنها، والمهم في هذا الإطار هو أن تكون سياسيا وفيّا وحاكما وإنسانا متمسكا بهذه القيمة في خط حياتك ومسيرتك.
يذكِّرنا سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي في كتاب (السياسة من واقع الإسلام) بقصة أخرى فيقول: (وذكروا: أنّه جاء وفد من قبل النجاشي إلى رسول الله صلی الله عليه وآله فأضافهم، وأكرمهم، واحترمهم.. وقام النبي صلی الله عليه وآله يحضر لهم بعض الحاجات بنفسه الكريمة. فقال لـه بعض الأصحاب: نحن نكفيك ذلك. فقال صلی الله عليه و آله: إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم).
تُرى هل يخدم أحد السلاطين اليوم في العالم كله ضيوفه بنفسه.. ولِمَ يصرّ الرسول (ص) وهو أعلى قائد في السلطة على تقديم الخدمة للضيوف بنفسه.. ان المسالة تعود الى مبدأ الوفاء لا أكثر.
وكذا بالنسبة لقراره (ص) بعدم البقاء في مكة.. حتى انه لم يبتْ فيها ليلة واحدة فعاد مع الذين وفوا له ووقفوا معه فقابلهم بالوفاء الذي يستحقون.
وها هي حكاية أخرى نقرأ تفاصيلها على لسان سماحة السيد صادق الشيرازي: (لما فتح الله تعالى لرسوله الكريم صلی الله عليه وآله مكّة المكرّمة لم يبق فيها ويترك الأنصار يعودون إلى المدينة لوحدهم، بل أمّر على مكّة بعض أصحابه، وقفل راجعاً إلى المدينة بصحبة الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وآووه ونصروه. وبالرغم من أن مكّة كانت مسقط رأسه الشريف، وبلده الذي قضى فيه أكثر من خمسين عاماً، وبلد آبائه، وفيها الكعبة، وأضرحة آبائه وأجداده وآثارهم، وآثار الأنبياء السابقين من آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل عليهم السلام وغيرهم. كل ذلك وفاءً للأنصار. وقال: اليوم بر ووفاء).
هذا النموذج في سياسة الوفاء لن يتوافر في عالمنا الآن.. بعضهم يرى بالأخص الغربيون محال أن تجتمع السياسة بالوفاء.. حتى في تفاصيل الحياة الاعتيادية يرون أن سياسة الإنسان تحكمها المصلحة وليس الوفاء.. أما الرسول (ص) فطبّق الوفاء في أدقّ وأصعب المواقف على صعيد السياسة أو القضايا الشخصية.. وهذا درس لكل سياسي من المسلمين فالوفاء قيمة ومبدأ وسلوك وسياسة تحجز للحاكم مكانا في قلوب الأمة.
اضف تعليق