يُدرك رجل ألمانيا القوي الجديد أنّه لا يمكن لبلاده أن تبقى لفترة طويلة من دون حكومة في مواجهة التقلّبات الاقتصادية والجيوسياسية الحالية والتي تتمثّل في المواقف الصادرة عن الرئيس الأميركي بشأن حرب أوكرانيا والمخاوف من التحالف عبر الأطلسي والتهديدات الأميركية بزيادة الرسوم الجمركية، فضلا عن الأزمة التي يواجهها النموذج الاقتصادي...
بدأ زعيم المحافظين الألمان فريدريش ميرتس، الفائز في الانتخابات بفارق أقل من المتوقع، مفاوضات شاقة لتشكيل حكومة ينتظرها الأوروبيون لتكون قوة دفع في مواجهة دونالد ترامب وروسيا.
ولكي يتمكّن من الحصول على أغلبية، يسعى زعيم الاتحاد الديموقراطي المسيحي في المقام الأول لتشكيل ائتلاف مع الاشتراكيين الديموقراطيين، على الرغم من تحقيقهم نتائج أقروا بأنفسهم بأنها كانت “كارثية”. وفي حال حصل ذلك، سيحظى الحزبان معا بأغلبية ضئيلة في مجلس النواب.
يُدرك رجل ألمانيا القوي الجديد أنّه لا يمكن لبلاده أن تبقى لفترة طويلة من دون حكومة في مواجهة التقلّبات الاقتصادية والجيوسياسية الحالية والتي تتمثّل في المواقف الصادرة عن الرئيس الأميركي بشأن حرب أوكرانيا والمخاوف من التحالف عبر الأطلسي والتهديدات الأميركية بزيادة الرسوم الجمركية، فضلا عن الأزمة التي يواجهها النموذج الاقتصادي الألماني القائم على الصناعة من قبل المنافس الصيني.
قاد المحامي السابق الذي لم يسبق له أن شغل مناصب وزارية، حزبه الاتحاد الديموقراطي المسيحي وحليفه البافاري حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي إلى الفوز. لكنّ النتيجة التي حقّقها المحافظون في الانتخابات التشريعية التي جرت الأحد (28,6 في المئة) لا تسمح لهم بالحكم بمفردهم، ولا سيما أن النتيجة كانت أقل من نسبة الـ30 في المئة التي توقعتها استطلاعات الرأي منذ أشهر.
من جانبه، ضاعف اليمين المتطرّف ممثلا بحزب البديل من أجل ألمانيا، النتيجة التي حقّقها قبل أربع سنوات، وحلّ ثانيا بحصوله على حوالى 20,8 في المئة من الأصوات.
وقالت أليس فايدل زعيمة الحزب المناهض للهجرة والمؤيد لروسيا إنّ “هذه ليست نتيجة جيدة بشكل خاص تبعث على الثقة”، مضيفة “ستظل يدنا ممدودة للمشاركة في الحكومة وتحقيق إرادة الشعب”.
شولتس خارج اللعبة
وبعدما أعلن فريدريش ميرتس أنّه لن يتحالف مع حزب البديل من أجل ألمانيا، لم يعد أمامه خيار سوى التواصل مع الاشتراكيين الديموقراطيين، الحزب الأقدم في البلاد الذي حصل على نسبة بلغت 16 في المئة من الأصوات، في ما يعدّ أسوأ نتيجة له منذ 80 عاما.
وأعلن المستشار المنتهية ولايته أولاف شولتس أنه يتحمل مسؤولية “الهزيمة المريرة”، فيما من المتوقع أن ينسحب من الحياة السياسية.
ولخّصت صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” اليومية النتيجة بالقول إنّ “الألمان قالوا +لا+ بوضوح لأولاف شولتس خلال هذه الانتخابات، ولكن لم يقولوا +نعم+ حقيقية لمنافسيه”.
ومن خلال التعهّد بتشكيل تحالف بحلول عيد الفصح في 20 نيسان/أبريل “على أبعد تقدير”، حدّد فريدريش ميرتس لنفسه هدفا طموحا، فيما أكد أنّ “العمل سيبدأ الإثنين”.
وكانت ألمانيا أُصيبت بشلل جراء انهيار ائتلاف شولتس مع حزب الخضر والليبراليين. ومن هذا المنطلق، أكد المستشار الجديد أنّ “الخارج لا ينتظرنا… يتعيّن علينا أن نعود للعمل بسرعة على المستوى الداخلي، لنستعيد حضورنا على الساحة الأوروبية”.
غير أنّ الهشاشة التي تعاني منها الأحزاب التقليدية الأخرى لن تكون عنصرا مساعدا في تسهيل الأمور بالنسبة إلى المحافظين.
وبعد حملة انتخابية شهدت استقطابا غير مسبوق، قد يكون من الصعب التوصّل إلى تسويات لتشكيل ائتلاف.
وقال فيليب باور (44 عاما) وهو ناشط من برلين “سأترك الحزب الاشتراكي الديموقراطي إذا اختار التحالف مع فريدريش ميرتس كمستشار”.
وأضاف أنّ تحالفا كبيرا مع الاتحاد الديموقراطي المسيحي بزعامة ميرتس سيكون “مختلفا للغاية”، عن الأغلبية “الحمراء والسوداء” التي تشكّلت حول المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل والتي تبنت سياسة وسطية.
حرّر ميرتس خليفة ميركل ومنافسها السابق، نفسه من إرثها خصوصا في ما يتعلق بقضايا الهجرة، من خلال تقديم مقترحات جذرية لمحاربة الهجرة غير النظامية.
ولكنّ رهانه على الحصول على أصوات من حزب البديل من أجل ألمانيا بفضل هذا الخطاب المتشدّد إلى حدّ التماهي مع اليمين المتطرّف خلال الحملة الانتخابية، لم يُثمر.
وقالت صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” إن ميرتس فشل في “إثارة رغبة حقيقية في التغيير، وفي خلق حماسٍ لنفسه ولمشروعه”.
وعلى الرغم من نسبة المشاركة القياسية منذ إعادة توحيد البلاد (83-84 في المئة)، إلا أنّ الناخبين لا يبدون تفاؤلا قويا، إذ يخشى 68 في المئة منهم ألا يتم تشكيل حكومة مستقرّة بعد الانتخابات، وفقا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة “إنفراتست ديماب” (Infratest dimap).
من جانبها، توقّعت زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا مصيرا مأساويا للائتلاف المستقبلي بين الحزب الاشتراكي الديموقراطي والاتحاد الديموقراطي المسيحي، والذي لن يتمكّن، على حدّ تعبيرها، من الاتفاق على قضايا الهجرة أو الميزانية.
وقالت أليس فايدل التي تحظى بدعم إدارة ترامب، “ستجري انتخابات جديدة بسرعة كبيرة جدا”.
من ناحية أخرى، تأمل أوروبا في حدوث استقرار في ألمانيا وفي دور فعّال لبرلين بعد الانقسامات التي شهدها الائتلاف المنتهية ولايته.
وأكد ميرتس المؤيد بشدة للحلف الأطلسي، أنّ تعزيز الدفاع الأوروبي سيكون “الأولوية المطلقة” بالنسبة إلى الحكومة الجديدة، حتى تتمكّن القارة من تحرير نفسها من الولايات المتحدة، خصوصا في ظل التقارب بين واشنطن وموسكو لفرض تسوية للحرب في أوكرانيا.
تقدم تاريخي لليمين المتطرف
وقال ميرتس (69 عاما) في برلين بعد الانتصار الذي يرشحه لتولي منصب المستشار شرط إيجاد حلفاء للحكم، إن “العالم الخارجي لن ينتظرنا ولن ينتظر مفاوضات ائتلافية مطولة (…) يتعين علينا أن نصبح جاهزين للعمل بسرعة مجددا للقيام بما هو ضروري على الصعيد الداخلي، لكي نصبح حاضرين في أوروبا مرة أخرى”.
يأتي هذا التحول إلى اليمين في لحظة محورية بالنسبة لألمانيا وحلفائها الأوروبيين الذين أصيبوا بصدمة إزاء الإعلانات الصادرة عن إدارة دونالد ترامب بشأن حرب أوكرانيا، والمخاوف من انهيار التحالف عبر الأطلسي، والتهديدات بزيادة الرسوم الجمركية.
وبعد توقع فوزهم منذ أشهر، حصل المحافظون من حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي وحليفهم البافاري حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي على 29 % من الأصوات، وفق تقديرات أولية.
وجاء حزب البديل من أجل ألمانيا ثانيا بنحو 20 % من الأصوات، أي ضعف النسبة التي حصدها قبل أربع سنوات، وتمثل نتيجة تاريخية للحزب اليميني المتطرف الذي تأسس عام 2013.
وقالت زعيمة الحزب أليس فايدل “ستظل يدنا ممدودة دائما للمشاركة بالحكومة وتحقيق إرادة الشعب”.
لكنّ المحافظين يستبعدون أي تحالف مع حزب البديل من أجل ألمانيا رغم “المغازلة” البرلمانية بينهم بشأن قضايا الهجرة والأمن خلال الحملة الانتخابية.
وكان الخاسر الآخر بهذه الانتخابات حزب الخضر المشارك في حكومة شولتس والذي حصل على 13% من الأصوات.
واعتبر ميرتس الأحد أن أوروبا يجب أن تعزز قدراتها الدفاعية، وسط تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وأوروبا.
وقال ميرتس “ستكون الأولوية المطلقة هي تعزيز قوة أوروبا في أسرع وقت حتى نتمكن، خطوة بخطوة، من تحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة” في المسائل الدفاعية.
وأضاف “بعد تصريحات دونالد ترامب في الأسبوع الماضي، من الواضح أن الأميركيين… غير مبالين إلى حد كبير بمصير أوروبا”.
وهنأ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأحد ميرتس، آملا بالعمل مع ألمانيا “لتعزيز قوة أوروبا”.
كما هنأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأحد ميرتس، قائلا “نحن مصممون أكثر من أي وقت مضى على القيام بأشياء عظيمة معا”.
بدوره هنأ رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر المحافظين الألمان الأحد قائلا إنه يريد العمل على تعزيز الأمن بين البلدين. وكتب على منصة إكس “أتطلع إلى العمل مع الحكومة الجديدة لتعميق علاقتنا القوية بالفعل، وتعزيز أمننا المشترك وضمان النمو الاقتصادي لبلدينا”.
جرت الحملة الانتخابية عقب انهيار الائتلاف الحاكم في تشرين الثاني/نوفمبر، في مناخ محلي متوتر عقب هجمات دامية عدّة نفذها أجانب في الأسابيع الأخيرة وهزت الرأي العام وخدمت اليمين واليمين المتطرف.
في مقر الحزب الاشتراكي الديموقراطي، تشعر هيلكه رايخرسدورفر وهي متقاعدة تبلغ 71 عاما بقلق بشأن النتيجة التي حققها حزب البديل من أجل ألمانيا.
وتقول المعلمة السابقة لوكالة فرانس برس “أنا خائفة جدا من هذا التحول نحو اليمين”، وتخشى سير الأمور “على شاكلة ما جرى في دول أوروبية أخرى أو في الولايات المتحدة”.
وكانت الحملة الانتخابية قصيرة ومكثفة ومليئة بالأحداث، واتسمت بتراجع التحالف بين الولايات المتحدة والأحزاب الوسطية في ألمانيا، حليف واشنطن التاريخي.
وحظي حزب البديل من أجل ألمانيا بدعم قوي منذ أسابيع من أوساط ترامب: فقد روّج مستشاره إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، لأليس فايدل باستمرار على منصته إكس.
واعتبر الرئيس الأميركي بعد إعلان توقعات النتائج أنه “يوم عظيم لألمانيا والولايات المتحدة”، مضيفا على منصته تروث سوشل “كما هي الحال في الولايات المتحدة، سئم الشعب الألماني من الأجندة غير المنطقية، خصوصا في ما يتعلق بالطاقة والهجرة”.
وفي بانكوف شمال برلين، تجمع نحو 200 من أنصار الحزب اليميني المتطرف ورددوا هتافات فرح عند إعلان النتيجة التي حققها حزبهم، وفق صحافية من فرانس برس.
وقال أرن ماير، وهو موظف حكومي يبلغ 33 عاما من برلين، “هذا يظهر أن المواطنين يريدون تغييرا في السياسة”. أضاف “حزب البديل من أجل ألمانيا لديه قيم مختلفة، قيم الحرية التي أجدها جذابة جدا”.
وترفض جميع الأحزاب الرئيسية العمل مع حزب البديل من أجل ألمانيا الذي يعتبر نتيجة يوم الأحد مجرد بداية فقط.
وقالت أليس فايدل الزعيمة المشاركة لحزب البديل من أجل ألمانيا أمام حشد من المؤيدين "لا تزال أيادينا ممدودة لتشكيل حكومة"، مضيفة "في المرة المقبلة سنحتل المركز الأول".
وأظهرت استطلاعات رأي الناخبين بعد الخروج من مراكز الاقتراع أن نسبة المشاركة في التصويت بلغت 83 بالمئة، وهي الأعلى منذ ما قبل إعادة توحيد ألمانيا في 1990.
مستقبل غامض
نظمت الانتخابات التشريعية المبكرة عشية الذكرى الثالثة للغزو الروسي لأوكرانيا والذي خلّف صدمة في ألمانيا.
وأدى النزاع إلى قطع إمدادات الغاز الروسي الرخيص، ما أدى لركود الاقتصاد، كما استقبلت ألمانيا أكثر من مليون لاجئ أوكراني.
ويثير احتمال التوصل إلى سلام “من خلف ظهور” كييف والأوروبيين قلقا كبيرا.
في هذا السياق، يتطلع الشركاء الأوروبيون بشدة إلى الإسراع في تشكيل حكومة في ألمانيا.
وقد لمح ميرتس إلى أنه يفضل مد اليد إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي.
وهذا التحالف المحتمل الذي يطلق عليه “الائتلاف الكبير” بين الحزبين اللذين هيمنا على المشهد السياسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو الخيار المفضل لدى الألمان بعد مرحلة اضطرابات متواصلة داخل الائتلاف الحكومي الثلاثي بين الاشتراكيين والخضر وليبراليي الحزب الديموقراطي الحر.
وقال ميرتس في هذا الصدد إنه يريد تجنب تشكيل ائتلاف ثلاثي.
لكن رغم فوزه الانتخابي، فإن تشكيل حكومته “لا يزال يعتمد على الأحزاب الصغيرة (…) هذه هي الظروف الصعبة لبدء تشكيل حكومة ألمانية جديدة تواجه مهمات شاقة على مستوى السياستَين الداخلية والخارجية”، كما أكّدت كورنيليا وول، مديرة مدرسة هيرتي في برلين.
ويأمل الحزب الديموقراطي الحر بتخطي عتبة الـ5% من الأصوات اللازمة لدخول البرلمان، تماما مثل تحالف سارة فاغنكنشت، وهو حزب يساري محافظ جديد يدعو إلى وقف تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا.
أما “حزب اليسار” الراديكالي فتأكدت الحيوية الانتخابية التي عكستها استطلاعات الرأي في الأسابيع الأخيرة بحصده 9 % من الأصوات.
وأعلن زعيم الحزب الليبرالي الألماني كريستيان ليندنر، وزير المال الأسبق الذي أقاله المستشار شولتس في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، الأحد اعتزاله الحياة السياسية بعد هزيمة حزبه في الانتخابات التشريعية.
ودعت دوائر الأعمال الألمانية مساء الأحد إلى الإسراع في تشكيل حكومة قادرة على إجراء إصلاحات لإنعاش الاقتصاد الرائد في أوروبا، على الرغم من المفاوضات الائتلافية التي قد تطول.
وقال بيتر ليبينغر رئيس اتحاد الصناعة الألماني الأحد “إن الاقتصاد الألماني يحتاج بشكل عاجل إلى حكومة مستقرة وفعّالة”.
وأضاف أن الأمر يتعلق “برفع سريع للعرقلة في عملية اتخاذ القرار بشأن القضايا الأساسية (تقليص البيروقراطية، والاستثمارات العامة، والطاقة، والأمن)”.
مكافحة التدخل الأمريكي والروسي
وقال ميرتس المحافظ الفائز إن أولويته القصوى هي العمل نحو الوحدة في أوروبا من أجل مواجهة التدخل من الولايات المتحدة أو روسيا.
وميرتس ليبرالي اقتصادي نجح في تحويل المحافظين إلى تيار اليمين، ويأتي على النقيض تماما من المستشارة المحافظة السابقة أنجيلا ميركل التي قادت ألمانيا لمدة 16 عاما.
كما يدعم ميرتس بشكل مشروط تزويد أوكرانيا بصواريخ توروس بعيدة المدى، وهي خطوة ابتعدت عنها حكومة شولتس، ويرى أن أوروبا لديها أساس راسخ في حلف شمال الأطلسي.
وذكر ميرتس لقناة زد.دي.إف وهيئة الإذاعة والتلفزيون الألمانية (إيه.آر.دي) أنه ليس لديه أي أوهام بشأن التحديات في العلاقة مع الولايات المتحدة.
وأضاف "التدخلات من واشنطن لم تكن أقل حدة وفظاعة في نهاية المطاف من التدخلات التي رأيناها من موسكو"، في إشارة إلى الدعم الذي قدمه الملياردير الأمريكي إيلون ماسك لليمين المتطرف في ألمانيا خلال الانتخابات.
وأشاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الأحد بانتصار المحافظين المعارضين بالانتخابات العامة في ألمانيا، ووصفه بأنه "يوم عظيم لألمانيا".
ورحب ترامب بفوز المحافظين، وقال في منشور على منصة تروث سوشيال "على غرار الولايات المتحدة، سئم الشعب الألماني من جدول أعمال يفتقر إلى المنطق السليم، ولا سيما بشأن الطاقة والهجرة، وذلك بعد أن ظل مهيمنا لسنوات كثيرة".
واعترف المستشار أولاف شولتس بالهزيمة في الانتخابات، وهنأ منافسه المحافظ فريدريش ميرتس بالفوز.
وأضاف شولتس في أول رد فعل له "هذه نتيجة انتخابية مريرة للحزب الديمقراطي الاجتماعي، وهي أيضا هزيمة انتخابية".
وذكر في تصريحات موجهة إلى ميرتس "تهانينا على نتيجة الانتخابات".
وقد تؤدي محادثات مستفيضة بشأن تشكيل ائتلاف حكومي إلى تولي شولتس تصريف الأعمال لشهور، مما سيؤخر سياسات تشتد الحاجة إليها لإنعاش الاقتصاد الألماني بعد تسجيله انكماشا لعامين متتاليين ومع تكبد الشركات صعابا في مواجهة منافسين دوليين.
ومن شأن بقاء السلطة في أيدي حكومة تصريف أعمال لشهور أن يخلق فراغا قياديا في قلب القارة بينما تواجه مجموعة من التحديات، مثل تهديدات ترامب بإشعال حرب تجارية ومحاولاته التعجيل باتفاق لوقف إطلاق النار في أوكرانيا دون تدخل أوروبي.
ويبدو أن الألمان أصبحوا أكثر تشاؤما حيال مستويات معيشتهم عن أي وقت مضى منذ الأزمة المالية في عام 2008.
كما أصبحت المواقف تجاه الهجرة أكثر تشددا، وهو تحول بالغ في الرأي العام بألمانيا منذ ثقافة "الترحيب باللاجئين" خلال أزمة المهاجرين في أوروبا في عام 2015. وقاد حزب البديل من أجل ألمانيا ذلك التحول واستغله.
الفقر في ألمانيا مشكلة غابت عن الحملة الانتخابية
بعدما عملت لسنوات طويلة، تعاني الألمانية ريناته كراوزه من الفقر وهي على أبواب التقاعد، موضحة أنه من “الصعب” عليها احتمال “ازدراء” السلطات السياسية حيال الذين يعيشون في ظروف هشة.
وهذه المرأة البالغة 71 عاما هي من ضمن 13,1 مليون شخص يطالهم الفقر في القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا ، ما يعني شخصا من أصل سبعة بحسب الإحصاءات الرسمية.
وإذا ما أضيف إليهم عدد الأشخاص المهددين بالفقر، عندها يرتفع الرقم إلى 17 مليونا، إي خمس التعداد السكاني الإجمالي، معظمهم نساء عازبات وعاطلون عن العمل لفترات طويلة، وعدد متزايد من المتقاعدين.
غير أن ريناته كراوزه تشير إلى أن الأحزاب السياسية الكبرى التي تنافست في الانتخابات التشريعية “تتجاهل بصورة إجمالية” هذا الموضوع، فيما تسيطر مسألتا الهجرة والأمن على الحملة.
وترى هذه الأم لأربعة أولاد التي التقتها وكالة فرانس برس في شقتها الصغيرة عند أطراف مدينة كيل على ضفاف بحر البلطيق، أن ذلك يعكس “حملة ضد الفقراء” من قبل بعض الأحزاب، ولا سيما المحافظين الذين يتصدرون نوايا الأصوات، باعتبارها الفقر “قدرا شخصيا لا يجب الأخذ به في أي قوانين”.
قالت “استخدمت مداخيلي لتمويل حياتي وضمان تعليم جيد لأولادي”.
وروت المرأة التي تتقن الخياطة والحياكة أنها بعدما كانت تعمل في مكتبة، قررت في الثمانينات العمل لحسابها ففتحت محلّ نسيج، ثم باعت منتجاتها في الأسواق.
لكن هذا لم يكن كافيا للاستثمار في تأمين خاص للتقاعد، وهو ما كان يجدر بها أن تفعل بصفتها عاملة مستقلة.
وبعد طلاقها عام 2001، وإصابتها بورم سرطاني في عينها حدّ من رؤيتها، تخلت عن حياتها النشطة في 2015، قبل بضع سنوات من سن التقاعد المحدد بـ67 عاما.
وهي تتقاضى من خلال معاشها التقاعدي الأساسي والمساعدات الاجتماعية 1065,91 يورو في الشهر، وهو مبلغ دون عتبة الفقر.
وبعد حسم الإيجار والتدفئة، يبقى لها 678,51 يورو. وهي تؤكد أن كل الكماليات التي تملكها الآن من تلفزيون وأدوات كهربائية اكتسبتها قبل انحدارها إلى الفقر.
وتوضح أن الفقر يجعل الشخص يعيش في عزلة. فلا يمكنها مثلا أن تجلس في مقهى لتناول فنجان قهوة، ولا سيما مع تزايد الأسعار بسبب التضخم. وبما أن عائلتها مبعثرة في أنحاء المانيا، لا يمكنها “زيارة أحفادها السبعة”.
واعتمد زعيم المحافظين فريدريش ميرتس الذي يرجح أن يكون المستشار المقبل لألمانيا، خطا متشددا بشأن المساعدات الاجتماعية، مستهدفا بصورة خاصة “معاشا أساسيا” بقيمة 563 يورو يقدم للعاطلين عن العمل منذ فترة طويلة، إحدى الإصلاحات الرئيسية التي أقرتها حكومة وسط اليسار المنتهية ولايتها.
ومن بين حوالى 5,5 مليون شخص يتقاضون هذه المساعدة، هناك أكثر من 60% “ذوي أصول مهاجرة” بحسب البيانات الرسمية، وهي نسبة عالية مردّها أن العديد من اللاجئين الأوكرانيين الذين وصلوا مؤخرا يستفيدون منها.
وجعل اليمين المتطرف من هذه الأرقام أحد محاور حملته.
واعتبر ميرتس أن هذه المساعدة سخية أكثر مما ينبغي وقال هذا الأسبوع إن “الذين لا يعملون في حين أنه يمكنهم مزاولة وظيفة لن يتلقوا مساعدة البطالة في المستقبل”.
غير أن هذا يشمل عددا ضئيلا من الاشخاص بحسب ميكايل دافيد، عالم الاجتماع في منظمة “دياكونيه” الخيرية البروتستانتية، وأوضح “لا نحارب الفقر بمحاربة الفقراء” داعيا بالأحرى إلى أنظمة طويلة الأمد لإعادة دمج العاطلين عن العمل في الحياة النشطة.
وكان مجلس أوروبا وجه تحذيرا العام الماضي إلى برلين بسبب مستوى الفقر والتفاوت الاجتماعي في ألمانيا معتبرا أنه “غير متناسب مع ثروة البلد”.
كما يواجه البلد الذي يعاني من شيخوخة سكانه، تحدي تزايد عدد المتقاعدين المهددين بالفقر. وقدرت دراسة نشرت مؤخرا بـ2,8 مليون نسمة عدد المعنيين من جيل “طفرة المواليد” (منتصف القرن العشرين) عند تقاعدهم بحلول 2035.
وغالبا ما تدلي ريناته كراوزه بشهادة في إطار “المؤتمر حول الفقر”، وهو ائتلاف منظمات غير حكومية ينشط من أجل التوعية في هذا المجال.
وإن كان العديد من الفقراء يعتزمون مقاطعة الانتخابات، فهي مصممة على القيام بـ”واجبها الديموقراطي” لأن “الذين لا يصوتون، فهم أذعنوا”.
ترقب اوربي
واثارت الانتخابات التشريعية في ألمانيا ترقبا شديدا بين المسؤولين الأوروبيين الذين يتطلعون بقلق إلى أن تسمح نتائجها بإعادة وضع القارة على السكة حتى تتمكن من التحرك حيال الأزمات الكثيرة التي تواجهها.
وقال دبلوماسي أوروبي “أحيانا نخشى الزعامة الألمانية، لكن من الصعب أن نعيش بدونها”، ملخصا بذلك الوضع السائد بين قادة بروكسل الذين ينتظرون بفارغ الصبر نتائج الانتخابات التشريعية الألمانية.
وأوضح يان فيرنرت من معهد جاك دولور أن الثنائي الألماني الفرنسي الذي يشكل عادة محرك المشاريع الأوروبية الكبرى، عاجز منذ عدة أشهر عن “العمل واتخاذ قرارات كبرى” في حين “ثمة حاجة أكبر من أي وقت مضى إلى ذلك”.
وأشار في هذا الصدد إلى تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والحرب في أوكرانيا التي تشهد تطورات تثير قلق الكثير من الأوروبيين، وضرورة تحفيز التنافسية في القارة.
فبعد فرنسا التي عرفت فترة طويلة من البلبلة السياسية على وقع حل الجمعية الوطنية وسقوط الحكومة، والسلطة التنفيذية الأوروبية التي عاشت عدة أشهر من التعثر قبل تعيين قيادة للمفوضية، تنأى ألمانيا بنفسها الآن من أي مداولات أوروبية لتركز على تنظيم الانتخابات الأحد.
وإن كان من المتوقع أن ينتزع المحافظ فريدريش ميرتس المستشارية من أولاف شولتس، إلى أن تساؤلات عدة لا تزال مطروحة بشأن طبيعة الائتلاف الحكومي المقبل والموقع الذي سيعود لليمين المتطرف والفترة التي سيستغرقها لتشكيل حكومته.
وتعرقل كل هذه النقاط العالقة إحراز أي تقدم في ملفات أساسية في أوروبا، بدءا بصياغة رد على المداولات الأميركية الروسية بشأن أوكرانيا، والتي استبعد منها الأوروبيون في الوقت الحاضر.
وقال دبلوماسي أوروبي “لا نرى حقيقة الألمان ينشطون في الاقتراحات المطروحة”.
ويدفع هذا الجمود البعض إلى البحث في مكان آخر عن شخصيات يمكنها إعطاء أوروبا الدفع الذي تحتاج إليه.
وفي هذا السياق، يرد بشكل متكرر ذكر رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك الذي تتولى بلاده حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. فهو حاضر بقوة في مسائل الدفاع، ويحض الأوروبيين باستمرار على زيادة استثماراتهم بوجه الخطر الروسي. غير أنه مشلول هو أيضا في الكثير من الملفات الأخرى بسبب انتخابات تنظمها بلاده في 18 أيار/مايو.
كذلك، يذكر البعض رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني التي تظهر حكومتها استقرارا نادرا في أوروبا، وهي في الوقت نفسه مقربة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لكنها تبقى في الوقت الحاضر على مسافة، ولا سيما في الملف الأوكراني.
ويؤكد النائب الأوروبي ألالماني دانيال فرويند أن “أوروبا برمتها تتطلع إلى الانتخابات” الألمانية، مشيرا بأسف إلى أنه “ليس هناك الكثير من الحركة”.
ويتساءل الكثير من النواب الأوروبيين حول كيفية انعكاس نتائج الانتخابات على التوازنات السياسية في هذه المؤسسة.
ويهيمن حزب الشعب الأوروبي اليميني حاليا على البرلمان الأوروبي حيث يعمل ضمن ائتلاف واسع شكله مع الوسطيين والاجتماعيين الديموقراطيين والخضر، لكنه يبدي مؤشرات أولية لتقارب مع اليمين المتطرف.
ويشبه البعض هذا الوضع بتلاشي “الطوق العازل” المفروض على أقصى اليمين في ألمانيا حيث أسقط المحافظون واليمينيون المتطرفون أحد المحرمات الكبرى السائدة في هذا البلد إذ ضموا أصواتهم للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية للتصويت في نهاية كانون الثاني/يناير على قانون في مجلس النواب يشدد سياسة الهجرة الألمانية.
وأوضحت فاليري آييه التي تترأس كتلة “رينيو” (تجديد) الوسطية “السؤال الحقيقي المطروح برأيي، هو إلى أي مدى سيكون لما جرى في ألمانيا تبعات على نتيجة الانتخابات وأي تعاليم سيستخلصها نواب حزب الشعب الأوروبي منه”.
وتابعت “هل سيقولون لأنفسهم إن كسر الطوق العازل، أقله في الكلام، في ألمانيا كان إستراتيجية خاسرة؟ أم إنها كانت على العكس رابحة؟”.
وتتابع كتلة “الوطنيين” اليمينية المتطرفة باهتمام كل هذه المداولات الجارية، موجهة إشارات متتالية إلى المحافظين في البرلمان الأوروبي.
ولفت النائب الأوروبي الدنماركي أندرس فيستيسن الذي ينتمي إلى هذه الكتلة إلى أنه في حال سقوط الطوق في ألمانيا “سيكون من الصعب للغاية تبرير الإبقاء عليه هنا”.
قضية الهجرة هيمنت على الحملات الانتخابية
وهيمنت المخاوف بشأن الهجرة إلى حد كبير على حملة الانتخابات، بعد أن شهدت ألمانيا سلسلة من الهجمات الدامية.
وشدد فريدريش ميرتس الذي يتهم حكومة شولتس بالتراخي، من موقفه داعيا إلى إغلاق الحدود ورفض دخول أي أجنبي لا يحمل الوثائق اللازمة، بما يشمل طالبي اللجوء.
كما عمل على إقرار نصّ غير ملزم بهذا الشأن في مجلس النواب بدعم من حزب البديل من أجل ألمانيا، في خطوة غير مسبوقة على المستوى الاتحادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وأثار التعاون الذي اعتبره كثيرون بمثابة بداية تطبيع مع الحزب المتطرف، احتجاجات واسعة النطاق في ألمانيا.
وما زاد الطين بلة الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس الأميركي جاي دي فانس الجمعة في ميونيخ وحثّ فيه الأحزاب التقليدية في ألمانيا على التخلي عن رفضها للتحالف مع اليمين المتطرف.
وأدى الدعم الصريح الذي تلقاه الحزب من المقربين من الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى زيادة التوتر.
وقال فانس “لا مجال لجدران العزل”، في إشارة إلى الموقف التقليدي للأحزاب الألمانية الرافضة للتعامل مع اليمين المتطرف.
ورد زعيم حزب المحافظين الألماني قائلا “لن أسمح لنائب الرئيس الأميركي بأن يخبرني مع من يجب أن أتحدث هنا في ألمانيا”.
من جهته وصف شولتس خطاب نائب الرئيس الأميركي بأنه “غير مقبول”.
في المقابل، رحبت أليس فايدل “بحرارة” بـ”التصريحات الواضحة” التي أدلى بها جاي دي فانس وسلطت الضوء على أوجه التشابه بين برنامجها وبرنامج إدارة ترامب. وينطبق ذلك خصوصا على الهجرة، وهي القضية التي تهيمن على الحملة الانتخابية الألمانية ويستفيد منها حزب البديل من أجل ألمانيا.
وبرزت هذه القضية عقب عدد من الهجمات والاعتداءات القاتلة التي وقعت في الفترة الأخيرة وارتكبها أجانب، مثل الهجوم الذي حصل في ميونيخ الجمعة وأسفر عن مقتل شخصين وإصابة 37 آخرين.
وحملت فايدل حكومة شولتس مسؤولية “موت الناس في الشوارع كل يوم”.
أما ميرتس فوَعد بمراجعة جذرية لسياسة اللجوء.
واشارت الحكومة المنتهية ولايتها إلى التدابير العديدة التي اتخذتها خلال السنوات الأربع الماضية لمكافحة الهجرة غير النظامية.
وقامت ألمانيا بترحيل نحو 47 عراقيا بدون وثائق على متن رحلة جوية أقلعت من هانوفر (شمال)، وفق ما ذكرت السلطات الإقليمية لوسائل الإعلام.
اضف تعليق