q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

ما الأهداف المبطَّنة لطلب العلم؟

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

لن يستفيد الإنسان العالم المتعلّم بشيء إذا وظف علومه والكم المعلوماتي الذي يحصل عليه لصالح الشر، فيخدع الناس حتى يهيمن على عقولهم، لأنهم سرعان ما يكتشفوا الزيف، فينظروا إلى من يخدعهم باستخفاف وسخرية، لكن إذا كان العلم والثقافة تصب في صالح الناس، فإن الإنسان المتعلم سوف يكسب الناس ويفوز بالرضا الإلهي الأهم والأكبر...

(الشيء الذي يميّز طلاب العلم بعضهم عن بعض هو النيّة)

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)

كل شيء يطلبه الإنسان يقف وراؤه هدف يتطلع إلى تحقيقه، وأية خطوة يخطوها الإنسان في طريق المعرفة والاستزادة منها ينتظر نتائج هذه الخطوة، بمعنى هناك مدخلات تتمثل بطلب العلم وهناك مخرجات هي بمثابة النتائج المستخلَصة مما تعلّمه أو درسه، سواء كان ذلك في مدرسة أو جامعة أو في أية مؤسسة تعليمية أخرى.

هذه المخرجات هي التي العلمية هي التي تحدد مكانة وقيمة الإنسان المتعلّم، فهناك أناس يوظفون ما تعلّموه لصالح أنفسهم ولتطوير مجتمعهم وعائلاتهم، لكن هناك من يجعل من التعلّم طريقا أو وسيلة لاستغفال الناس وخداعهم، وهذه أسواء المخرجات التي تنتج عن تعلّم بعض الناس هنا أو هناك، فحين يكون العلم وسيلة للخداع سوف يسقط هو وصاحبه.

بعض الناس يذهبون وراء العلم، لغاية ليست سليمة، وإنما يوظفون ما تعلموه لغواية الناس وخداعهم والسيطرة على عقولهم، لكي يستفيد منهم هذا المخادع من أجل تأييده ومساندته على تحقيق مآربه غير الصحيحة أو المحرّمة، وهناك من يفيد الناس ونفسه مما يتعلّم.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يناقش هذه القضية في كتابه القيّم الموسوم بـ (يا أبا ذر)، فيقول سماحته:

(هناك نوع من العلماء لن يجدوا ريح الجنّة ويُحرمون من رؤيتها، وهم أولئك الذين يسعون وراء العلم، ولكن هدفهم من التعلّم كسب القدرة على خداع الناس، وإرادتهم تصيير الباطل حقّاً والحقّ باطلاً).

إنه يبتغي طلب العلم والتعلّم، وهذا هو العنوان العريض لغايته المعلَنة، لكن هنالك غايات وأهداف مبطّنة لا يعرفها إلا طالب العلم، وهي تتوافق مع نيّته المسبقة من التعليم، فهل يريد أن يتعلم كي يرتقي بالناس درجة أعلى ويخدمهم ويزيد من وعيهم، أم أن نيته غير المعلنة يهدف من ورائها خداع الناس كي يهيمن على عقولهم؟

هذه الهيمنة العلمية يستخدمها المتعلِّم في اتجاهين، الأول لمصالحه وغاياته ونواياه غير المعلنة، والثاني وهو الأصح والأسلم يجعل علمه فيما يريده الله تعالى، وهذا النوع من المتعلمين أو العلماء هم الأقرب لله تعالى، فلا توجد لديهم نيّة مبطنة، ولا غايات مغطاة بالخداع والعلم الكاذب الذي يهدف الهيمنة على عقول الناس وتعطيل إرادتهم وخياراتهم الصحيحة في الحياة.

المذهب السفسطائي ومآربه السيّئة

لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا: إن (الابتغاء يعني الطلب، و «من ابتغى العلم» أي من سعى وراء العلم، وهو بطبيعة الحال يجهد جهده لكسب العلم، إلاّ أنّ دافعه لذلك هو التعلّم لبسط هيمنته على أذهان الناس ليجرّهم إلى حيث يريد هو، لا إلى حيث يريد الله تعالى).

إخفاء النية من طلب العلم ليس جديدا، فهو معروف في مراحل تاريخية عديدة، وتم استخدامه لخداع الناس، كما نلاحظ ذلك مآرب السفسطائيين الذين سعوا إلى قلب الحق باطلا وبالعكس، وقد انتشر هذا المذهب على الرغم من أنه يقوم على نوايا مخاتلة وليست سليمة، وقد شاعت على نحو واسع من خلال اعتماد المغالطات وتحويلها من حقيقتها كأسلوب مخادع، إلى محاولة دمجها بالصدق وهي أبعد ما تكون عنه.

وقد بذل هؤلاء المتحايلون على الحقائق جهودا كبيرة في تعلّم هذه المغالطات، وحاولوا بكل السبل والوسائل أن يجعلوا منها مقبولة، ويقنعوا بها الناس لتدمير الحق وإعلاء شأن الباطل.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذه النقطة:

(ليس هذا النوع من الدوافع بالجديد، وإنّما هو دافع عرفه الإنسان منذ القدم، ومثال ذلك ما يعرف بمذهب السفسطائيين والسفسطة، حيث تمّ التخطيط لنشر وتوسعة وتفعيل هذا النوع من التفكير لخلط الحقّ بالباطل، والتأسيس للمغالطات الفكرية في القضايا الحقوقيّة، والذين اشتغلوا بهذا الشغل عكفوا على دراسة الفلسفة والحقوق، فتعلّموا بشكل رسميّ أصول المغالطات، ليلبسوا الحقّ بالباطل أثناء المرافعات القانونية).

هنالك أناس كثيرون يسعون إلى العلم والمعرفة والثقافة، ويحاولون تحويل علمهم وما تعلموه إلى أفكار يتم توصيلها للناس عبر المؤلّفات أو الوسائط الأخرى، لكن يبقى الأهم ماذا يهدفون من وراء نشر أفكارهم وعلومهم ومعارفهم وثقافتهم.

المهم ماذا يُبطن وليس ماذا يعلن ثم يتصرف بطريقة مناقضة، هذا هو المهم في عمل العالِم، أما إذا كان الهدف هو الخداع وكسب المادة أو كسب العقول لمصالح ومآرب معينة، فإن هذا السعي غير مقبول، أما كيف نعرف ما هي أهداف العالم، فهذا يتبع نيّته الباطنة، وأهدافه المبطنة، هي التي تقف وراء نشاطاته وأعماله المختلفة في التأليف أو سواه.

يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) هذا المنحى لبعض العلماء فيقول:

(كثير من الناس يدرسون ويعظون ويهدون الآخرين إلى الصراط السويّ. وكثير من الناس يمارسون الكتابة والتأليف، وكلٌّ منهم يشبه الآخر، ويعمل كلّ منهم ـ حسب الظاهر ـ كما يعمل سواه، غير أنّ العامل الذي يميّزهم شيءٌ يمكن تسميته: (النيّة) وهي التي تفرّق وتميّز الطرفين في حقيقة الأمر أو عالم المعنى).

عناصر تقييم الأعمال الصالحة والطالحة

على الرغم من وجود عناصر يمكن أن تدخل في تقييم سلوك وعمل الإنسان، إلا أن النيّة غير الظاهرة، تلك التي تكون في داخل الإنسان وحده، وهو الذي يعرفها ويحددها مستقبلا، هذه النية هي التي تحدد طبيعة العمل، مع العناصر الأخرى التي تساعد على التقييم وإعطاء الأفضلية لها أو العكس من ذلك.

النية هي الأهم والأكبر من جميع العناصر الأخرى لتقييم الأهداف التي ينشدها الإنسان وراء سعيه نحو التعلّم والاستزادة من الثقافة، لذلك تبقى النية بين الإنسان وبين ربّه فقط.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يُجمل هذه العناصر بالقول:

(هناك أربعة عناصر تمثّل ملاكات لتقييم عمل وسلوك الإنسان عموماً، وهي: النيّة. كيفيّة العمل. كميّة العمل. نتيجة العمل. وجميع هذه العناصر دخيلة ومؤثّرة في تحديد قيمة العمل، إلا أنّ عنصر «النيّة» له من التأثير الكبير ما يفوق غيره من العناصر بصورة مباشرة وحسّاسة).

لذلك يصف سماحة المرجع الشيرازي النيّة بـ (الجوهرة الأصيلة)، ويضعها بمثابة المعيار الأهم الذي يحدد قيمة الأعمال أيّا كان نوعها، فطالما كانت نية الإنسان سليمة، وهدفه الخير، ونشر العلم بين الناس من دون مغالطات أو مآرب مسيئة، فهذا هو الأمر المطلوب.

ومع كل ذلك يبقى الله تعالى هو العالم والعارف بنوايا الإنسان مهما كان نوعها، ومهما كانت الأهداف المرسومة وراءها، فإذا أمكن للإنسان أن يغالط أو يغافل أو يخدع أخاه الإنسان، فإنه لا يتمكن من ذلك حين يتعلق الأمر بالله تعالى، حيث يعرف ما تخفيه الصدور وما تبطنه السرائر، لذا لابد أن تكون نوايا الإنسان العالم والمتعلّم في إطار ما يريده الله سبحانه وتعالى.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إنّ النيّة بمثابة الجوهرة الأصيلة والمحور الذي يحدّد لكلّ عمل قيمته المناسبة، والله سبحانه وتعالى من جانبه محيط بجميع النوايا ولا يعزب عنه أمر من الأمور ونيّة من النوايا).

في النهاية، لن يستفيد الإنسان العالم المتعلّم بشيء إذا وظف علومه والكم المعلوماتي الذي يحصل عليه لصالح الشر، فيخدع الناس حتى يهيمن على عقولهم، لأنهم سرعان ما يكتشفوا الزيف، فينظروا إلى من يخدعهم باستخفاف وسخرية، لكن إذا كان العلم والثقافة تصب في صالح الناس، فإن الإنسان المتعلم سوف يكسب الناس ويفوز بالرضا الإلهي الأهم والأكبر.

اضف تعليق