إن العالم بأسره يعيش في أيام الناس هذه ظاهرة تفشي وانتشار الحضارة الرقمية هذا يعني أن مدخلات ومخرجات هذه الحضارة صارت تمثل بقدر أو بآخر جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية، فالعصر الرقمي يدخل أبواب البشر سواء أكان ذلك باستئذان منهم أو من دون استئذان...

يمكن اختزال العصر الرقمي بأجهزة الذكاء الصناعي التي صارت منذ أمد ليس بالقريب تتسيّد المشهد العام في هذا العصر ابتداءً بالهواتف الذكية وليس انتهاءً بأحدث أنواع الروبوتات التي يسعى صانعوها سعيا حثيثا لإسباغ روح عليها تضاهي الروح الإنسانية!

إن الصفة المشتركة والأكثر فرادة وإثارة في عمل هذه الأجهزة عموما تكمن في قدرتها الفذّة على تزويد المستهلك بمواد تتناسب مع ميوله واهتماماته الخاصة من خلال تتبع اختياراته على المواقع والمنصات الإلكترونية فحسب! وقد وجدت هذه الأجهزة الطريق سالكا للوصول إلى حديثي السن والتجربة لاسيما فئتي الأطفال والمراهقين، هؤلاء الذين يتعاطون مع مخرجات الذكاء الصناعي من جهتي الاستعمال وإنشاء المحتوى الإلكتروني بقدرة، وكفاءة، وسرعة تفوق في معدلاتها غالبا ما لدى آبائهم، ولكن هؤلاء المتفوقين على آبائهم في استعمال وإنشاء المحتوى الإلكتروني لا يملكون القدرة ذاتها في فهم وإدراك ما تنطوي عليه تلك الأجهزة من عواقب وما تخفيه من تبعات، هذه العواقب والتبعات التي يتفاوت الآباء في إدراك درجاتها وأبعادها على حياة أبنائهم، ويقفون عاجزين غالبا في الحيلولة دون وصول آثارها الضارة إليهم. 

إن العالم بأسره يعيش في أيام الناس هذه ظاهرة تفشي وانتشار الحضارة الرقمية هذا يعني أن مدخلات ومخرجات هذه الحضارة صارت تمثل بقدر أو بآخر جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية، فالعصر الرقمي يدخل أبواب البشر سواء أكان ذلك باستئذان منهم أو من دون استئذان، فحتى أكثر دول العالم ميلا للمحافظة أو مقاومةً للتغيير صارت تحرص أشد الحرص على دخول تفاصيل هذا العالم، واستقبال ما يصدر عنه من ابتكارات جديدة بأجواء الحفاوة والترحيب. 

مع العلم بأن الرقمنة هي نتاج فكر غربي في المقام الأول تتسامح أنظمته الاجتماعية في أحيان كثيرة بقبول إملاءات هذا العالم وتعميماته لمعايير أخلاقية قد يتنافى بعضها مع مسلمات التنشئة أو التربية السليمتين للأجيال كما هي معروفة في تلك الأنظمة نفسها فضلا عن الأنظمة الاجتماعية المغايرة لمتبنيات ذلك الفكر، من هنا تدعو الضرورة إلى القول بأن الواجب على سائر المجتمعات الأخرى أن تأخذ دورها في دخول هذا العصر بصورة المبتكر لا المستفيد أو المستهلك فحسب. 

فتسعى بقوة إلى إدخال قواعد بياناتها المحلية في محركات البحث العالمية، ولا تسمح لمشاعر النقص أو التقاعس بأن تصوّر لها هذا العمل بمظهر المستحيل، وفي التجربة الصينية خير حافز لبلوغ هذه الغاية، فقد تمكنت الصين في فترة قياسية من ابتكار أداة تحل محل تطبيق شات جي بي تي الأمريكي، وكان من دواعي هذا الابتكار هو الحفاظ على هوية الشعب الصيني وتراثه...

إن الحديث عن إيجابيات العصر الرقمي أكثر من أن تعدّ هذه حقيقة لا يشك فيها أحد ابدًا، ومن أبرز تلك الإيجابيات ما يتجلى في إمكانية الوصول إلى كمية هائلة من المعلومات بلغات شتى وبثوان معدودة، لكن هذه الحقيقة المدهشة فعلا ينبغي أن لا تحجب الرؤية تماما فيُغضى النظر عن إمكانية وجود معلومات خاطئة أو مضللة أو مزيفة تتسلل ضمن ما تقذفه محركات الذكاء الصناعي المختلفة من نتائج، وهو أمر معروف لدى كل مشتغل جادّ في مجال البحث عن المعلومات والبيانات.

وليس من شك أيضا في أن التكنولوجيا الرقمية أوجدت وسائل وطرق غير مسبوقة في التواصل بين الناس على اختلاف أشكالهم وألوانهم، ولكن مع إلغاء هذه الفواصل الجغرافية الشاسعة في قارات العالم المختلفة ثمة عزلة اجتماعية صار الناس يستشعرون بها حتى داخل الأسرة الواحدة، وذلك نتيجة انشغال الجميع تقريبا بالهواتف الذكية ونظرائها من ألواح إلكترونية أخرى، وهو واقع يحول غالبا دون تكوين علاقات حميمية (حقيقية) تجمع العائلة بعضها مع بعضها الآخر.

ومن ثم قد يكون من تداعيات هذا الواقع لجوء قسم من الأطفال والمراهقين إلى البحث عن بدائل تعوّضهم عن ذلك الحرمان العاطفي في عوالم افتراضية، هذه العوالم التي قد تدخل بعضهم في أنفاق الاحتيال والاختراق والابتزاز، وربما الانتحار أيضا، والقصص التي تجسد هذه المسألة على صعيد الواقع أكثر من أن تُعد، لعل أحدثها ما يتمثل بالدعوى القضائية المرفوعة من طرف سيدة أمريكية ضد شركة Google التي اتهمتها هذه السيدة بتمويل تطبيق (Character.ai) وهو التطبيق الذي كان السبب المباشر في انتحار ابنها البالغ من العمر أربعة عشر عاما! 

إن هذه القصة التي أخذت صدى واسعا في وسائل الإعلام العالمية تعطينا دليلا إضافيا يرسّخ القناعة بأن تربية الأولاد غدت موكولة بنسبة كبيرة منها إلى عهدة العصر الرقمي، ما يستدعي النظر بعين الاحتراز إلى ما يمكن أن تؤول له تلك التربية من أخطار، وما يمكن اقتراحه من معالجات لاسيما ما يتعلق بالتوعية ضد مخاطر الخصوصية وإجراءات الأمان، كالتحذير من خطورة بعض التطبيقات الالكترونية الرائجة، فإعطاء الإذن لبعضها بتحميل صورة شخصية لرجل أو امرأة مثلا قد يقود إلى تحويل تلك الصورة إلى مقطع (فيديو) ينتهي بابتزاز صاحب الصورة الأصلي، فكون الإنسان محترفا في المجال الرقمي لا يعني أن يكون بالضرورة أمينا في تحمل مسؤولياته الأخلاقية، وقد أثبتت الجرائم الالكترونية أنها حقل واسع لمحترفي الجريمة ومحترفي التكنلوجيا الرقمية على حدٍّ سواء. 

اضف تعليق