حسب الواقع الجديد فإن تعلم مهارة التحقق من المعلومات المنتشرة في أرجاء العالم الرقمي هي التي تعطي ميزة إضافية لصحفي على آخر، حيث تفتقر المكتبة العربية إلى المصادر التي تناقش عمليات التحقق من الأخبار والمعلومات الرقمية، وأساليب كشفها بالطرق المثبتة بالتجربة العلمية والعملية...
تمثل فوضى المعلومات التحدي الأكبر الذي يواجه الصحفيين في العصر الرقمي، لم يعد الحصول على المعلومات والبيانات صعباً، إنما الوفرة المعلوماتية هي من بدأت بتشتيت الصحفيين وتعقيد المهمة من خلال انتشار الأخبار غير الدقيقة (المضللة، المزيفة، الساخرة ...ألخ).
وحسب الواقع الجديد فإن تعلم مهارة التحقق من المعلومات المنتشرة في أرجاء العالم الرقمي هي التي تعطي ميزة إضافية لصحفي على آخر، حيث تفتقر المكتبة العربية إلى المصادر التي تناقش عمليات التحقق من الأخبار والمعلومات الرقمية، وأساليب كشفها بالطرق المثبتة بالتجربة العلمية والعملية.
لقد أدت فوضى المعلومات إلى تلاشي مفهوم الفضاء العام الذي وضعه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، حيث رأى كثير من الباحثين أن الفضاء العام تمثله مواقع التواصل الاجتماعي، ومواقع الانترنت التي نقلت النقاش من النخب إلى عامة الناس، لكن هذا الفضاء تعرض لتلوث معلوماتي، من خلال الحملات المنظمة التي يقودها أشخاص أو منظمات أو حكومات، وبدل أن تسود القضية التي يجمع عليها الأغلبية وتتصدر "الترند" أصبح شخص واحد يملك مجموعة من الحسابات قادراً على فرض سرديته ورفعها إلى قائمة "الترند".
ومثلما للصحافيين والباحثين عن الحقيقة معايير لاحتراف واتقان المهنة، فإن المتلاعبين بالحقائق أشخاص قد احترفوا التزييف والتضليل، ليجعلوا المتلقي وحتى الصحفي المتمرس يتعرض لمواقف محبطة أثناء سعيه للإمساك بخيوط الحقيقة.
هذه البيئة القائمة على الصراع بين الصحفيين المحترفين وقادة حملات التضليل والتزييف رصدها مركز الصحافة الأوروبي عبر مجموعة من الدراسات التجريبية ودراسات الحالة، وجمعت في كتاب واحد حمل عنوان "دليل التحقق من عمليات التضليل والتلاعب الإعلامي – آليات التحقق على المنصات الرقمية والتحري عن حسابات التواصل الاجتماعي للكشف عن الأنشطة الموجهة وعمليات التلاعب بالمحتوى".
ميزة هذا الكتاب أنه لا يقدم وصفة واحدة جاهزة للتعاطي مع المحتوى الإعلامي المضلل كما هو معتاد في كتب التحقق، إنما يقدم مجموعة من الدراسات التجريبية، التي توضع بين يدي القارئ وتفتح عينه على الزوايا المظلمة في عمليات التزييف والتضليل، ليقرر القارئ بنفسه الطريقة التي يراها مناسبة وحسب طبيعة الحالة التي سوف يواجهها.
وتكشف كل حالة عن خطة مختلفة عن الاخرى، إذ يستخدم الأشخاص القائمون على عملية التلاعب الإعلامي أساليب متباينة تشبه أعمال التمويه التي يستخدمها اللصوص، والهدف بالنسبة للمتلاعبين سرقة مفاتيح العقل، والوسيلة هي الثقة التي يغلف بها المحتوى المضلل، ثم الدخول إلى مركز القناعات لدى المتلقي والتأثير فيها، وربما إعطائها جرعة معلوماتية ملوثة.
يؤكد الكتاب أن الثقة هي إحدى الركائز التي يقوم عليها المجتمع وهي العملة التي تسهل مختلف أشكال التعاملات، وهي أيضاً عنصر أساسي في التواصل والعلاقات، ورغم ذلك كله فإنه من الخطورة بمكان افراض الثقة أثناء التعامل مع البيئة الرقمية.
فنحن حالياً أهداف حيوية للحملات المنسقة والممولة بسخاء للاستحواذ على انتباهنا وتمرير رسائل وأجندات معينة، وتطويعنا جميعاً لصالح الحكومات أو غيرها من القوى الفاعلة.
الجانب الإيجابي في هذا الصراع أننا نملك مجموعة من الأبحاث المتنوعة القائمة على التجربة العلمية والتطبيقية الحية، لعدد من الصحفيين والباحثين الذين يرغبون بتقديم إرشادات ومعارف تتعلق بكيفية تنفيذ عمليات التحقق في مواجهة حملات التلاعب والتضليل والترويج في الوسائط الرقمية.
وإذا كانت الثقة هي المسمار الذي يخترق جسد العقل ويرغمه على استهلاك معلومات ملوثة، فإن الشك يمثل وسيلة الدفاع الإولى لمنع المحتوى التضليلي من الترسب إلى عقل الصحفي، فإن كنت تنطلق من افتراض أن حسابات تويتر التي تعمل على إعادة تغريد مقطع فيديو ما جميعها تقوم بذلك بشكل عفوي، لا شك أنك تعاني من ضعف مناعتك تجاه التضليل، ولو كنت تثق بأن كل مقال تقرأه يمثل عرضاً محايداً تماماً لقضية ما فستكون عرضة لاستهلاك محتوى مضلل.
على سبيل التوضيح، هل يعقل أن رجلاً من البيض يقود حملة احتجاجات "حياة السود مهمة"، والتي انطلقت في الولايات المتحدة الأميركية في صيف وخريف عام ٢٠١٧؟
قد يصدق العقل هذا الافتراض، على اعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة ديمقراطية وفيها مواطنون يبتعدون عن التحيز ويدافعون عن حياة السود لا سيما وأن الشعب الأميركي ذي الغالبية البيضاء قد انتخب رئيساً أسوداً ولمدة دورتين انتخابيتين.
وقد لا يصدق العقل هذا الافتراض لأن أميركا نفسها استبدلت باراك أوباما الأسود برئيس من البيض ومن المعادين للسود والمهاجرين وهو دونالد ترامب.
وقد يذهب العقل بعيداً عبر اتهام روسيا بدعم حملة "حياة السود مهمة"، لا سيما مع توافر الكثير من الأخبار والتقارير التي تتحدث عن مساعي الحكومة الروسية للتأثير على الحياة السياسية والاجتماعية داخل الولايات المتحدة، وقد دأبت الجهات الرسمية ووسائل الإعلام على استخدام مثل هذه الادعاءات حتى تحولت إلى ما يشبه الحقيقة المطلقة التي لا تحتاج إلى مناقشة أو تشكيك.
وسط هذه البيئة المعقدة قد تدخل أطراف لا يتوقعها أحد لتوظف الموقف لصالحها وما يترتب عليه من فوائد سياسية أو مالية أو أي شيء آخر، وهذا ما حدث بالفعل مع حملة الاتهامات لروسيا بدعم حملة "حياة السود مهمة"، ليكتشف أحد أبحاث هذا الكتاب "دليل التحقق"، أن مدير الصفحة الرئيسية المحركة لحملة حياة السود مهمة، والتي يتابعها أكثر من ٧٠٠ ألف حساب لم يكن من السود ولا من المهتمين بقضيتهم، ولا من الراغبين بتخريب الأمن الأميركي، إنما هو شخص أبيض يعيش في استراليا استغل الجدل السياسي من أجل جمع التبرعات بحجة تمويل حملات دعم السود بينما استولى هو على الأموال.
لم يكن اكتشاف الصفحة المزيفة سهلاً، بل تطلب جهوداً كبيرة للتحقق ومتابعة جذورها، واستخدام كافة الحيل التكنلوجية، فضلاً عن التواصل الشخصي المباشر واستمرت لمدة ليست بالقصيرة.
والنتيجة الإيجابية في كل هذه الجهود قد أعطتنا درساً متفرداً في التعاطي مع محتوى مواقع التواصل الاجتماعي بطريقة مبتكرة، وأكدت أن الصحافة المحترفة ما زالت هي الجدار الأمين الذي يستطيع المتلقي أن يستند إليه عندما تشتبك الأمور.
قيمة الكتاب بتضمينه خمس عشرة دراسة حالة موثقة بالتجربة العملية، مع تقديم مؤشرات للصحافيين والباحثين في مجال الإعلامي لكي يستفيدوا منها في التعاطي مع المحتوى المضلل والتلاعب الإعلامي.
اضف تعليق