لا يستهدف الشيطان ذنوب الإنسان الظاهرة، فهو يسعى لكي يغوي الإنسان أكثر فأكثر من خلال مناغاة ذنوبه الباطنية، حتى يعمقها أكثر فأكثر، فيجعل من الإنسان غافلا عن ذنوبه، مسرفا فيها، تائها في غروره، وسابحا في خطاياه، لأن الشيطان سعى في تخريب باطن الإنسان وتشويه جوهره الجيد...
يكاد أن يشكل كتلة هائلة من الخبث والخديعة، ذلك هو الشيطان الذي يرافق الإنسان مثل ظله، وهذا الطاقة الخبيثة التي يمتلكها الشيطان، تجعله يتسلل إلى ذهنية الإنسان حتى وهو في صلاته، فيثنيه عن الانقطاع لله تعالى، ويغريه بألاعيب وحبائل لا أول لها ولا آخر.
فكم يحتاج هذا الإنسان من جهود ومن إرادة فولاذية، ومن إيمان عظيم متجذّر ومسلح بالتقوى والورع، حتى يحمي نفسه وقلبه من مغريات الشيطان ومكائده الخبيثة؟
حتما يحتاج العابد النصوح إلى طاقة إيمانية هائلة تجعل بينه وبين الشيطان حاجزا لا يمكنه التسلل منه، ولا يعثر فيه على ثغرة، حتى لا يعبر إلى قلب وعقل الإنسان، ولكن مع هذا كله، تبقى محاولات الشيطان مستمرة، فهو لا يُصاب باليأس، ويكرر مكائده مرة واثنتين وثلاثا وعشرا ومئة وألفًا وأكثر، حتى يطيح بأكبر القلوب إيمانا وأقواها حجةً، وهذا يعني أن الجميع معرّضون للإصابة بالعجب والغرور حتى في صلاتهم وعباداتهم.
وهكذا يستهدف الشيطان الإنسان في عبادته، ويطلق عليه مكائده حتى تذوب الحدود بين العبادة والعجب والغرور، وبهذه الحالة نلاحظ هذا الإنسان يصبح مغرورا حتى في عبادته، فأية قدرة هائلة يمتلكها الشيطان ليطيح بالإنسان؟
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ ( يا أبا ذر):
(من مؤامرات الشيطان ومكائده أنّه يستهدف عبادة ابن آدم ليمزج معها العجب والغرور، بمعنى أنّه قد لا يوسوس للعابد ـ في بعض المرّات ـ بارتكاب هذا الذنب أو ذاك، وإنّما يقصد العبادة بحدّ ذاتها ليصيبها في الصميم، ويأتي على إيمان الإنسان ويهدمه من أسسه).
لذا يجب أن يحذر العابد، حتى لو كان واثقا من نفسه، ومتأكدا من أدائه، ومتمسكا بإيمانه، فالشيطان الخبيث يبقى يحاول مرارا وتكرارا، متخفيا بخبثه ومؤامراته ودسائسه وخديعته لكي يطيح بالإنسان حتى أثناء عبادته، لهذا يجب الحذر كل الحذر من الغرور أثناء العبادة.
الشكر يعجز عن مجاراة الحق الإلهي
على الإنسان أن يسلم بحقيقة ساطعة سطوع الشمس بأن الله تعالى كبير بما يثبت العقل والعلم عن وصفه، فكيف يمكن للإنسان أن يؤدي لله تعالى ما يستحق عبادةُ وشكرا، فإنْ تمسك العابد بهذه الحقائق المهمة، وآمن بأنه أعجز من أن يفي الله تعالى حق عبادته، لكان هذا أفضل له، حتى يكون أكثر حذرا من الغرور ويحمي نفسه من دسائس الشيطان.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(لا ينبغي الاغترار بالعبادة، لاسيّما وأنّ حقّ الله تعالى كبير إلى حدّ يعجز فيه العقل عن حدّه والعلم عن وصفه؛ مهما عظما واتسعا، كما تعجز كلّ عبادة وكلّ شكر عن مجاراة عظيم حقّ الله تعالى أو الدنوّ منه).
من هنا على الإنسان أن لا يتوقع بلوغ المرتبة العبادية التي تتسق ومقام الربوبية الأجلّ، وإذا تمكن من الحصول على هذا الشعور، مؤمنا صادقا، فإنه سوف يكون في منأى عن الإصابة بالعُجب، وهو أخطر وأقصر طرق الشيطان إلى عقل الإنسان.
نعم هنالك عابدون عبدوا الله وتقبّل تعالى عباداتهم، ومنهم الأنبياء والصالحين، ولكن الله تعالى ليس بحاجة لعباداتهم حين قبلها منهم، لهذا على الإنسان أن يفهم دائما، بأنه حتى لو قدم أقصى ما يمكنه من العبادات، فهو يبقى بحاجة إلى درء خطر الغرور عن نفسه وعقله وتفكيره.
هذا ما يقرّهُ سماحة المرجع الشيرازي دام ظله حين يقول:
(كذلك شأن العبادة، فمهما بدت لصاحبها متكاملة إلا أنّها غير لائقة على سبيل الحتم بمقام الربوبيّة الأجلّ الأقدس، هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الله سبحانه وتعالى قد قبل عبادات الأنبياء والصالحين وكثير من العباد، وهو غير محتاج لهم أو لعباداتهم).
هناك مشكلة يعاني منها الناس أو معظم العابدين، إنهم يعرفون الله تعالى وحدوده وعبادته الحقة عندما تكون الموعظة حاضرة معهم، ولكن ما أن يبتعدوا عن مصدر هذه الموعظة، ينسون أنفسهم، ويصبحون هدفا للشيطان، فيلتف بحبائله حولهم، وتحيط مكائده بهم، فيكونوا بحاجة فورية لموعظة جديدة تنقذهم من خديعة الشيطان وخبثه.
هكذا على العابد أن يكون متنبّها حذرا واعيا، لألاعيب الشيطان، لأن السهو والغفلة ستجعله هدفا للغرور، وبالتالي سيكون هدفا للشيطان، فينحرف، ويغوص في المحرمات، ولا يصحو على نفسه إلا بعد أن تنقذه المواعظ، وهكذا تتكرر دورة الصراع بين الإنسان والشيطان، لذا عليه أن يبقى في حالة وعي وحذر مستمر، وأن يقضي تماما على الغرور.
يشدد سماحة المرجع الشيرازي على هذه الحالة التي تصيب الناس فيشعر بالأسف قائلا:
(لكن لشديد الأسف نرى الشيطان لا يسمح للناس بالتنبّه والالتفات، فهم يتذكّرون ربّهم عند سماعهم موعظة واحدة، ولكن ما إن ينقضي عنهم وقت ليس بالكثير حتى تراهم ينحرفون عن جادة الحقّ، ويعودون بأمسّ الحاجة إلى موعظة أخرى تعيدهم إلى الصواب).
الإنسان بين ذنوبه الظاهرية والباطنية
من القضايا التي قد تغيب عن فهم الإنسان، نوعية الذنوب التي قد يرتكبها البشر عن عمد أو من دون قصد، فالذنوب أنواع، منها ظاهرة وأخرى باطنية غير مرئية، الشيطان يستغل جميع أنواع ذنوب الإنسان لكي يطيح به، ولكنه بسبب خبثه الشديد يستهدف الذنوب الباطنية للإنسان ويعمقها بسبب طبيعته الخبيثة الخدّاعة.
وهكذا لا يستهدف الشيطان ذنوب الإنسان الظاهرة، فهو يسعى لكي يغوي الإنسان أكثر فأكثر من خلال مناغاة ذنوبه الباطنية، حتى يعمقها أكثر فأكثر، فيجعل من الإنسان غافلا عن ذنوبه، مسرفا فيها، تائها في غروره، وسابحا في خطاياه، لأن الشيطان سعى في تخريب باطن الإنسان وتشويه جوهره الجيد.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يقول عن هذه النقطة بالذات:
(إنّ غواية إبليس لا تختصّ بذنوب الإنسان الظاهريّة فحسب، لأنّ لمؤامراته ومكائده فيما يخصّ الذنوب الخفية والباطنية فاعلية أكبر، لذلك تراه يحرص أكثر ما يحرص على إفساد وتخريب باطن الإنسان وجوهره).
لذا يجب أن لا يُسمَح للشيطان أن يتسلل إلى جوهر الإنسان، وذلك من خلال ذهنية الإنسان التي وهبها الله تعالى له، فبإمكان كل إنسان من خلال عقليته المتميزة، وذهنيته المتوقدة، أن يغلق الأبواب والنوافذ والثغرات التي يحاول الشيطان أن يدخل منها إليه، فهو صاحب ذهنية جعلته ذا شخصية مهمة جدا للكثير من الناس الذي يحتاجونه.
إذًا عليه أن يستخدم هذه الذهنية المتوقدة التي يمتلكها بالطريقة الصحيحة، ويُبعد الشيطان عنه، ولا يستسلم للعُجب حتى لو كان يستحق ذلك، لأن الإنسان إذا نظر لنفسه نظرة تفرد وغرور سقط فورا في براثن الشيطان، من هنا عليه الحذر الشديد.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يحذّر من هذه الغفلة فيقول: على الإنسان (أن يدرك بأنّ ذهنيتّة إنّما هي نعمة ربانيّة قد منحت له من الله تعالى بلا مقابل. وبهذه الذهنيّة التي وهبها الله إيّاه استطاع أن يكون محطّ حاجة الناس، ولكنه بدلاً من أن يلبّي للناس حاجاتهم العلمية والثقافية، تراه ممتلئاً غروراً وعجباً، وهذا من حبائل الشيطان).
إنها خطوات واضحة حقا، على الإنسان أن يتمسك بها، على الرغم من صعوبتها، لكي يحمي عقله، ونفسه، وقلبه من الوقوع فريسة لمكائد الشيطان، في عالم أو دنيا تغص بالمغريات والمحرمات والانحرافات، مما يتطلب نباهة دائمة ومستمرة، وحذر لا يتضاءل مطلقا، وصولا إلى غلق الأبواب الذاتية أمام العدو اللدود للإنسان.
اضف تعليق