يستطيع الإنسان في هذا الشهر الكريم، أن يدرب نفسه على الاستقامة والسبل الصحيحة في الحياة، فيحصل على التربية التي تضمن له جدية الإيمان وسلامة الجسم وصحة العقائد، وهي أهداف كبيرة ومهمة تجعل من حياة الفرد والمجتمع، متوازنة ومستقرة، وقادرة على التطور المضطرد...
(إن سلامة الجسم تعطي القابلية للإنسان لنيل التوفيق)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
سلامة الجسد أمر مهم لكي يتمكن الإنسان من العيش بطريقة سليمة، وفي نفس الوقت عليه أن يحافظ على سلامة تحصيله للعقائد التي تحميه دينيا وفكريا، لكي لا ينزلق في المزالق التي أعدها له الشيطان مسبقا.
هذا الهدف يصبح أكثر سهولة للإنجاز في شهر رمضان المبارك، فالإنسان في هذا الشهر يستطيع مقاومة الشيطان، ومغريات الانحراف بكل أشكالها وأنواعها، ويستطيع أن يقارع نفسه إذا حاولت استمالته أو إجباره على عمل الشرّ، لاسيما أن الإنسان يكون ممتلئا بشحنات الغضب والبغض وغيرهما من حالات السوء المختلفة، لذا عليه استثمار هذا الشهر وأجواءه المواتية لكي يتمكن من مواجهة الشيطان والنفس الأمارة معا.
فهل يستسلم الإنسان لهذه المصاعب التي تواجهه، أم أنه يسعى إلى تطوير قدراته خصوصا في شهر رمضان، لكي يحمي شخصه وعائلته من الانحراف في مجاهيل المغريات الكثيرة التي يهندسها الشيطان ويقدمها للإنسان وكأنها فرصة ثمينة لا يمكن تعويضها، هذا الشهر الكريم هو الفرصة المناسبة لإلحاق الهزيمة بالاثنين (الشيطان، والنفس الأمّارة).
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يتساءل ويجيب في إحدى محاضراته الرمضانية القيّمة:
(كيف يمكن للمرء أن يجاهد الشيطان؟ وما يمكنه فعله مع النفس الإمّارة بالسوء؟ فالإنسان مملوء من الحبّ والبغض، ويغضب في بعض الموارد، فكيف يمكنه أن ينمّي نفسه؟ وللجواب نقول: يمكنه أن ينمّي نفسه شيئاً فشيئاً، مع وجود النواقص، ويرتقي في هذا المضمار).
من الأمور المهمة للإنسان قدرته على تشخيص الفرصة المناسبة لتحقيق ما يهدف إليه، لتطوير شخصيته وحياته، وفي هذه الحالة لا يصح لأي إنسان أن يخسر الفرص التي تحسّن له قدراته الجسدية والفكرية والعقائدية، كونها تصب في البناء الصحيح لنفسه وتطوير حياته، ومن ثم تربية نفسه تلك التربية السليمة المعافاة.
وفي هذه الحالة ليست هناك فرصة تربوية تطويرية أكثر من شهر رمضان وأجوائه التي تحفل بالعطاء والخيرات المتوالية على الناس، فهذا الشهر الكريم يوفر فرصة كبيرة لمن يسعى لمواجهة النفس وتعليمها وتدريبها وتربيتها بما يجعلها في منأى عن الانزلاق في الملذات والمتع والمغريات التي تحاول تعويق تقدم الإنسان إلى أمام فكريا وعقائديا وحتى جسديا.
وحين يستثمر الإنسان الفرص التي تسنح له بصورة صحيحة وسليمة، فإنه سوف يحقق ما يصبو إليه، حتى وإن كانت العوائق كثيرة في طريقه فإن شهر رمضان يمنحه القدرة على تربية نفسه بطريقة أسهل، ويكون أكثر تماسكا في مواجهة حبائل الشيطان وألاعيبه في الترغيب، فهنالك كثرة الأدعية، وسيطرة الأجواء الإيمانية، وشيوع حالة الاستقرار والاكتفاء النفسي، تجعله قادرا على تطوير وتربية نفسه بطريقة موفقة.
يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
إن (شهر رمضان العظيم هو فرصة مناسبة بالنسبة لسائر الأشهر، لتربية النفس، بسبب أجوائه المعنوية، وكثرة الأدعية في هذا الشهر العظيم).
قراءة الدعاء يضيء عتمة النفس
قراءة الدعاء في شهر رمضان أيضا من العوامل المساعدة على تجنب الشياطين، وإمكانية ترويض النفس، وسحبها نحو الخير، نظرا لما تنطوي عليه من شحنات معنوية، وامتلائها بالفضائل الراقية، وهنالك أدعية كثيرة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، من الأفضل قراءتها في هذا الشهر الكريم، حتى تكون عونا للإنسان.
يذكرنا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ويدلنا على هذه الأدعية، ويذكرها لنا بالنص وتمام المعنى، ويبين سماحته فضائل هذه الأدعية، وكيف يمكنها منح الإنسان مساحة واسعة من الاستقرار النفسي، ومن الإيمان الذي يستقيه الصائم من هذا الدعاء الممتلئ بالمعاني الكبيرة المضيئة لعتمة النفس، فيقول سماحته (دام ظله):
(يوجد دعاء مختصر للإمام الصادق عليه السلام لليلة الأولى من شهر رمضان العظيم. والأدعية الواردة عن المعصومين عليهم السلام، تحظى بقدرة معنوية وبفضيلة راقية، ومنها الدعاء الذي سيأتي ذكره).
في هذا الدعاء يدعو الإنسان ربه أن يُدخله شهر رمضان بالسلامة والإسلام واليقين والإيمان، وهذه المفردات التي ترد في دعاء الإمام (عليه السلام)، تبث معانٍ عميقة وواضحة، فهي تقدم السلامة والإسلام في دخولها الشهر الكريم، سلامة الجسد، ومن ثم الامتلاء الفكري بعقائد الإسلام التي تحمي الإنسان من الانزلاق في مسالك الشيطان الكثيرة، كذلك يأتي فهذا الدعاء طلب اليقين والإيمان، وكلاهما من أهم ما يحتاجه الإنسان.
اليقين هو الاستقرار، والايمان هو قوة الموقف والثبات على الصلاح في مواجهة النفس والشيطان معا، ثم ينتهي الدعاء إلى الرجاء بالتوفيق والبر وإلى ما يحبه تعالى وما يرضاه في الإنسان وله، مثل هذه الأدعية الكريمة تشذب النفوس، وتجعل القلوب أكثر رهافة، وأكثر سلامة هي وجسومها، فإذا صح القلب صح الجسد والعكس أيضا.
هنا يذكرنا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بدعاء الإمام الصادق (عليه السلام):
(يقول الإمام الصادق عليه السلام في الدعاء لليلة الأولى من شهر رمضان: (اللهم أدخله علينا بالسلامة والإسلام واليقين والإيمان، والبرّ والتوفيق لما تُحبّ وترضى). ووفقاً لكلمة (أدخله) فإنّ شهر رمضان يدخل على المرء ويعيشه الإنسان، ولكن كيف؟).
الشروع بتربية النفس وسلامة العقائد
وفي كل الأحوال، الإنسان يسعى لسلامته الجسدية والعقائدية، وهذان الهدفان أقرب إليه في شهر رمضان، فإذا استطاع أن يستثمر الفرصة بطريقة صحيحة، يحصد النتائج التي يستحقها كنتيجة للجهود الصحيحة والمثابرة على بلوغ ما يسعى إليه، لاسيما في مسألة مقارعة الترغيب المادي الهائل الذي يوضع أمام نفسه وعينيه.
فتكون المهمة صعبة بشكل مضاعف، حيث يكون الإنسان صائما، وفي نفس الوقت يقدم له الشيطان ما يشتهي من الملذات، وما يحلو من المغريات، فإذا صمد سوف يقهر غريمه، وهذه هي نقطة الانطلاق نحو البناء السليم والمتين، من خلال استثمار فرصة شهر رمضان، والشروع بتربية النفس وبناء الشخصية بطريقة متفرّدة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(يجب أن نطلب من الله تعالى العون، وأن يتمكّن المرء من الصمود أمام النفس الإمّارة بالسوء، والشيطان، وحبّ الدنيا، وباقي الصعوبات والملذّات، وينجو من مكائد الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء).
وبالعودة إلى مفردة السلامة في دعاء الإمام (عليه السلام)، فهي تعني سلامة جسم الإنسان، وبالتالي شعوره بشيء من الصحة والاكتمال، وهو ما يجعله متمسكا أكثر بهذا الشهر والبركات التي تُغدَق عليه، فينال السعادة الروحية، ومن ثم التوفيق كنتيجة لهذا الانسجام بين الروحاني والمعنوي في داخل الإنسان.
ومن المتعارف عليه أن قراءة الدعاء تمنح الإنسان السلام الروحي، وتضاعف تعلقه بالإسلام، وتجعله أكثر التزاما بالأحكام، وهذا هو التوفيق الذي يحصل عليه الإنسان كمكافأة على قراءته الدعاء، وطلب سلامة الجسم والعقائد من الله تعالى عبر الدعاء كوسيط يساعد على تقريب الإنسان من ترصين عقيدته وسلامته الجسمية.
وهذا نجده في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(أما عبارة (بالسلامة والإسلام) فإنّها تُشعر الإنسان بسلامة الجسم والدخول في الإسلام، لأنّ سلامة الجسم تعطي القابلية للإنسان لنيل التوفيق، وكذلك كل من يقرأ هذا الدعاء فهو من المؤمنين بالإسلام. والمخاطَب في دعاء الإمام الصادق عليه السلام هو الفرد المسلم، ولذا علينا، ووفقاً للدعاء الذي مرّ ذكره، أن نطلب من الله عزّ وجلّ السلامة الجسمية والعقائدية).
وهكذا يستطيع الإنسان في هذا الشهر الكريم، أن يدرب نفسه على الاستقامة والسبل الصحيحة في الحياة، فيحصل على التربية التي تضمن له جدية الإيمان وسلامة الجسم وصحة العقائد، وهي أهداف كبيرة ومهمة تجعل من حياة الفرد والمجتمع، متوازنة ومستقرة، وقادرة على التطور المضطرد.
اضف تعليق