استخدام الإنترنت قد أدى إلى دوائر دماغية متكيفة ليست هي نفسها التي تم إنشاؤها لقراءة الكلمات المطبوعة على الصفحة الورقية. وهذا يعني أن هناك تحول في معيار التعلم. وبالتالي لا بد للدماغ البشري أن يفكر في تطوير إستراتيجية معرفية جديدة للحفاظ على المعلومات والبيانات التي يمكن أن يحصل...
في عالم متسارع حيث تغلغلت التكنولوجيا في كل جانب من جوانب حياتنا، يظهر كتاب “السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا”، المعروف بالإنجليزية باسم “The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains”، كمرآة تعكس لنا تأثير هذا العالم الرقمي على طريقة تفكيرنا وتصرفاتنا.
وقد صدر مؤخرًا عن دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع كتاب مترجم بعنوان “السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا”، للصحافي والباحث الإنجليزي نيكولاس كار (Nicholas Carr)، ترجمة وفاء م. يوسف.
(صدر الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2010، ووصل إلى القائمة النهائية للكتب المرشحة لجائزة البوليتزر في عام 2011).
الكتاب من الحجم المتوسط، وعدد صفحاته 288. ويتكون الكتاب من تمهيد بعنوان “كلب الحراسة واللص”، وعشرة عناوين رئيسة: “1) أنا وهال ـ 2) المسارات الأساسية ـ 3) أدوات العقل ـ 4) الصفحة المعمقة ـ 5) وسيلة ذات طابع عام للغاية ـ 6) صورة الكتاب بحد ذاتها ـ 7) دماغ البهلوان ـ 8) كنيسة غوغل ـ 9) البحث، الذاكرة ـ 10) شيء يشبهني.
“، وخاتمة بعنوان “العناصر البشرية”، إلى جانب قائمة من الاقتراحات لمزيد من القراءة والاستفادة.
يأخذ المؤلف نيكولاس كار القارئ في رحلة تاريخية للاختراعات التكنولوجية التي يُنظر إليها على أنها قمة التطور الإنساني، حيث يقوم بإعلام القارئ وتنبيهه بشأن الآثار المترتبة على أحدث الابتكارات مثل الإنترنت. وكار هو كاتب في النيويورك تايمز، وول ستريت جورنال، وأتلان-تيك. وهو من أهم الكتاب المعنيين والمهتمين بدراسة تكنولوجيا الإنترنت.
يحاول كار في كتابه أن يستكشف تأثير التكنولوجيا على الدماغ، من خلال عملية التصفح على شبكة الإنترنت، فهو يظهر أن “القراءة عبر الإنترنت” تؤدي إلى فهم أقل من قراءة الصحف والكتب المطبوعة. كما يجادل كار بأن النقر على شبكة الإنترنت، قد أدى إلى التقليل من قدراتنا على التركيز المستمر والتفكير بطريقة خطية. وبدلاً من ذلك، أصبحنا نقوم بالقفز على سطح المعرفة؛ أي أننا لا نتعمق بشكل صحي في أعماق البيانات والمعلومات، وإنما أصبحنا نرضى بالخوض في المياه الضحلة.
ويقدم الكتاب استعراضًا مثيرًا للقلق ولكنه مقنع حول التأثيرات الواسعة التي أحدثتها الثورة الرقمية على تفكيرنا، وبالأخص عمقه. من خلال الاعتماد على الأدلة العلمية، التحليل التاريخي، والتأمل العميق، يُظهر كار الطرق العميقة التي تُعيد الإنترنت تشكيل مساراتنا العصبية وفي النهاية، عقولنا.
الفكرة الأساسية في الكتاب تدور حول مفهوم التفكير العميق والفقدان المزعج لهذه المهارة العقلية القيمة في وجه العصر الرقمي. التدفق المستمر للمعلومات، والطابع المتفرق للمحتوى الإلكتروني، والسرعة التي نستهلك بها المعلومات، كلها أدت إلى خلق نهج سطحي لقراءة ومعالجة المعلومات. على عكس طبيعة القراءة الكتابية التي تتيح لنا الغمر العميق والتأمل والتفكير، تُشجع القراءة الإلكترونية في كثير من الأحيان على المرور السريع، والقفز من رابط إلى آخر، والانشغال المستمر بالتنبيهات والتحديثات.
هذه العادات الرقمية، كما يقترح كار، لا تغير سلوكياتنا في القراءة فقط، ولكنها تؤثر أيضًا على قدرتنا على التأمل، التفكير النقدي، والإبداع. عندما نتم مقاطعتنا أو تشتيت انتباهنا باستمرار، لا تحصل أدمغتنا على الفرصة للانخراط في العمليات المعرفية العميقة، التي تعد أساسية للتفكير النقدي، تكوين الذكريات الدائمة، وإشعال الإبداع.
وفي هذا السياق، يستشهد كار ببعض من أحدث الأبحاث في علم الأعصاب لدعم ادعاءاته، قائلاً: “في كل مرة نقوم بمهمة ما أو نشعر بإحساس ما، سواء أكان ذلك الشعور جسديا أم نفسيا، تنشط حينها مجموعة من الخلايا العصبية في أدمغتنا(…) وكلما تكررت التجربة الشخصية ذاتها، تزداد قوة روابط المشابك العصبية بين الخلايا العصبية، ويكثر عددها بفعل التغيرات الفيزيولوجية، كإفراز النواقل العصبية بتركيز أعلى…”” (ص: 43). إذ يحاول كار أن يفهم كيف تؤثر وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال على طريقة تفكيرنا وتشتيت انتباهنا دون وعي منا، “فالمراهق الأمريكي يرسل أو يستقبل 2272 رسالة نصية في الشهر، وهو عدد مهول فعلا”(ص: 116). زيادة على ذلك، هناك دراسات أكدت ارتفاع في مشاهدة التلفزيون، بمعدل 5 ساعات في اليوم في المتوسط، والهواتف المحمولة التي تدعم الويب. وعليه، يؤكد كار أن هذه المشتتات المستمرة تسبب تغيرات في الدماغ، حيث تؤدي مثل هذه الممارسات إلى جعل المرء أكثر انسجامًا مع الإلهاء، وبالتالي أقل قدرة على أداء النشاط الذي يتطلب تركيزًا كبيرًا واهتمامًا مستديمًا.
وعلى الرغم من أن شبكة الإنترنت تمثل خروجًا جذريًا على باقي وسائل الإعلام التقليدية من نواح عديدة، إلا أنها في الوقت ذاته، تمثل أيضًا استمرارًا للاتجاهات الفكرية والاجتماعية التي ارتبطت بوسائل الإعلام الجماهيري خلال القرن العشرين، والتي كان لها دور في تشكيل حياتنا وأفكارنا منذ ذلك الحين. وهو ما يعني أن هناك العديد من الوسائل التي كانت وما زالت تلهي حياتنا، علمًا أنه لم يكن هناك وسيط، مثل شبكة الإنترنت التي تمت برمجتها بغرض تشتيت انتباهنا على نطاق واسع والقيام بذلك من دون وعي منا.
لقد قام كار في كتابه بتخصيص فصول للدراسات الحديثة التي تهتم بوظائف الدماغ، عن طريق تجميع مجموعة من المعطيات للدفاع عن حجته بأن الوسائط الإلكترونية المتعددة تؤثر كثيرا على العقل البشري، مثل انخفاض الفهم والتركيز وقلة القدرة على التحليل أو التفكير الإبداعي. فهو يعارض ادعاءات عشاق التكنولوجيا بأن شبكة الإنترنت سوف تعمل على توسيع العقل البشري وأنها سوف تعزز التفكير العميق وتجعله أكثر إبداعا، حيث يظهر كار أن البحوث العلمية دحضت هذا الافتراض الذي كان مقبولا لوقت طويل. ذلك أن هذه الوسائط الإلكترونية تعمل على تشتيت فهمنا واستيعابنا لأشياء، ويقول كار: “يجهد تقسيم الانتباه الذي تقتضيه الوسائط المتعددة قدراتنا الإدراكية أكثر فأكثر، فيتضاءل بسببه تعلمنا، ويضعف فهمنا”(ص: 171). ومع ذلك، يشير كار إلى أن استخدام الويب يعزز من سرعة اتخاذ القرار وحل المشكلات والتنسيق الذهني. لكنه في الآن نفسه يتساءل حول ما إذا كانت هذه الإيجابيات أكثر من السلبيات.
بالنسبة إلى كار، إذا كانت شبكة الإنترنت توفر للمستخدمين سرعة في الوصول إلى عدد كبير من المعلومات، فإنها تشجع أيضًا على السطحية في انتقاء المعرفة والمعلومات. ولتأكيد موقفه فإنه يستشهد ببعض الدراسات. وعلى سبيل المثال، في دراسة قام بها جيكوب نيلسون (Jakob Nielsen) في عام 2006، وجد أن الأغلبية قامت بقراءة مقالة على الويب بطريقة تشبه الحرف (F) والتي ترمز إلى السرعة. فقد تمت قراءة الأسطر القليلة الأولى من النص بالكامل، ولكن بعد ذلك تراجع القراء لقراءة بضعة أسطر أخرى، ثم بعدها تنخفض أعينهم ليتفحصوا الباقي، مع التركيز بشكل أساسي على الجانب الأيسر من الصفحة. إذ لم يقض معظمهم أكثر من 4.4 ثانية في كل صفحة (ص: 178).
الفكرة التي تتكرر في الكتاب هي أن الدماغ البشري مرن ويمكن تشكيله من خلال مجموعة من الإجراءات التي ترتبط بالوسائط الرقمية. فوفقا لكار، نحن في خطر فقدان قرون من التقدم على مستوى بناء مهاراتنا في التفكير والتعلم، فهو يبين أن الأدمغة، تعمل بشكل مختلف بعد استخدام الوسائط الرقمية. وقد تكون بعض النتائج إيجابية، مثل القدرة على الحكم في موثوقية المعلومات الموجودة على الويب بسرعة وتحديد كمية المعلومات، جنبًا إلى جنب مع التحسينات المذكورة غالبًا في “التناسق بين اليد والعين، ورد الفعل المنعكس، ومعالجة المنبهات البصرية”(ص: 182). ومع ذلك، فإن النتائج الأخرى قد تكون سلبية، فقد تكون الكفاءة التي تحتكم إلى الآلة والتي تساعد في اكتشاف المعلومات واسترجاعها “مدمرا للنموذج الريفي القائم على التفكير التأملي”(ص: 218).
ونتيجة لذلك، فإن اعتمادنا على الإنترنت بكثرة في أداء المهمات يؤثر بدوره في الذاكرة، وكما يقول كار: “كلما استخدمنا الشبكة أكثر، مرنا أدمغتنا أكثر على التشتت، أي على معالجة المعلومات بسرعة كبيرة وبكفاءة عالية، إنما دون انتباه مستمر”(ص: 251). وبالتالي، من المحتمل أن يكون لاستخدام الإنترنت أثارا جانبية حتى على الأكاديميين والباحثين الذين لديهم القدرة على التحكم في استخدام الحاسوب واستهلاك الإنترنت. فهناك دراسات تؤكد أن الأدوات التي نستعملها في الإنترنت لغربلة المعلومات تؤثر في عاداتنا العقلية وتؤطر تفكيرنا. وقد نشر عالم الاجتماع جيمس إيفانز (Jemes Evans) دراسة في مجلة Science، جاء فيها أن “عدد الاقتباسات في المقالات الأكاديمية المطبوعة والقديمة قد انخفض بشدة، مع الاعتماد بشكل أكبر على المقالات الحديثة المنشورة على الإنترنت”(ص: 277).
فهم النيوروبلاستيسيتي في السطحيون
في عصرنا الرقمي المتطور بسرعة، يبرز سؤال ملح: كيف تؤثر التكنولوجيا، وبالأخص الإنترنت، في قدراتنا المعرفية؟ يغمر الكتاب في هذه المسألة الملحة، حيث يبحث في تأثير الإنترنت الهائل على هياكلنا العصبية.
أحد الموضوعات الرئيسية التي يستعرضها كار ببراعة هو النيوروبلاستيسيتي. للذين لا يعرفونه، النيوروبلاستيسيتي يشير إلى قابلية وظائف وهياكل دماغنا للتكيف. على عكس الماكينة الصلبة التي كان البعض يعتقد في السابق أن دماغ الإنسان كان كذلك، فإن دماغ الإنسان فعلياً ديناميكي وقابل للتغيير بشكل كبير بناءً على تفاعلاته وتجاربه. وهذه المرونة تصبح خاصةً ذات صلة في سياق تفاعلنا اليومي مع التكنولوجيا الرقمية.
وإذا فكرنا في الساعات العديدة التي نقضيها في التمرير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو الانتقال من وصلة إلى أخرى، أو تصفح المقالات عبر الإنترنت بسرعة، فإن هذه التفاعلات، كما يشير كار، ليست بريئة. إنها تعيد توجيه مساراتنا العصبية تدريجياً، مفضلة الانتباه السريع ومعالجة المعلومات المجزأة. ويمكن أن يكون لهذا التحول تأثيرات عميقة على قدرتنا على الانغمار في الفكر العميق.
في الختام، يقدم “السطحيون” استكشافًا عميقًا لكيفية تشكيل تكنولوجيا العصر الرقمي لنسيج عملياتنا المعرفية. من خلال فهم النيوروبلاستيسيتي، نحصل ليس فقط على رؤية قدرة أدمغتنا على التكيف، ولكن أيضًا على المسؤولية الكبيرة التي نحملها كمستخدمين ومبتكرين للتكنولوجيا. إنه دعوة للتفاعل الواعي في عصر التواصل الرقمي المستمر.
كيف ساهمت التقدمات التكنولوجية التاريخية في فهم تأثير الإنترنت على عقولنا؟
تاريخ التقدم التكنولوجي غني ومتنوع، حيث يعمل كقواعد أساسية لعصرنا الرقمي الحالي. يقدم نيكولاس كار في كتابه “السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا” دراسة معمقة حول هذا الموضوع، مركزًا على كيف أثرت الابتكارات السابقة على الإدراك البشري، ممهدةً الطريق لتأثير الإنترنت العميق علينا.
إذا نظرنا إلى اختراع الساعة، فلم يكن هدفها فقط قياس الوقت، بل تغيرت من خلالها نظرتنا إليه. قبل استخدام الساعة على نطاق واسع، عاش البشر وفقًا لإيقاعات الطبيعة: شروق وغروب الشمس وتغير الفصول. أدخلت الساعة تقسيمًا منهجيًا للوقت، مما أدى إلى تنظيم الأنشطة اليومية وتغيير علاقتنا بالوقت نفسه.
بالمثل، أدى ظهور الكتاب المطبوع إلى ثورة في نقل وتوفير المعلومات. قبل هذا، كانت المعرفة محصورة في دوائر النخبة. أدخلت طابعة غوتنبرغ الديمقراطية إلى المعرفة. ومع ذلك، لم يتوقف التأثير عند هذا الحد، فقد أثرت الكتب المطبوعة أيضًا في عملياتنا المعرفية، مما أشجع على القراءة العميقة وتحفيز التفكير التحليلي.
وعند الانتقال إلى العصر الرقمي، نجد الإنترنت يأخذ مكانة مركزية في حياتنا اليومية. تمامًا كما أعادت الساعة والكتاب تشكيل إدراكنا في عصورهم، يقدم الإنترنت تحولات خاصة به. ولكن، سرعة وحجم تأثيره لا تسبقهما سابقة. بينما كانت التكنولوجيات السابقة تزرع عمق الفكر، الإنترنت يروج للعرض على حساب العمق.
ويبرز “السطحيون” أن تطورنا المعرفي مرتبط بشكل عميق بالتقدم التكنولوجي. ولفهم حقيقي لدور الإنترنت في تشكيل عقولنا، يجب أولًا تقدير الأحداث التاريخية التي عيّنت، على مر القرون، تجربة الإنسان المعرفية المستمرة.
هل تُهدد العصور الرقمية بتقليل عمق تفكيرنا؟
يقدم الكتاب استكشافًا ثاقبًا لتأثير العالم الرقمي على الإدراك البشري. مع تطور التكنولوجيا بسرعة فائقة، لا تقتصر تأثيراتها على كيفية تفاعلنا مع العالم من حولنا فحسب، بل تعيد بنية عقولنا من الداخل. أحد أبرز النقاط التي يركز عليها كار هو التناقض بين العمق والعرض في استهلاكنا للمعلومات.
تاريخيًا، كان البشر معتادين على قراءة متصلة وعميقة، حيث نغمر أنفسنا في السرد والحوار لفترات طويلة، مما يؤدي إلى التأمل والتفكير. هذا النوع من التفاعل، الذي تم تيسيره بشكل أساسي عبر الكتب المطبوعة، أغنى تفكيرنا التحليلي وعزز فهمنا العميق للموضوعات. وكانت عملياتنا المعرفية تسير بانسيابية، مركزة على الأمر الذي أمامنا وتتناول تفاصيله بدقة.
ومع دخول عصر الإنترنت، شهد هذا النمط تغييرًا كبيرًا. تشجع تصفح الويب الحديث، مع مجموعة متنوعة من الروابط والإعلانات والنوافذ المنبثقة وتيارات المعلومات اللانهائية، على القراءة السريعة. وفي هذا السياق، بدأت عقولنا في التكيف مع هذا البيئة الجديدة، حيث نقوم بمهام متعددة باستمرار ونفحص مصادر متنوعة بسرعة للبيانات. تُقلل طبيعة القراءة عبر الإنترنت، مع انقطاعاتها واضطراباتها، من عمق فهمنا.
لكن، ما هو التوازن هنا؟ من ناحية، يسمح لنا هذا التحول بوصول أوسع، حيث نستطيع الوصول إلى مجموعة كبيرة من المعلومات في فترة قصيرة. نصبح فعالين في معالجة البيانات، ماهرين في جمع المعرفة المستوحاة من السطح. من ناحية أخرى، قد تكون قدرتنا على التأمل العميق والتفكير معرضة للخطر.
بينما تقدم العصور الرقمية وصولًا غير مسبوق إلى المعلومات، فهي في الوقت نفسه تقدم تحديات لقوتنا المعرفية التقليدية. يدعو كتاب “السطحيون” القراء إلى التفكير في هذا التوازن، متأملًا التأثيرات طويلة الأمد لنفوذ الإنترنت على عقولنا ومجتمعنا ككل.
هل تؤثر العصور الرقمية في عمق تركيزنا؟
يقدم الكتاب صورة حية لبيئتنا الرقمية المعاصرة وتأثيراتها العميقة على التفكير البشري. في عصر الإشعارات المستمرة، والروابط التي يمكن النقر عليها، والوسائط المتعددة التي لا تنتهي، أصبح عمق تركيزنا موضوعًا للقلق.
في العصور السابقة، كان الأشخاص يقضون ساعات غارقين في مهمة واحدة، مثل قراءة كتاب أو العمل على قطعة فنية. كان هذا الغمر العميق في المهمة يوفر نوعًا من التغذية المعرفية. ومع ذلك، تشجع بيئة الإنترنت اليوم على تغيير الانتباه بسرعة. سواء كانت إشعارًا من وسائل التواصل الاجتماعي، أو رابطًا جذابًا يؤدي إلى موضوع آخر، أو فيديو يبدأ فجأة على صفحة ويب، تتعامل أدمغتنا باستمرار مع مؤثرات متعددة. قد يوفر هذا الأسلوب المتفرق في معالجة المعلومات رؤية عريضة، ولكنه غالبًا ما يتضحف العمق.
يوضح كار كيف تعيد هذه الانحرافات المستمرة تشكيل مساراتنا العصبية. عندما تعتادت أدمغتنا على ومضات معلومات قصيرة، تتناقص قدرتنا على التركيز لفترات طويلة. هذا ليس مجرد تغيير في السلوك فقط، بل هو تغيير عصبي. نسيج عمليات التفكير نفسها، المؤثرة بواسطة إيقاع التفاعلات الرقمية، تبدأ في عكس الطابع المتفرق لتصفح الإنترنت.
بالإضافة إلى ذلك، مع وفرة هذا الكم من المعلومات، هناك تحدي في التمييز بين التفاصيل الأساسية وتلك العابرة. تطرح السؤال: هل نصبح أفضل في معالجة المعلومات على السطح ولكن نخسر قدرتنا على التفكير العميق والتأملي؟ هل نتصحف عمق رواية من أجل رؤية تغريدة؟
بينما أحضرت العصور الرقمية بلا شك وصولاً غير مسبوق إلى المعلومات، إلا أنها تقدم أيضًا ضرورة للتأمل الذاتي. يحث الكتاب القراء على تقييم التوازن بين المحيط الواسع للمعلومات وعمق الفهم، ويدفعنا للتفكير في الآثار طويلة الأمد لقبضة الإنترنت على وظائف التفكير لدينا.
كيف يؤثر العصر الرقمي على الذاكرة وعملية التعلم؟
يتم إرشاد القراء إلى رحلة تفكيرية حول عالم الغمر الرقمي وتأثيراته العميقة على الإدراك البشري. واحدة من النقاط المهمة التي تم التطرق إليها هي العلاقة بين استخدام الإنترنت وتحوير الذاكرة.
الذاكرة قصيرة الأمد، التي تشبه في كثير من الأحيان “ذاكرة الوصول العشوائي” في الحاسوب، تخزن مؤقتًا قطع البيانات للاستخدام الفوري. ومع ذلك، يمثل العصر الرقمي، المشبع بتدفق مستمر من المعلومات، تحديًا. عند مواجهة عدد كبير من التبويبات والروابط ونتائج البحث الفورية من جوجل، قد تصبح قدرة دماغنا على الاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها في الأمد القصير متعبة. بدلاً من معالجة المعلومات بعمق، نحن نتصفح بسرعة ونتنقل بين المواضيع.
من ناحية أخرى، الذاكرة طويلة الأمد تعمل كوحدة تخزين ضخمة، تأرشف المعلومات التي يعتبرها دماغنا أساسية. في السابق، كانت عملية قراءة كتاب أو المشاركة في مناقشة طويلة تسمح بالتفاعل المعرفي العميق اللازم لترسيخ الذاكرة. الآن، قد يقلل الطابع المتجزئ للإستهلاك الرقمي من الحالات التي تتم فيها نقل المعلومات من الذاكرة قصيرة الأمد إلى الذاكرة طويلة الأمد.
علاوة على ذلك، فإن عملية التعلم، التي تشمل كلا نوعي الذاكرة، تمر أيضًا بتحوير. كان التعلم التقليدي يعتمد على التركيز والتكرار والتأمل. ومع ذلك، غالبًا ما يواجه المتعلم الحديث مفارقة: بينما تقدم شبكة الإنترنت موارد غير مسبوقة، قد تؤدي أيضًا إلى نهج سطحي وواسع بدلاً من نهج عميق وضيق. قد تمنع الوصول الفوري للمعلومات، في بعض الحالات، من الفهم الحقيقي، حيث قد يختار الأفراد الحصول على إجابات سريعة بدلاً من الفهم الشامل.
تثير استكشافات كار أسئلة حيوية للمعلمين والطلاب ولكل واحد منا: هل يعزز اعتمادنا على المنصات الرقمية التعلم الحقيقي أم يعيقه؟ هل نحن نصبح مجرد مستهلكين للمعلومات، أم ما زلنا قادرين على تحويلها إلى معرفة؟ من المهم أن ندرك أن شبكة الإنترنت، بينما تقدم وصولاً غير مسبوق إلى المعلومات، إلا أن عمق تفاعلنا مع تلك المعلومات هو الذي يحدد تأثيرها الدائم على عقولنا.
ويتناول الكتاب مفهوم التشكيل العصبي البلاستيكي، مشيرًا إلى أن أدمغتنا قابلة للتشكيل وتتكيف مع الأدوات التي نستخدمها. كلما انخرطنا في القراءة السطحية واسترجاع المعلومات بسرعة عبر الإنترنت، تتم معايرة أدمغتنا لهذا النوع من التفاعل، وربما على حساب عمليات التفكير العميق.
هل تغيرت طريقتنا في التواصل الاجتماعي بفضل الإنترنت؟
في عصر العولمة الرقمية، يغمرنا الكتاب بتأملات حول التأثيرات المحورية للإنترنت على مختلف جوانب الإدراك البشري. من أبرز الموضوعات التي تناولها الكتاب، نجد البحث في طبيعة التفاعلات الاجتماعية وكيف تطورت في ظل عصر الاتصال الإلكتروني.
تاريخيًا، كانت التفاعلات البشرية وجهًا لوجه، غنية بالإشارات غير اللفظية مثل لغة الجسد والنبرة وتعابير الوجه. وقد سمحت هذه التفاعلات بفهم أعمق وتعاطف أكبر وتكوين روابط أقوى. مع دخول عصر الإنترنت، شهدت طرق التواصل التي اعتدنا عليها تغيرًا جذريًا. أصبح البريد الإلكتروني والمراسلة الفورية ووسائل التواصل الاجتماعي ومكالمات الفيديو هي الوسائل الرئيسية للتواصل.
يشدد كار على التفاوت بين التفاعلات الاجتماعية عبر الإنترنت وتلك التي تحدث وجهًا لوجه. توفر وسائل الاتصال عبر الإنترنت فرصة غير مسبوقة للتواصل، حيث تمحو الحواجز الجغرافية وتسمح بالتفاعل الفوري بين القارات. ومع ذلك، هناك جانب آخر: التفاعلات عبر الإنترنت، كما يصفها كار، غالبًا ما تفتقر إلى العمق الذي نجده في المحادثات الوجهية.
إحدى التداعيات الرئيسية التي يبرزها الكتاب هي الانعكاس السلبي على العلاقات الاجتماعية العميقة. مع التعود على التفاعلات القصيرة والسريعة عبر الإنترنت، قد نصبح أقل استعدادًا للاستثمار في المحادثات الطويلة والمعنوية، مما يؤدي إلى تقليل العمق في علاقاتنا.
ويحثنا كار في كتابه ليس على التخلي عن التواصل الرقمي، ولكن على التفكير العميق في كيفية استخدامه. إن التحدي يكمن في الحفاظ على عمق وجودة علاقاتنا الاجتماعية في عصر الاتصال الرقمي.
هل الوصول السريع إلى المعلومات على الإنترنت يؤثر على عمق فهمنا؟
في عصر الرقمنة الحالي، لا يمكننا إنكار القدرة الاستثنائية التي يقدمها الإنترنت في الوصول إلى الكثير من المعلومات خلال ثوانٍ معدودة. يقدم الكتاب نظرة عميقة إلى العلاقة بين سرعة الحصول على المعلومات عبر الويب وعمق فهمنا لها.
لقرون، كان اكتساب المعرفة عملية مدروسة. المكتبات، الندوات، والمناقشات الطويلة كانت الوسائل التي من خلالها اكتسب الناس المعلومات وهضموها. سمح هذا بالتأمل العميق والفهم الحقيقي. ومع ذلك، أحدث ظهور الإنترنت ثورة في هذا. الآن، مع محركات البحث في متناول اليد، يصبح عالم المعلومات على بعد نقرة واحدة فقط. ولكن، هل يأتي هذا الكفاءة بثمن؟
يجادل كار بأن السرعة التي نحصل من خلالها على المعلومات من الويب قد تكون تغطي على عمق الفهم. يشجع المشهد الرقمي على التفحص السريع، القفز من رابط إلى آخر، والتعددية في الأعمال. وغالبًا ما يمنع أسلوب القراءة المتجزئ، والذي يكون فعالًا في تغطية مجموعة واسعة من المواضيع، من فهم عميق. عندما نتفحص بسرعة، من المحتمل أن نفوت التفاصيل الدقيقة، ونفشل في إقامة علاقات عميقة بين قطع المعلومات، ونحن أقل احتمالية للاحتفاظ بالمعلومات على المدى الطويل.
علاوة على ذلك، يشجع تصميم العديد من المنصات على الانترنت على التفاعل السطحي مع المحتوى. يمكن أن تقاطع الميزات مثل الإشعارات الفورية، والإعلانات المنبثقة، ومقاطع الفيديو التي تعمل تلقائيًا سلسلة أفكارنا، مما يجعل من الصعب التركيز بعمق.
بينما جعل الإنترنت بلا شك الوصول إلى المعلومات أكثر كفاءة، يقترح الكتاب أننا يجب أن نجد توازنًا لضمان عدم تآكل هذه الكفاءة على حساب عمق فهمنا.
تشكيل القواعد الثقافية والاجتماعية
في عصرنا الرقمي المهيمن، لا يمكن إنكار تأثير الإنترنت العميق. بعيدًا عن كونه مجرد منصة للمعلومات والتواصل، خصائص الإنترنت الأساسية تعيد تشكيل الإدراك الفردي، والذي بدوره، له تأثيرات متداخلة على نسيجنا الثقافي والاجتماعي بشكل أوسع. استنادًا إلى الرؤى العميقة المقدمة من قبل نيكولاس كار لابد ان نفهم بعمق أكبر الآثار الثقافية المتعددة الأوجه لتفاعلاتنا عبر الإنترنت:
1. تسريع استهلاك المعلومات: يتميز العصر الرقمي بوفرة المعلومات التي تبعد عنا نقرة واحدة فقط. هذه الراحة، ومع ذلك، تأتي بثمن. كما يشير كار، استبدل القراءة السريعة والمتجزئة على الإنترنت القراءة البطيئة والتأملية للمطبوعات. هذا التحول لا يؤثر فقط في عملياتنا المعرفية ولكنه يغير أيضًا مستويات صبرنا وتوقعاتنا. ثقافيًا، نحن نصبح مجتمعًا يقدر الفورية على حساب العمق، مما يؤدي إلى مخاطر محتملة في التفكير النقدي والتأمل.
2. الذاكرة الجماعية والأرشيفات الرقمية: يغير الإنترنت، بفضل قدراته التخزينية الهائلة، علاقتنا بالتاريخ. بينما كانت الثقافات في الماضي تنقل القصص والمعرفة من خلال التقاليد الشفوية والأدوات المادية، أدخل العصر الرقمي شكلًا جديدًا من الذاكرة الجماعية: الأرشيفات عبر الإنترنت. ومع ذلك، ما زالت موثوقية ودوام هذه المستودعات الرقمية قيد الاستفهام، مما يؤثر على كيف قد ينظر الأجيال المستقبلية إلى الماضي.
3. العولمة وتوحيد الثقافة: يقوم الإنترنت بكسر الحواجز الجغرافية، مما يسمح بتدفق غير مسبوق للأفكار والمعلومات عبر الثقافات. من ناحية، تعزز هذه الترابط الفهم العالمي والتعاون. من ناحية أخرى، هناك خطر من تخفيف الهويات الثقافية الفريدة، مما يؤدي إلى مخاطر توحيد الثقافة العالمية.
4. التمكين وحركات الجذور العميقة: يمكن لقوة الإنترنت الديمقراطية أن تمكن الأفراد من إبداء مخاوفهم والتجمع حول الأسباب. سهلت منصات وسائل التواصل الاجتماعي ظهور حركات جذورية، معادلة القواعد الاجتماعية وتحدي الهياكل القوى التقليدية. يمثل هذا التحول تطورًا ثقافيًا نحو ديمقراطيات أكثر شمولية ومشاركة.
5. تحول في التفاعلات الاجتماعية: أصبحت التفاعلات الافتراضية شائعة جدًا، إن لم تكن أكثر من التفاعلات الوجهية. يعيد هذا التحول تشكيل مفاهيمنا الاجتماعية للمجتمع والانتماء، مع آثار إيجابية (مثل ربط مجموعات متفرقة) وآثار سلبية (مثل زيادة الشعور بالعزلة أو الغرف الصدائية عبر الإنترنت).
فالشبكة المعقدة للويب تواصل نسج نماذج جديدة في نسيجنا الثقافي والاجتماعي. يعمل الكتاب كتذكير قوي بأنه بينما يقدم الإنترنت فوائد لا حصر لها، يجب أن نكون واعدين لتأثيراته العميقة والبعيدة المدى على نفسيتنا المشتركة وتطورنا الثقافي.
كيف يشكل العصر الرقمي مستقبل القراءة والتفكير؟
في عصرنا الرقمي الحالي، طريقتنا في استهلاك المعلومات تتطور بسرعة. يغمرنا الكتاب في التأمل حول الآثار العميقة لهذه التغييرات. حيث نستكشف التحولات الدقيقة في عادات القراءة والعمليات المعرفية التي جلبها انتشار الإنترنت:
1. الانتقال إلى التصفح بدلاً من القراءة العميقة: أحد أكثر التغييرات وضوحًا في العصر الرقمي هو الانتقال من القراءة العميقة إلى التصفح. الإنترنت، مع كميته من المعلومات المختصرة والروابط القابلة للنقر، يشجع على شكل من أشكال القراءة المتفرقة بدلاً من الخطية.
2. التفضيل لوسائط متعددة على النص التقليدي: تم تقييم الوسائط المتعددة – الفيديوهات، الرسوم التوضيحية، ووحدات التفاعل – بشكل كبير. يمكن أن تجعل المعلومات أكثر قابلية للهضم، ولكنها تطرح أيضًا سؤالًا: هل نفقد صبرنا للمحتوى المكتوب الطويل؟
3. تأثير على الذاكرة: القراءة الرقمية غالبًا ما تأتي مع العديد من التشتيتات. هذه الانحرافات يمكن أن تعوق قدرتنا على الاحتفاظ بالمعلومات.
4. التكيف مع المشهد المعرفي المتغير: ليس كل التغييرات سلبية. دماغنا يظهر ليونة، مما يعني أنها تتكيف مع بيئتنا.
5. احياء القراءة التقليدية: مع فيض المعلومات الرقمية، العديد من الناس يبحثون عن الراحة في الكتب الفعلية ويعانقون فن القراءة العميقة مرة أخرى.
على الرغم من أن المشهد الخاص بالقراءة والتفكير بلا شك يتحول، من الضروري إيجاد التوازن. والكتاب يعتبر تذكيرًا قويًا بحاجتنا لهذا التوازن، ويحثنا على أن نكون مهندسين نشطين لمستقبلنا المعرفي.
إن كتاب “السطحيون” هو عمل متميز ومفيد للتفكير لأي شخص يستخدم الإنترنت بشكل يومي. حيث يلاحظ أن استخدام الإنترنت قد أدى إلى دوائر دماغية متكيفة ليست هي نفسها التي تم إنشاؤها لقراءة الكلمات المطبوعة على الصفحة الورقية. وهذا يعني أن هناك تحول في معيار التعلم. وبالتالي لا بد للدماغ البشري أن يفكر في تطوير إستراتيجية معرفية جديدة للحفاظ على المعلومات والبيانات التي يمكن أن يحصل عليها من تكنولوجيا الإنترنت.
إن الكتاب يظهر أن شبكة الإنترنت تغير طريقة تفكيرنا وأن التغييرات يمكن أن تشمل أشياء قد لا ندركها في الوقت الراهن. إن الكتاب مهم جدا للمثقفين والباحثين والطلبة، بسبب القضايا التي يثيرها حول شبكة الإنترنت، إلى جانب الأسلوب المقنع في عرض الأفكار، حيث نجد كار يدعم مواقفه من خلال الرجوع إلى التاريخ والفلسفة والعلوم، وبالاعتماد أساسا على أعمال ماكلوهان وأونج ونيتشه ونيلسن ومجموعة من علماء الأعصاب. فالكتاب فريد من نوعه، لأنه من الكتب التي تشجع الطلبة والباحثين على قراءة الكتب الورقية.
في عصرنا الرقمي الحالي، حيث يكون الوصول إلى المعلومات فوريًا، يصبح من الضروري السؤال: إلى أي مدى؟ هل نتنازل عن العمق مقابل العرض؟ يدعو كتاب “السطحيون” القراء ليكونوا ليس فقط على علم بهذه التحولات، ولكن أيضًا ليكونوا حذرين في كيفية استهلاك المعلومات والتفاعل مع العالم الرقمي. يبدو أن التوازن يكمن ليس في تجنب التكنولوجيا ولكن في استخدامها بوعي، مع ضمان الحفاظ على وزراعة عمق التفكير الأساسي للفهم والابتكار والنمو الشخصي.
اضف تعليق