q

تعد القيم الاجتماعية التي تعتمد على معيار التعايش السلمي وقبول الاخر (بغض النظر عن جنسه او العرق الذي ينتمي اليه او الديانة التي يتعبد بها) داخل المجتمعات الاوربية، من اهم الموازين الاجتماعية التي دأبت اوربا في اعتمادها وترسيخها كواحد من القيم الأساسية التي ساهمت بشكل مباشر في تطور الغرب عموما واوربا تحديدا، بعد الصعوبات والصراعات التي شهدتها الدول الاوربية في السابق، وأدت الى حروب مدمرة وصراعات طاحنة استنزفت مواردها البشرية والاقتصادية بشكل كبير، وغالبا ما شكل الدول الاوربية الواجهة المفضلة للمهاجرين الهاربين من بلدانهم لأسباب سياسية او اقتصادية اجتماعية، كما تنامت اعداد الجاليات (التي أصبح تعدادها في بعض البلدان الاوربية بالملايين) من مختلف الأعراق والأديان بشكل مضطرد بعد ان رحبت الكثير من الحكومات الاوربية بالهجرة لما لها من فوائد ومردودات إيجابية على الدول المستقطبة للهجرات، الا ان العديد من المؤشرات التي سجلت على مدى العامين الماضيين عكست اختلافا واضحا في سياسية الهجرة التي تحولت الى كابوس بالنسبة للمواطنين في هذه الدول الاوربية خصوصا مع تنامي التطرف والإرهاب الذي بات يهدد امن المواطنين الاوربيين داخل بلدانهم.

فقد شكل انضمام مئات المتطرفين من الغرب (جلهم من المسلمين المهاجرين) الى تنظيم ما يعرف (الدولة الإسلامية/ داعش) من مختلف الدول الاوربية (خصوصا من المانيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا وبلجيكا...الخ)، الى القتال في سوريا والعراق، صدمة كبيرة لدى هذه المجتمعات، فيما عبر خبراء وعلماء اجتماع عن خيبة أملهم في فشل السياسيات الاجتماعية بدمج المهاجرين داخل هذه المجتمعات، بعد ان تم عزلهم بدوائر خاصة عانت في الغالب الفقر والتهميش، الامر الذي ساعد على ظهور الميل للتطرف والاستعداد للقيام بأعمال إرهابية.

وفي ردة فعل غير مسبوقة، خرجت العديد من المظاهرات المناهضة للهجرة، وتحديدا، لهجرة المسلمين الى بلدانهم، في المانيا، التي تعتبر واحدة من اقوى القلاع الديمقراطية في اوربا، (بعد ان مرت بتجربة النازية الفاشلة وما خلفته من حرب عالمية ثانية مدمرة)، الأمر الذي قد يشكل علامة فارقة في مستقبل المسلمين (الذين باتوا يتعرضون لمضايقات مستمرة ومتنامية من قبل اوربيين مناهضين للمسلمين في عدد من دول اوربا) في اوربا من جهة، وعلاقة الغرب بالإسلام من جهة ثانية، خصوصا وان تنامي جو العداء بين المسلمين وغيرهم قد يسهل مهمة التنظيمات الإرهابية في خلق أجواء عدائية تشجع للقيام بالمزيد من الاعتداءات والعنف بين الطرفين، بحسب ما يراه خبراء، فيما يرى اخرون، ضرورة السيطرة على المظاهرات المناهضة للمسلمين في المانيا، وكبح جماح التطرف، او النظر الى كل المسلمين على انهم ارهابيون، وهي مهمة قد تبدو صعبة في ظل تنامي العداء للمسلمين ورفض اسلمة الغرب، والتي انطلقت شرارتها الأولى من المانيا وربما لن تتوقف من دون ان تشمل اوربا بأكملها.

المانيا في ورطة

 

في سياق متصل تواجه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تحديات من حلفاء ومنافسين على حد سواء لمجابهة موجة من المشاعر المناهضة للهجرة التي تتسبب بدورها وبصورة متزايدة في خروج مسيرات شعبية معادية للاسلام في مدينة دريسدن كل يوم اثنين، ومع توقع خروج الآلاف في المسيرة المقبلة تواجه ميركل ورطة فيما يحذر مسؤولو الأمن بالبلاد من تزايد جرائم الكراهية في وقت تبين فيه نتائج استطلاعات الرأي تأييدا لمطالب المتظاهرين بتشديد سياسات الهجرة في ألمانيا، وقال قائد الشرطة هولجر مونش لصحيفة فيلت ام زونتاج التي ركزت مثلها مثل معظم صحف في ألمانيا على مسيرة يوم الاثنين التي تنظمها جماعة تطلق على نفسها اسم (الأوروبيون الوطنيون ضد أسلمة الغرب) "ثمة تزايد ملحوظ في جرائم كراهية الأجانب في شتى أرجاء البلاد"، وتصاعدت هذا العام موجة من المشاعر المناهضة للمسلمين وايضا تلك المعادية للسامية حيث انضم اليمينيون الى عناصر مثيري الشغب في ملاعب كرة القدم لمحاربة المسلمين السلفيين وسلسلة من الهجمات على اليهود، في الوقت ذاته أصبحت ألمانيا (ذات مستويات الهجرة القياسية) أكبر دولة في اوروبا من حيث استقبال طالبي اللجوء.

وقالت ميركل "لا مجال في ألمانيا" لكراهية المسلمين أو أي أقلية أخرى، إلا ان حلفاء حزبها الديمقراطي الاشتراكي في الائتلاف الحاكم وحزب الخضر المعارض وأيضا حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف المعادي للوحدة الاوروبية يبدو أنهم قد اقتنصوا الفرصة لتقويض المستشارة التي تحظى بشعبية والتي بلغت نسبة قبولها 76 في المئة في استطلاع اجري لحساب صحيفة بيلد ام زونتاج، وتحدى الحزب الديمقراطي الاشتراكي (الذي اشتعل غضبا من تصريحات قالت فيها ميركل بأنه اعلن الافلاس السياسي من خلال تحالفه مع الشيوعيين السابقين في ولاية شرقية) المستشارة الالمانية أن ترد على ما سماه توماس اوبرمان النائب البرلماني بالحزب "ما قد تصبح أضخم قضية في العقد المقبل"، وطالبها جيم اوزديمير زعيم الخضر الذي سينضم الى احتجاج مضاد في دريسدن "بأن تعترف بوضوح بان ألمانيا دولة للمهاجرين وأنها تستفيد منهم"، وفي حقيقة الامر فان ميركل دابت على القول إن بلادها في حاجة لمزيد من المهاجرين لدعم القوى العاملة في البلاد، وامتدت هذه الاحتجاجات بالفعل الى مدن الى الغرب مثل دوسلدورف التي تحتفظ بعدد أكبر من المهاجرين بالنسبة الى دريسدن، وقال وزير الداخلية الالماني توماس دي مايتسيره إن بلاده لا تواجه مخاطر بشأن "اسلمتها". بحسب رويترز.

وشارك عدد قياسي بلغ 15 ألف شخص في تظاهرة الاثنين في مدينة دريسدن شرق ألمانيا ضد "طالبي اللجوء المجرمين" و"أسلمة" البلاد، وسط تزايد نشاط اليمين المتطرف في البلاد، وتعد هذه التظاهرة التاسعة التي تجري في المدينة في ما يسمى ب"تظاهرات الاثنين" التي تنظمها جماعة "أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب" (بيغيدا)، وهتف المتظاهرون "نحن الشعب" وهي العبارة التي هتف بها المتظاهرون المنادون بالديمقراطية في ألمانيا الشرقية قبل ربع قرن في هذه المدينة قبل سقوط جدار برلين، ويهمين على حركة "بيغيدا" المواطنون العاديون إلا أنها تحظى بدعم النازيين الجدد ومشاغبي كرة القدم اليمينيين المتطرفين، وفي وقت سابق دانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل الاحتجاجات وحذرت الألمان من "استغلال" المتطرفين لهم، وقالت إن حق التظاهر لا يصل إلى مستوى "إثارة المشاكل والتشهير" ضد الأجانب، ولوح العديد من المتظاهرين بالعلم القومي الأسود والأحمر والذهبي، بينما حمل متظاهر صليبا بنفس الألوان، فيما حمل آخرون لافتات كتب عليها "استيقظوا"، و"لن نخدع مرة أخرى" و"نحن مواطنون ناضجون ولسنا عبيدا".

وقال أحد المتظاهرين ويدعى مايكل ستورزنبرغر "إن 70 بالمئة من طالبي اللجوء السياسي هنا هم لاجئون اقتصاديون، لا نريد أن نبقى صامتين حول هذا الوضع بعد الآن"، وأضاف "لا نريد سيلا من طالبي اللجوء، لا نريد الأسلمة، نريد أن نحافظ على بلادنا وقيمنا، هل هذا أمر فظيع؟ هل ذلك يجعلنا نازيين؟ هل هي جريمة أن أكون وطنيا؟"، وانتشر مئات من عناصر شرطة مكافحة الشغب لمراقبة التظاهرة إضافة إلى تظاهرة أخرى مضادة تحت شعار "دريسدن خالية من النازيين" و"دريسدن للجميع"، التي نظمتها جماعات مدنية وسياسية وكنسية وشارك فيها نحو 6000 شخص، وأظهر استطلاع أجراه موقع زيت على الإنترنت أن نحو نصف الألمان (49%) يتعاطفون مع مخاوف "بيغيدا"، بينما قال 30% أنهم يدعمون أهداف المتظاهرين "بالكامل"، وقال 73% من الألمان إنهم قلقون من أن "الإسلام المتطرف" ينتشر، بينما قال 59% إن ألمانيا قبلت عددا كبيرا من طالبي اللجوء، وصرح وزير العدل هيكو ماس أن المسيرات "تجلب العار" على البلاد، وأن ألمانيا تشهد "تصعيدا في التحريض على المهاجرين واللاجئين وهو الأمر الذي وصفه بأنه بغيض ومقيت"، وحذر زعيم المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا أمين مازييك من أن حركة "بيغيدا" يمكن أن تؤدي إلى انقسام المجتمع الألماني وان استخدامها لشعار "نحن الشعب" يهدف إلى "تفريقنا إلى أنتم المسلمون السيئون ونحن الألمان الجيدون".

تهديدات حول المهاجرين

فيما قالت مصادر في الحكومة النمساوية إن وزيرة الداخلية تلقت تهديدات بالقتل لسماحها باستقبال لاجئين في البلاد وسط نقاش محتدم بشأن حقوق وواجبات المسلمين والمهاجرين في المجتمع ذي الاغلبية الكاثوليكية، وقالت مصادر في وزارة الداخلية إن الوزارة وإذاعة أو.آر.إف. تلقتا رسالتين جاء فيهما إنه يتعين قتل وزيرة الداخلية يوهانا ميكل-ليتنر و50 سياسيا آخر من الائتلاف الحاكم وحزب الخضر المعارض إذا ما اتخذت الوزيرة قرارا بادخال مزيد من اللاجئين إلى البلاد، وأوردت الاحصاءات الرسمية أن النمسا (التي يسكنها نحو 8.5 مليون نسمة) تلقت نحو 17500 طلب لجوء عام 2013 معظمها من روسيا وأفغانستان وسوريا، ونشبت الخلافات بين الحكومة الاتحادية والسياسيين المحليين بشأن رفض عدد من المقاطعات استقبال الحصة المحددة لكل مقاطعة من اللاجئين. بحسب رويترز.

وقال متحدثة باسم الادعاء العام في فيينا إنهم فتحوا تحقيقا في هذه القضية رافضة الافصاح عن طبيعة التهديدات التي تلقتها ميكل-ليتنر وهي عضو في حزب الشعب المحافظ الذي يحكم في إطار ائتلاف مع الديمقراطيين الاجتماعيين من اليسار الوسط، وتأتي هذه التهديدات في ظل استطلاعات للرأي تظهر أن حزب الحرية اليميني المتشدد بات يحصد دعما مساويا للأحزاب الوسطية مجتذبا نحو ثلث الأصوات بسبب برنامجه المناهض للهجرة، وقبل ثلاثة أسابيع اقترحت الحكومة النمساوية مشروع قانون لحظر التمويل الأجنبي للمؤسسات الاسلامية والضغط لوضع نسخة موحدة لترجمة القرآن باللغة الألمانية في مسعى يهدف جزئيا إلى مواجهة التطرف الإسلامي، ويشك مسؤولون نمساويون أن يكون نحو 150 شخصا من النمسا انضموا إلى الجهاديين الاسلاميين الذي يحاربون في الشرق الأوسط.

تخفيف حدة العداء

الى ذلك دشن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند متحفا مخصصا للهجرة، ويفترض ان يشيد بهذه المناسبة بفوائد هذه الظاهرة، في ظرف تتنامى فيه في اوروبا وفرنسا تيارات انغلاق معادية للأجانب، ويأتي التدشين لمتحف تاريخ الهجرة بعد صعوبات رقلته بسبب المشاكل، التي يثيرها هذا الموضوع في المجتمع الفرنسي، اذ ان مبدأ بنائه تحدد خلال تسعينيات القرن الماضي، لكن لم يتم افتتاحه الا في 2007، ثم جاء تدشينه في 2014، والهجرة موضوع معهود في الساحة السياسية الفرنسية منذ نهاية سنوات النمو بعد الحرب العالمية الثانية، اذ يركز عليه اليمين المتطرف والجبهة الوطنية، اللذين اصبحا يتصدران نوايا الاقتراع في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2017 على ما تفيد الاستطلاعات، بشكل خاص، وقال مساعد زعيمة الجبهة الوطنية فلوريان فيليبو ان "بدلا من تدشين متحف الهجرة، يجدر بفرنسوا هولاند ان يكافح الهجرة، التي تعتبر معضلة هائلة، اقتصادية واجتماعية وثقافية"، وتعد فرنسا 11% من المهاجرين، وفق الامم المتحدة، لكن المهاجرين غير القانونين يشكلون هاجسًا، وغالبا ما يتعرض الجيل الثاني من المهاجرين الى المضايقات، واوضح مصدر مقرب من الرئيس ان البلاد ارض هجرة، و"لا تزال كذلك، هجرة متواصلة مرتبطة بالعمل والتاريخ"، واضاف ان "نجاح اندماج المهاجرين جزء من مصيرنا الوطني"، وهذا النجاح يقتضي ايضا "الاعتراف بذلك التاريخ".

غير ان بعض الخبراء يرون ان هذا التدشين جاء متأخرا، وقال الان جاكوبوفتش رئيس الرابطة الدولية ضد العنصرية ومعاداة السامية (ليكرا) معبّرا عن القلق من اجواء "الانحطاط" السائدة في البلاد، "كنا ننتظر خطابا مهما الى الامة غداة الانتخابات (2012)، على غرار ما فعل اوباما، حول الافتخار بالانتماء الى فرنسا"، يأتي خطاب الرئيس الفرنسي بعد اسبوع من اعلان الحكومة انها جعلت من مكافحة العنصرية ومعاداة السامية "قضية وطنية" اثر اعتداء على زوجين يهوديين في احدى ضواحي باريس اثار صدمة في فرنسا، في هذا السياق يفترض ان يشكل تدشين المتحف "مبادرة قوية جدا" كما يرى مديره العام لوك غروسون، وتأتي المبادرة عشية مصادقة الجمعية الوطنية على اصلاح لقانون اللجوء يهدف خصوصا الى الحد من مهلة النظر في مطالب اللجوء، وتعرضت الحكومة الاشتراكية خلال النقاش الى انتقادات شديدة من المعارضة اليمينية حول هذا الموضوع، ويرتقب النظر في مشروع قانون ثان حول الهجرة في الربيع المقبل، وان يدافع رئيس الوزراء مانويل فالس عن مشروع ينص خصوصا على انشاء بطاقة اقامة لسنوات عدة، ويتعين عليه البحث عن تسويات مع التيار اليساري في حزبه، الذي يريد سياسة توافقية اكثر، ومع اليمين الذي يطالب بمزيد من الصرامة.

وقد فشلت مسألة منح الاجانب حق التصويت في الانتخابات المحلية، وهو ما كان قياديون يسارون يريدون اعادته الى الواجهة، وهي تحتاج تعديلا دستوريا، ولا يتمتع الرئيس بالغالبية المطلوبة في البرلمان للمصادقة عليها، ولا تنفرد فرنسا بظاهرة الانطواء على النفس وسط الازمة الاقتصادية القائمة، فتشهد ألمانيا التي تعتبر الوجهة الرئيسة التي يقصدها المهاجرون في اوروبا، والتي اشتد فيها الجدل حول تنامي حركة معادية للمسلمين، خلال الاشهر الاخيرة تصاعد موجة شعبوية تضاعفت فيها الاعمال المناهضة للأجانب، وفي مقال نشرته صحيفة غارديان البريطانية دعا الرئيس الجديد للمفوضية الاوروبية جون كلود يونكر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الى الكف عن التهجم على العمال المهاجرين، وقال "يجب الكف، لا سيما في المملكة المتحدة عن هذه الممارسة التي تتمثل في التمييز ضد البلدان الاخرى، لمجرد ان ذلك يبدو امرا جيدا في الداخل، يجب التوقف عن مهاجمة الاخرين"، من جانبها تستعد اسبانيا للمصادقة على اجراءات جديدة تسمح بترحيل الاشخاص، الذين يحاولون التسلل عبر الحواجز الحدودية المحيطة بمنطقتي سبتة ومليلية الاسبانيتين في المغرب، واعربت منظمة العفو الدولية والمفوضية العليا للاجئين عن قلقهما من ذلك، لكن وزير الداخلية خورخي فرناندث دياث (يمين) اصر على هذه الاجراءات، منددا "بنفاق" شمال اوروبا، الذي لا يملك فرص عمل اكثر من الجنوب يمنحها لاولئك المهاجرين.

اضف تعليق