عبر تاريخ الانسانية الطويل، كان الانسان ولا يزال، ميّالا للبحث عن النموذج الذي يقتدي به، في المجالين الفكري والعملي، أي في مجال القول والسلوك، وكان الانسان ولا يزال منذ ولادته حتى مماته، مراقبا جيدا لمن يؤمن بهم ويرى في افعالهم وسلوكم طريقا جيدا لبناء الحياة، ولعل اتخاذ المسلمين نماذج من ائمة اهل البيت عليهم السلام، واسوة حسنة لهم، هو الدليل القاطع لما ذهبنا إليه، فقد دأب المؤمنين على متابعة أقوال الائمة عليهم السلام، ومتابعة مواقفهم الخالدة في التاريخ، وانطلاقا من ذلك كان أئمتنا عليهم السلام مثالنا على مر التاريخ، في المواقف الخالدة.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (نحو بناء النفس والمجتمع)، إذ قال سماحته في هذا المجال: (لنا في موقف الإمام الحسين سلام الله عليه مع الحر وأصحابه في كربلاء قدوة أيضاً، فإن الإمام سلام الله عليه سقاهم الماء مع أنه كان يعلم أنهم – إلا الحرّ – قاتلوه بعد ساعة!). فإذا عرفنا واطلعنا على مثل هذه المواقف التي كانت تمثل خطاً واضحا وسيرة ثابتة لأئمة اهل البيت عليهم السلام، فإننا جميعا سوف نزداد تمسكا بهذا الطريق نحو بناء النفس والمجتمع في وقت واحد.
حتى في حياتنا الراهنة يمكن أن نلاحظ عيوب الآخرين في القول والعمل، وربما يكون منهم أناس على مستوى عال من المسؤولية والمنصب والصلاحيات، ومع ذلك فنجد انهم قد يُخطئون في موقف او سلوك معين، وقد ينعكس مثل هذا السلوك بصورة معينة علينا وعلى الآخرين، ولكن في جميع الاحوال علينا أن نتمسك بالطريق الواضح للائمة الاطهار عليهم السلام والقيم التي زرعوها في الناس من أجل صلاحهم، ولا ينبغي أن تؤثر علينا الافكار أو الأعمال المسيئة مهما كان أصحابها، لأن المهم دائما أن يكون الانسان صالحا ومصلحا في الوقت نفسه، وأن لا يعتدّ بما يقوم به المخربون من أفعال أو ما يطرحونه من أفكار، لأن المخربين يهدفون الى تدمير الحياة من خلال نشر الانحراف في المجتمع، لذا علينا أن نتخذ النموذج الأمثل لنا كأسوة حسنة في حياتنا، ولا نتأثر بمن لا يمت بصلة للمخربين الذين لا علاقة لهم بمبادئ وأفكار أهل بيت النبوة عليهم السلام أجمعين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي بكتابه المذكور نفسه، حول هذا الجانب: (لنسعَ لأن نصلح ما خرّب غيرنا. ونقول للناس: إن النبي والأئمة سلام الله عليهم كانوا صلحاء ومصلحين، فلا تتأثروا بما يصدر عن غيرهم).
تقديم النموذج الأفضل
إن عملية بناء النفس تستدعي منا، أن لا نكتفي باتخاذ النموذج الأفضل اسوة حسنة لنا فحسب، بل هناك دور آخر نحن مطالبون به، ألا وهو تقديم النموذج الأفضل للاخرين، أي نكون من خلال اقوالنا واعمالنا نماذج جيدة لمن يتواجد في محيطنا المجتمعي، وهذا بالضبط ما أراده منا الامام الحسين عليه السلام، فلا يصح أن ندّعي الانتساب الى الفكري الحسيني ولا نعمل به، ولا يصح أن ندعو الاخرين للصلاح قبل أن نصلح أنفسنا، وليس من المناسب أن نتمسك بمبادئ الامام الحسين عليه السلام، ولا نستطيع أن نقدم النموذج الافضل للاخرين في سلوكنا وأقوالنا، لذلك يطالبنا أئمة أهل البيت بأن نكون النموذج لغيرنا في اصلاح الذات، والانتساب للخير وتوابعه بأفعالنا واقوالنا، وينبغي ان نسعى دائما لأن نكون مثالا للاخرين في هذا الجانب.
لذلك يطالبنا سماحة المرجع الشيرازي بكتابه المذكور نفسه، بأن نقدم النماذج الرائعة للناس دائما، أي نكون نحن اولا مثلما يريدنا الامام الحسين من حيث الأفعال والافكار، لكي نكون نماذج جيدة تسهم في إصلاح الآخرين، إذ يقول سماحته في هذا المجال بكتابه نفسه: (لنسعَ لتقديم النماذج العملية للناس وهو ما أراده وطلبه منا الأئمة الأطهار سلام الله عليهم أجمعين).
وهناك أمر غاية في الأهمية، يتعلق بأهل العلم تحديدا، فربما نحاول أحيانا أن نتبرأ من أفعال واعمال واقوال بعضنا عندما يخطئ في مجال ما من مجالات الحياة، وهذا لا يصح بطبيعة الحال، بمعنى لا يجوز ان نقول أن هذا الفرد لا يمثلنا، وانما ينبغي العمل بجدية لتدارك مثل تلك الاعمال المشينة، وأن نعمل بجدية لتصحيح تلك الافكار والاعمال، وأن لا نتبرّأ منها، من خلال التهرّب أو التبرير، بل يجب أن نتصدى لعملية اصلاح الخطأ بقوة و وضوح.
وهذا هو بالضبط ما دعانا إليه سماحة المرجع الشيرازي، من خلال قوله الوارد في كتابه (نحو بناء النفس والمجتمع)، إذ يؤكد سماحته قائلا في هذا المجال: (إذا ما صدر من أحد أهل العلم تصرف مشين، ينبغي أن نسعى لتداركه ولا نقل إنه تصرف شخصي ولا علاقة لنا به).
وفي كل الاحوال كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي، لا ينبغي التنصل من المسؤولية، عن الاعمال المسيئة التي قد يرتكبها أو يقع فيها بعض اهل العلم المحسوبين على النماذج الجيدة، إنما الصحيح دائما، هو التصدي بجدية لتصحيح تلك الاخطاء بشفافية ووضوح وعدم تنصّل أو نكران لها، إنما الصحيح هو تصحيحها بروح المسؤولية الجماعية، مثلما نتعامل مع الحسنات والمواقف الجيدة، من خلال العمل الأفضل والأجمل الذي يشكل للاخرين، نموذجا في السلوك وفي القول الصحيح ايضا.
مكانة القَسَم وخطورته
من المواقف التي كان يتجنبها أئمة أهل البيت، هي الحلف او القسَم بالله عن أي شيء كان، وهذا المبدأ ينبغي أن نتعلم منه الكثير ونلتزم به، نحن الذين نرى ونؤمن بالأئمة جميعا أسوة لنا في حياتنا، فبناء النفس لا يمكن ان يتم بعيدا عن هذه المبادئ الكريمة الخالدة، ولا شك أن مكانة الله تعالى لا حدود لها عند الانسان المؤمن، ولا يمكن زجّها في الوقائع الحياتية مهما كبرت او عظمت، ولذلك كل ما يقوم به أئمة أهل البيت عليهم السلام، يعد خريطة فكرية وعملية لنا، نستقي منها سبل الحياة الافضل والاجمل والأقرب الى النجاح من سواه.
ولا شك أننا نتفق أن الروايات الشريفة والاحاديث المباركة عن آل بيت النبوة الاطهار، تعد دروسا لنا نتعلم منها، ونبي بها أنفسنا ونحصنها ونصونها من الوقوع في الزلل، ومما انتهجه أئمتنا عليهم السلام وفق مبادئ كثيرة عديدة تربوية اخلاقية وعملية، تفيد الانسان، هو عدم القسم، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي، ومثلما يرد ذلك في كتابه المذكور نفسه، حول جملة من النصائح والمبادئ التي كانت حاضرة في حياة أئمتنا الاطهار، تطرّز مواقفهم المبدئية بالتوفيق والنجاح الأكيد، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه (نحو بناء النفس والمجتمع):
(في رواية صحيحة – عن الإمام الصادق عن الإمام الباقر سلام الله عليهما – أن الإمام السجاد سلام الله عليه كان مديناً لشخص بأربعمائة دينار ثم وفاه بعد ذلك. إلا أن الشخص أنكر على الإمام ذلك وطالب بالمبلغ مجدداً أو أن يحلف الإمام بالله تعالى أنه وفاه، ولكن الإمام أمر ابنه الباقر سلام الله عليهما أن يعطيه المال ولم يكن مستعدّاً لأن يحلف. وكان الدينار الواحد يمكن أن يشترى به خروفا يومذاك، ما يدلّ أن المبلغ لم يكن قليلاً، ومع ذلك لم يحلف الإمام وهو صادق!).
وهكذا يبقى أئمة أهل البيت عليهم السلام أسوة لنا، في حياتنا، ومواقفنا العملية والفكرية، كونهم مدرسة انسانية عظيمة، تقدم للانسانية جمعاء دروسا في بناء النفس، وشق طريق النجاح في شقيّه الدنيوي والاخروي، على حد سواء.
اضف تعليق