السبب الأكبر في فشل هؤلاء الحكام والمسؤولين يكمن في أنهم فشلوا في مطابقة القول مع العمل، أي أنهم يعِدُون الناس بوعود لا يلتزمون بها، ويقولون لهم أقوالا جيدة ولا يطبقونها في واقع الحال، بسبب تهافتهم على الصفقات المادية الشخصية، ومن ثم انخراطهم في سلسلة الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي...
(إن إسلام أمير المؤمنين سلام الله عليه، هو إسلام القول والعمل)
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
ألزم الإسلام في أحكامه وتعاليمه المسلم بأن يحافظ على المطابقة بين القول والعمل، فلا يقول شيئا صالحا ويعمل نقيضه، لاسيما من تكون لديه سلطة اتخاذ القرار وتطبيقه، وبمعنى أدق القائد أو الحاكم أو المسؤول، هؤلاء عليهم أن يثبتوا بأنهم ينتمون للإسلام من خلال إثباتهم مطابقة أقوالهم الصالحة لأعمالهم، وأي خلل في هذا الشرط يعني بالنتيجة خلل في أداء المسؤوليات، ومن ثم إلحاق الضرر بالناس وهدر حقوقهم.
لماذا أُلزِم المسؤول والناس جميعا بهذا الحكم وهذه القاعدة المهمة؟، السبب أنها من أهم البوابات التي تقود إلى الإنصاف والعدالة، ومن ثم حماية الحريات والحقوق، وتقليص مساحات الفقر والقضاء على ظاهرة التسول التي باتت عالمية، مع انتشارها بشكل واضح في دول إسلامية تتنعم بثروات كبيرة طبيعية وبشرية أيضا.
السؤال الذي يجب أن يسأله الحاكم والمسؤول لنفسه في الدول الإسلامية، لماذا تقلصت مساحة الفقر في عهد النبي محمد (ص) والإمام علي (ع)؟، الجواب لابد من وجود إجراءات وخطوات عملية، حاربت الفقر، وقضت على التسوّل بكل أشكاله، لأن الفقر هبط إلى أدنى درجاته، وساد العدل وحُفِظَتْ الحقوق والحدود معا.
كان واقع حياة المسلمين في ظل حكومة النبي (ص) والإمام علي (ع)، نموذجيا من ناحية السياسة والاقتصاد والاجتماع والمحافظة على القيم الاجتماعية، وتنمية الأعراف والقيم الصالحة، فلماذا اليوم يسود الفقر وتنتعش ظاهرة التسول في بلدان إسلامية؟، لابد من وجود خلل كبير يجب البحث عنه وإبطال أسبابه ومعالجته بشكل صحيح.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يتساءل في كتابه القيم الموسوم بـ (نفحات الهداية) عن الأسباب التي جعلت من التسول ظاهرة، والفقر حالة منتشرة ومستدامة، فيتساءل سماحته:
(هل يوجد بلدٌ في العالم اليوم يخلو من المتسولين؟ لو ذهبتم إلى أغنى بلد في العالم لوجدتم فقراء ومتسولين.. وبالطبع، فإن الأمر يتفاوت من بلد إلى آخر؛ فهناك بلد فيه متسولون وفقراء أكثر، وآخر أقل.. وهكذا فأنتم تلاحظون أنه حتى في أكثر بلدان العالم تقدماً، وفي ظل أفضل القوانين العصرية، يوجد متسولون، في حين لا تجد مثل هذه الحالة في الإسلام، بل لا معنى لوجود حالة تسول في بلد إسلامي) إبان عهد الرسول (ص) وعهد الإمام علي (ع).
التركيز على أهمية مطابقة الحاكم وعموم المسؤولين بين القول والعمل، يقع في صلب التعاليم الإسلامية، وكل الأفكار والمبادئ المنبثقة عن هذه الرؤية، تؤكد أن الإسلام لا يهمل الدنيا لصالح الآخرة، بل جعل من الدنيا نقطة انطلاق صحيحة تمهيدا للآخرة، فهو دين (الدنيا والآخرة)، لاسيما أن الدار الأولى هي قاعة الاختبار لبلوغ الآخرة.
الانتماء السطحي للإسلام
إن كانت سياسة الحاكم والمسؤول صحيحة، ومنهجه ورؤيته وخططه الاقتصادية سليمة، فإن هذه الخطوات تأتي لصناعة سعادة الدنيا، وبالتالي يسود المجتمع نوع من الأمان ويصبح نظيفا خاليا من أدران الضغينة والحسد والكراهية، ويصبح كل شيء في المجتمع والدولة سليما وصحيحا، وهذا يعني أن الإسلام هو دين للدنيا والآخرة.
من الغرابة حقا أن يفشل حكام مسلمون (ينتمون للإسلام) في جعل الدنيا نقطة انطلاق تمهيدية سليمة نحو سعادة الآخرة، فهؤلاء من خلال حكمهم الفاشل، الذي يقوم على الغبن والتحيّز وغياب العدالة والإنصاف، واللهاث وراء المصالح الشخصية، تخلّوا عن انتمائهم لعمق الإسلام، وتمسكوا باسم الإسلام وفشلوا في تطبيق أحكامه وتعاليمه في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق والحريات.
السبب الأكبر في فشل هؤلاء الحكام والمسؤولين يكمن في أنهم فشلوا في مطابقة القول مع العمل، أي أنهم يعِدُون الناس بوعود لا يلتزمون بها، ويقولون لهم أقوالا جيدة ولا يطبقونها في واقع الحال، بسبب تهافتهم على الصفقات المادية الشخصية، ومن ثم انخراطهم في سلسلة الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، متناسين وربما ناسين أيضا، أن الإسلام ليس دين الآخرة وحدها، وأنهم مسؤولون عن توجيه الناس نحو الصواب في الدنيا، لاسيما أن الإسلام هو المنهج الصحيح والسليم في كل المجالات.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الإسلام للدنيا والآخرة، الإسلام لا يتعلق بالآخرة فقط. بل الإسلام يعني: سعادة الدنيا أيضاً. يعني: الأمان. يعني: الاقتصاد السليم. يعني: السياسة السليمة. يعني: المجتمع النظيف. ويعني: أن يكون كل شيء صحيحاً وسالماً).
مطابقة القول مع العمل لا يستثني أحدا من الناس، بكل مراكزهم ومستوياتهم، وبغض النظر عن مراكزهم ومسؤولياتهم، لكنه أمر طبيعي كلما ازدادت المرتبة الوظيفية وتعاظمت، كانت المسؤولية كبيرة وحساسة بسبب تأثير سياسة المسؤول وقراراته على حياة الآخرين، والقرار الفاشل يساعد على فشل الناس، وابتعادهم عن شؤون الآخرة، وتهافتهم على مكاسب دنيوية مادية تدمّر إيمانهم، فإيمان الشعب أو المجتمع سوف يضعف نتيجة الحاكم والمسؤول الفاشل ويصح العكس تماما.
مسؤولية الحاكم الإسلامي
أن تكون مسلما فهناك التزامات لابد من التمسك بها وبتطبيقها، وأولها أن تكون مسلما حقيقيا، وتساعد الناس على الإيمان والتطبيق الفعلي للإسلام، من خلال مساعدتهم وتشجيعهم على جعل الدنيا منطلقا نحو الآخرة، فالمسؤول والحاكم إذا صار نموذجا للآخرين، هذا يعني أن الفرص المتاحة للمجتمع والأمة أكبر نحو كسب الآخرة بأعمال وسلوكيات وقرارات الدنيا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد هذه النقطة في قوله:
(رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه، حينما كان في المدينة المنورة، بل حتى عندما كان في مكة المكرمة ولم يكن وقتها مبسوط اليد، أعلن: فأجيبوني تكونوا ملوكاً في الدنيا وملوكاً في الآخرة، ومعنى ذلك أنه تعالوا ادخلوا في الإسلام، لتجدوا سعادة الدنيا والآخرة؛ أي تصبح الدنيا بين أيديكم، وفي الآخرة يكون مصيركم إلى الجنة أيضاً).
ولا ريب أن المسلم لا يكفي أن يعلن إسلامه لكي يكون مسلما حقيقيا وصالحا، فهنالك الإسلام بالاسم فقط، وهو انتماء لفظي لا يدخل في أعماق الإنسان، ولا يشعر بالإيمان الحقيقي الذي يلزمه بتطبيق أحكامه وتعاليمه الملزمة، لذا فإن إسلام الإنسان يجب أن يطابق بين القول والعمل، وهكذا هو إسلام الإمام علي (ع).
ومع مرور الزمن قد يتحول الإسلام بالاسم فقط إلى حالة شائعة، وهو ما أشاع الخراب في المجتمعات التي تعلن الدين الإسلامي دينها الرسمي، لكن التطبيق الفعلي يخلو من قيم وأحكام وأركان هذا الدين، مما يتسبب في أزمات ومشكلات خطيرة تصيب البني السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية للدولة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إن إسلام أمير المؤمنين سلام الله عليه، يعني الإسلام الصحيح؛ أي إسلام القول والعمل، وليس إسلام الاسم فقط، كما عبّر رسول الله صلى الله عليه وآله عن إسلام أقوام: ويأتي على أمتي زمن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه. لهذا أمر أمير المؤمنين سلام الله عليه في شأن ذلك النصراني المتكفف، أن يُجرى له من بيت المال راتب يكفيه لمعيشته).
في الخلاصة لا يصح أن يكون الإنسان ذا وجهتين متناقضتين، فهو يعلن إسلامه لكنه يصنع آلاف الحواجز بينه وبين أحكام الإسلام، أما إذا كان هذا الإنسان مسؤولا كبيرا، أو حاكما، فتلك هي الطامة الكبرى، لذا على حكام المسلمين وجميع المسؤولين الحرص بشكل حقيقي ومخلص على مطابقة أقوالهم لأعمالهم لصناعة أمة متينة البنيان صالحة الفكر والسلوك والقيم.
اضف تعليق