الصبر من سمات المؤمنين الأفذاذ، أولئك الذين وضعوا أسس الفضيلة، وثبتوا على المبادئ رغما على المصاعب وواجهوا الظالمين والطغاة وشتى الاصناف، ممن وقفوا ضد الانسانية، فعندما قام أهل قريش ومكة بمخاربة النبي الأكرم (ص) وأتباعه من الخلص المهاجرين والانصار، لم يدّخر هؤلاء شيئا من التعذيب والاذى الذي ألحقوه بالنبي (ص) وأصحابه، وعندما تمكن المسلمون منهم في عقر دارهم،عفا عنهم النبي (ص)، وقال لهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فالعفو هو منهج الرسول الكريم (ص) وهو منهج الشيعة والرجال الثابتين على الحق، متمثلا بمنهج الرسول (ص) ومنهج امير المؤمنين (ع).
ولم يكن هذا المنهج وليد الصدفة او المزاج، بل جذوره تمتد عميقا في النفس البشرية المعطاء، وقد تمكن قائد المسلمين الرسول الأكرم (ص)، بهذا المنهج وفق اسلوب العفو ان يحقق أعظم الانتصارات ويبني أعظم دولة في وقتها، فقد كسب قلوب الرجال وتأييدهم، وصنع منهم أمة سباقة للخير والثبات عليه، فكان العفو منهجا لقادة المسلمين من مؤيدي وأتباع الرسول الاكرم (ص) وأمير المؤمنين (ع).
ورد في كلمة وجهها سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، الى المسلمين: (اعملوا ان الثبات هو شعار الشيعة في التاريخ، كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ). وكان ذلك شعار رسول الله وأمير المؤمنين وخطّهما صلوات الله عليهما وآلهما في طول التاريخ. وكان شعارهما صلوات الله عليهما وآلهما، أيضاً، هو: ملكنا فكان العفو منّا سجيّة فلما ملكتم سال بالدم أبطح).
هكذا كان المسلمون من أصحاب الرسول (ص) والامام علي (ع)، في فكرهم وعقيدتهم وسلوكهم، فالعفو سجية أصيلة من سجاياهم، وقد تعلّم الامام علي (ع) في مدرسة الرسول (ص) منهج القيادة والتعامل الانساني الكريم، لاسيما عندما يكون التعامل مع الآخر وهو في حالة ضعف وهزيمة، حينذاك يكون العفو اسلوبا في التعامل مع المهزوم، وهو الاسلوب الناجع لكسب الأعداء، ومنحهم فرصة التصحيح والالتحاق بركب الصالحين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في كلمته المذكورة أيضا: (كان خطّ رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما هو العفو. فقد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه، بعد حرب الجمل (مننت عليهم كما منّ رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل مكّة). أي انه صلوات الله عليه لم يقتل أحد بعد الحرب، سواء من الذين أجّجوا الحرب ضد أمير المؤمنين صلوات الله عليهم وغيرهم، ولم يعذّب أحداً، ولم يقتل أحداً منهم، ولم يسجن أحداً منهم.
خط التحديات في اطار الفضيلة
يعترف أعداء الشيعة قبل أصدقائهم، بأن مكانهم الدائم هو موقع المواجهة والتحدي والثبات، فهم لا يترددون من مواجهة الخطر، ولا يتهيبون موقع الظالمين والحكام الطغاة، وهم المشهورين بمواقفهم الرافضة للاستبداد والإذلال، ولطالما قدموا الدماء والارواح والغالي والنفيس من أجل رفعة الامة والاسلام والموقف الرجولي البطولي، أما الآخرون فموقفهم هو التخاذل والتملق والخداع والرياء.
وهذا الكلام والآراء لها ما يدعمها من الشواهد والمواقف المسندة، فالتاريخ يتحدث عن بطولات الشيعة عبر تاريخهم الطويل، ويتحدث عن مواقف العفو التي قدموها لألدّ أعدائهم، فلم تكن القسوة والجفوة والجلف من طباعهم، بل على العكس من ذلك، كان العفو ومحاولة كسب الاخر وإقناعة ومنحه الأمام في صدارة سلوك الشيعة عبر التاريخ.
نجد مثل هذه المواقف في قول سماحة المرجع الشيرازي: (أحد الكبّار من فقهاء الشيعة وهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء رضوان الله تعالى عليه، قال اعلموا ان خطّ الشيعة وخطّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه هو خطّ التحدّيات وخطّ الثبات في إطار الفضيلة، أما خطّ غيرهم فهو خطّ المظالم وخطّ السجون وخطّ المعتقلات والتعذيب والقتل والحرق وخطّ المشكلات).
لقد ثبت بصورة قاطعة أن المنهج الانساني القيادي الذي انتهجه الرسول الكريم (ص)، مع أعداء المسلمين عبر الرحلة الطويلة لنشر الرسالة الاسلامية، هو الاسلوب الصحيح والمنهج السليم في التعامل مع الجميع بمن في ذلك أعداء المسلمين، ولابد أن يتعلم الشيعة اليوم هذا المنهج، وأن يعتمدوه في حياتهم اليومية، فهناك شيعة متعلمون وقادة وهم مطالبون بقوة أن ينشروا اسلوب العفو ومنهج الرسول الكريم (ص) في التعامل مع الكل، من اجل كسبهم الى جانب الاسلام الصحيح وليس اسلام الارهابيين والمستبدين والظالمين الذين أساءوا للاسلام بسلوكهم المسيء.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: إن (شيعة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، اليوم، ولله الحمد، منتشرون في العالم، في القارّات الخمس، بالملايين. وفي الشيعة الألوف المؤلّفة من العلماء والمفكّرين والخطباء والدكاترة والمهندسين، وهؤلاء اليوم بحاجة إلى انتهاج منهج رسول الله ومنهج أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما في كل مكان من العالم).
احتواء الشباب وتوجيههم
إن منهج العفو يحتاج الى الصبر، لاسيما من الشباب الذي قد يكون متسرعا اكثر من الكبار، لذلك ينبغي توجيه الشباب الى هذه النقطة المهمة، اذ ينبغي أن يكون هناك نوع من الجلد ازاء الاخرين، وينبغي أن يكون هناك اهتمام كبير بالشباب وتوضيح الامور لهم بالصورة الصحيحة، فلا يصح زرع الاحقاد والضغينة في نفوسهم، وينبغي تربيتهم على القيادة التي تنتهج منهج الرسول الأكرم (ص)، بعيدا عن الظلم والاستبداد.
كما يؤكد على ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله الواضح: (على الكبار من الشيعة أن يحتووا الشباب ويتحمّلونهم ويوجّهونهم، حتى يكون عالم المستقبل عالماً مبنياً كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله، أي يكون عالماً بلا قتيل سياسي وبلا سجين سياسي وبلا تعذيب).
فلا يجوز في حكم الشيعة والمسلمين عموما، أن يكون هناك سجينا سياسيا واحدا، ولا مظلوما ولا ينبغي أن تصادر آراء الناس وافكارهم وحرياتهم، مثلما يتوجب على القادة حماية حقوق الناس ومصالحهم وليس العكس، أي لا يجوز أن يهتم القادة بأنفسهم وذويهم والمقربين منهم ويهتمون بأنفسهم، ويتركون الآخرين نهبا للظلم والقهر والاذلال.
لذلك على الشيعة كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي أن يثبتوا للعالم أجمع بأنهم الورثة الشرعيين لمنهج الرسول الأكرم (ص) ومنهج الامام علي (ع)، في ادارة الحكم، والتعامل مع افراد الامة ومع الاعداء وفق سياسة العفو ومنح الفرصة تلو الاخرى لمن يريد العودة الى صف المسلمين والى الجادة الصواب.
كل هذا ينبغي أن يتم باسلوب الصبر والثبات على الحق وعدم التسرع في اتخاذ القرار، والابتعاد عن كل الاساليب التي تؤدي الى ظلم الناس، وهذا الاسلوب لا يمكن أن يتحقق بين ليلة وضحاها، انما يستدعي تدريبا وصبرا وارادة حديدية للمضي قُدُما في منهج الرسول (ص) ومنهج امير المؤمنين (ع)، وينبغي عليهم أن يتعاملوا بصبر لمواجهة أعتى المشكلات.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: إن (الشيعة بحاجة إلى أن يبيّنوا للعالم أنهم أبطال التحدّيات ورجال الفضيلة. وبحاجة إلى أن يكونوا متّحدين، ولا يخضعوا ولا يركعوا لأيّة مشكلة، وفي الوقت نفسه لا يخرجوا عن إطار الفضيلة، ولا يظلموا أحداً بشيء).
اضف تعليق