q
علينا التفكير ألف مرة قبل ترديد شعار "بالروح بالدم نفديك يا وطن" لأن السياسي الذي يردده قد يكون غير صادق في هذا الأمر، لا سيما مع تجربتنا معه باستغلاله المنصب لتعزيز قوته على حساب قواعد العدالة والقانون، لكنه مع كل أزمة يرفع شعار "بالروح بالدم" من أجل دفع الشباب البسطاء للحرب...

خطاب السلطة في العراق قائم على فكرة الفداء والتضحية الشعبية، أساس الانتماء لوطنك هو أن تكون "مقاتلاً"، أو أسداً من "أسود الرافدين"، أو أحد "أولاد الملحة"، أو "مجاهداً"، لتصل في النهاية إلى مرتبة "أبو الغيرة"، أو "لا أحد يحب العراق مثل حبي".

تأسيساً على الخطاب السلطوي النازل من أعلى، برز لدينا خطاب الشعب الصاعد من أدنى، خطاب قائم على شعارات "بالروح بالدم نفديك يا عراق"، و "بالروح بالدم نفديك يا زعيم (أي زعيم كان)"، وغيرها من شعارات التضحية والفداء للوطن أو الزعيم.

فداء الوطن في الأصل فكرة سامية، ومن دون التضحية يصعب رؤية البلد محمياً من الاعتداءات الخارجية، والتاريخ حافل بنماذج التضحية في سبيل الوطن، شخصيات خلدها التاريخ مثل المهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا، فقد كانوا يحملون فكراً عظيماً، وغاية سامية لتحرير بلادهم وقد تحقق لهم ما أرادوا، رغم كل الصعوبات التي تعرضوا لها.

هذا النوع من الفداء المحمود، وهو النابع من قناعة راسخة لدى الفرد، ومتكون في وعيه الداخلي.

وهناك نوع آخر من الفداء غير المحمود المتمثل بطاعة الخطابات السياسية لمجرد أن أحد الزعماء لديه "قادسية مجيدة" كما كان الحال مع صدام حسين الذي أخذ شباب العراق إلى حروبه العبثية؟

هل من العقل الموافقة على المشاركة في حروب صدام حسين التي كانت أكثر الأخطاء كارثية على الشعب والبلد؟

صدام كان مصاباً بداء العظمة، فكيف يمكن للشعب إطاع زعيم مريض، مثل هذا الزعيم لا يجب عدم إطاعته فقط، بل يجب إزاحته من السلطة، إلا أننا لم نكن نملك الأدوات اللازمة لإزاحته.

ومن استطاع الهروب من الخدمة العسكرية تحت زعامة صدام حصل على التكريم بعد سقوط النظام عام 2003 من قبل النظام الديمقراطي الجديد على اعتبار أن من عارضوا قرارات النظام الصدامي ورفضوا الانضمام لحروبه كانوا قد اتخذوا القرار الصائب.

إلا أننا وبعد مضي عقدين من الزمن على سقوط صدام عدنا إلى نفس الدائرة، وأصبحنا نسمع شعارات الفداء والموت أكثر من قبل، يذهب بعض الشباب إلى الحرب رغبة في هزيمة العدو الذي قال لهم الزعيم أنهم يحاربون ضده، يستشهد بعضهم تحت قرار الزعيم، ثم تتوقف الحرب فجأة.

خبر عاجل

زعيم البلاد المفدى يلتقي بزعيم (أعدائنا سابقاً) للتباحث حول القضايا ذات الاهتمام المشترك من أجل تعزيز العلاقات الأخوية بين الطرفين.

بهذه البساطة تنتهي الحرب، وتعود المياه إلى مجاريها، كل شيء يستقر على حاله، إلا من صدقوا شعارات الزعيم وحاشيته، أغلبهم قد دفنوا تحت التراب، وأكبر هدية حصلوا عليها هي إدراجهم ضمن قوائهم الشهداء حتى تستطيع أسرهم تأمين حياتهم بدون معيل الأسرة الأول.

علينا التفكير ألف مرة قبل ترديد شعار "بالروح بالدم نفديك يا وطن" لأن السياسي الذي يردده قد يكون غير صادق في هذا الأمر، لا سيما مع تجربتنا معه باستغلاله المنصب لتعزيز قوته على حساب قواعد العدالة والقانون، لكنه مع كل أزمة يرفع شعار "بالروح بالدم" من أجل دفع الشباب البسطاء للحرب.

تشبه حروبنا المتناسلة الحرب العالمية الثانية، التي تعد أكبر حرب عبثية في القرن العشرين، وخلال تلك الحرب صدق عدد من المقاتلين في الجيش اليابان خطابات السلطة التي عرفت أنها خسرت الحرب فعلياً، لكنها بدل اتباع مسار يحفظ حياة المواطنين والمقاتلين، لجأت إلى الخطاب الانتحاري الذي يضحي بالشعب والمقاتلين أملاً في حفظ حياة الأمبراطور.

وأول شيء تلجأ إليه السلطة الفاشلة هو استخدام الشعارات السياسية المغلفة بالوطنية الكاذبة مع تغليفها بغطاء ديني لتكون أكثر مقبولية، فأطلقت اليابان ما سمي بـ"رياح الآلهة (الكاميكازي)" أو الهجمات الانتحارية عبر الطائرات، كتكتيك أخير لهزيمة قوات الحلفاء.

هناك من صدق أو أجبر على تصديق خطاب السلطة التي تدعوهم أو تأمرهم بتنفيذ عمليات انتحارية ضد العدو الامريكي من أجل حماية الأمبراطورية اليابانية، إلا أن النهاية مؤلمة، فالخسائر اليابانية كانت هائلة، إذ تمكنت 17% فقط من طائرات الكاميكازي من إصابة أهدافها، بينما تتحدث وثائق عن مقتل ما يقرب من 3800 طيار ياباني.

إحصائيات أخرى تتحدث عما يقارب من 6 آلاف وهناك من يقول إن الحصيلة ترتفع إلى 15 ألف قتيل.

لقد فقد هؤلاء المقاتلين حياتهم من أجل سلطة فاشلة، أو بسبب سلطة فاشلة، ولدينا مثلهم الكثير، والفرق أن اليابان استوعبت الدرس وأوقفت العمليات الانتحارية لمقاتلي الكاميكازي، بينما ما يزال "أبو الغيرة" و"إبن الملحة" و"أسد الرافدين"، يموت بسبب قرارات خاطئة من سلطة لا تملك الشرعية، سوى شرعية التضحية بالشعب وموارده وقوانينه، كل هذه التضحيات التي تكون تحت سلطة غير شرعية تكون في النهاية تضحيات لصالح السلطة وليست لصالح الوطن.

اضف تعليق