هناك خلط من بعض الناس بين المداراة والمداهنة، فيفعل أفعالاً هي من مصانعة الظلَّام الفجار، أو الركون إلى الحكام الفاسدين، ثم يزعم أن هذه ليست مداهنة وإنما هي مدارة لهم، فليعلموا أن المداراة تكون في الإصلاح والمداهنة في الإفساد، والمداراة إيجابية والمداهنة سلبية، فالمداراة تبني والمداهنة تهدم...
من يُداهن شخصاً يعصي الله تعالى، ليس غرضه مراعاة الأهمّ والمهمّ، بل كسب رضا العاصي على أيّ حال، فيجاريه من أجل مصالح شخصية، من قبيل أن يحصل على احترام العاصي أو ودّه، أو يحصل منه على مكسب مادّي كأن يعطيه مالاً.. والمداهنة مذمومة ويحاسَب الإنسان عليها. المرجع الشيرازي
مقدمة لغوية
جاء في معاجم اللغة العربية: المُداهَنَةُ: إظْهارُ الإنسانِ خِلافَ ما يُضْمِرُ، يُقال: داهَن الرَّجُلُ وأَدْهَنَ، أيْ: أَظْهَرَ خِلافَ ما أَضْمَرَ، ومِن مَعانِيها: المُصانَعَةُ، والمُقارَبَةُ في الكَلامِ، والتَّلْيِينُ في القَوْلِ"، فهي نوع من التغطية كما نفعل عندما ندهن الجلد أو الخبز بشيء من الزيت أو غيره.
وفي الاصطلاح: "ترك إنكار المنكر إجلالاً لصاحبه وتقرباً منه".
فالمداهنة؛ وهي بأن يرى المرء أمراً منكراً، ويقدر على إنكاره، لكنه لا يفعل رعاية، وتزلفاً لفاعله، يشهد له قوله تَعَالَى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم: ٩)، ومعناها: تمنوا لَوْ تُصَانِعُهُمْ، وتلين لهم في أمور الدِّينِ، فَيُصَانِعُوكَ ويلينوا لك في قبول أمر دينك، فالآية تنتقد السكوت والمصالحة من موقع الضعف وهي التي تُسمى "مداهنة"، ولذا قالوا: "المداهنة؛ أن تسكت عمَّا يجب عليك النطق به، أو أن تترك ما يجب عليك فعله لغرض دنيوي"، وجميل ما قالوه في تعريف المداهنة: هي "ترك الدِّين لصلاح الدنيا"، أو "ترك الحق للغير أي من أجل الغير".
قال ابن بطال: "المداهنة محرمة، والمداهنة من الدِّهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسَّرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرِّضا بما هو فيه من غير إنكار عليه".
وقال الغزالي: "الفرق بين المدَاراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء؛ فإن أغضيت لسلامة دينك، ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء، فأنت مدار، وإن أغضيت لحظِّ نفسك، واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن"، فالمداهنة هي خُلق رديء في الشخص، وسيء جداً في المجتمع، وبلاء كبير في السياسة، لما لها من أضرار على البلد، والوطن، والشعب.
فالمداهنة هي السكوت والتستر على أهل المعاصي وعدم الاهتمام بمعاصيهم، أو المبادرة إلى تغييرهم بالنصيحة لهم؛ إما بطمع في مصلحة دنيوية، أو خوفاً منهم، ومن موقعهم، الاجتماعي أو السياسي، وقد ورد النهي عن المداهنة في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة الديباج بقوله: (ولا تُرخّصوا لأنفسكم فتُدهنوا، وتذهب بكم الرُّخص مذاهب الظلمة فتهلكوا، ولا تُداهنوا في الحق إذا ورد عليكم وعرفتموه، فتخسروا خسراناً مبيناً).
وعنه (عليه السلام): (لا تُرخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرُّخص مذاهب الظلمة، لا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية)، فالمداهنة تشجيع، وهجوم على المعصية، ولذا قال (ع): (مَنْ داهن نفسه هجمت به على المعاصي المحرمة)، وقال (ع):
كما يصف نفسية المداهن بقوله (ع): (فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن)، فهو لا يُداهن الآخرين فقط بل يُداهن نفسه ويكذب عليها، لأنه أخبر الناس بنفسه وبعمله وبباطنه الذي هو عكس ما يُظهر للناس، فهو يعصي الله في الخلوات، ولكن يطعن ويُشنِّع على الآخرين بمعاصيهم، وهذا النوع من الناس يكون كارثة على نفسه، وأهله، ومجتمعه لما يعيشه من النفاق والمداهنة.
فالمداهن مدان حتى ولو كان أخوك لأنه يغريك في الباطل والمعصية، وواجب الأخ أن يكون مرآة لأخيه، (فالمؤمن مرآة المؤمن)، و(أخي مَنْ أهدى إليَّ عيوبي)، وليس مَنْ مدحني بالباطل وأطراني إذا عصيتُ وأخطأتُ وأذنبتُ، ولذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (شر إخوانك مَنْ داهنك في نفسك وساترك عيبك)، فهذا يكون بمثابة العدو ويشرح ذلك أمير المؤمنين (ع) بكلمة رائعة له حيث يقول (ع): (إنما سمي العدو عدواً لأنه يعدو عليك، فمَنْ داهنك في معايبك فهو العدو العادي عليك)، فالمداهن يخسر، والمداهَن له يخسر لأنهما يخسران دينهما.
قال (عليه السلام): (لا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا، ولا تدهنوا في الحق فتخسروا).
وقال (عليه السلام): (لا تداهنوا في الحق إذا ورد عليكم وعرفتموه فتخسروا خسراناً مبينا).
فالمداهنة سبب للخسران المبين الواضح لأنه يعرِّض دين الإنسان وعقيدته للخطر، والسخرية والاستهزاء فلا يهاب الآخرون من المعصية وما جاء به الدِّين من تشريعات، ومحرمات، وقد يكون ذلك مسوِّغاً لهم لارتكاب المعاصي، وإشاعتها في المجتمع الإسلامي، لأن شيوع المداهنة في المجتمع يكون مشجعاً للعصاة بارتكاب المعاصي، والمناهي والمحرمات، فلا يبقى من حدود الإسلام شيء إلا مظاهر العبادات والطقوس التي اعتاد الناس عليها عادة لا عبادة وطاعة.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي في كتابه الجميل العلم النافع عن المداهنة: (من يُداهن شخصاً يعصي الله تعالى، ليس غرضه مراعاة الأهمّ والمهمّ، بل كسب رضا العاصي على أيّ حال، فيجاريه من أجل مصالح شخصية، من قبيل أن يحصل على احترام العاصي أو ودّه، أو يحصل منه على مكسب مادّي كأن يعطيه مالاً.. والمداهنة مذمومة ويحاسَب الإنسان عليها؛ ولذلك روي فيما أوحى الله تعالى إلى النبيّ شعيب: (أوحى الله تعالى إلى شعيب النبي: إني معذب من قومك مائة ألف؛ أربعين ألفاً من شرارهم وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل إليه: داهنوا أهل المعاصي فلم يغضبوا لغضبي). (العلم النافع: ص118 والرواية في الكافي: ج5 ص55)
فمَنْ يُداهن في الحق سيخسر نفسه ودينه لأنه سيدخل في الباطل قطعاً، فخُلُق المداهنة مدان.
من صور المداهنة الراهنة
وفي هذا العصر الأغبر العجيب الذي يصفونه بأنه عصر الحضارة الرقمية، والتطور التقني، إلا أنه في الواقع عصر الدَّجل والكذب، والنفاق بأعلى المستويات، لما يحمل من مداهنة، ومصانعة، للقوي والمتمثل بالإمبراطوريات السياسية، والإعلامية، والمالية، وجميل ما يقوله الإمام علي في كلمة له وكأنه يصف هذا الزمان وهذا الواقع، حيث يقول (عليه السلام): (اعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل، أهله معتكفون على العصيان، مصطلحون على الإدهان).
نعم؛ هذا حال عصرنا وحضارتنا الرقيمة، لأن هناك خلط عجيب بين الحق والباطل، وبين الأخلاق الحسنة، والسيئة، وبين المصالح والمفاسد، وذلك لأن أذواق الناس وآراءهم لقد فسدت بفساد الزمان الذي نعيش فيه، فصار الخلط بين المداراة الحسنة الممدوحة، والمداهنة المذمومة، فالمداراة تبني الشخص والمجتمع، والمداهنة تهدم الفرد والمجتمع، لما لها من مردود سيء على كل المستويات.
فالذي يُداري يُصلح الطرف الآخر بجذبه للدِّين والمصلحة، وللأخلاق الحسنة، وأما المداهن فيُفسد كل شيء لأنه يرضا بالمعصية، ويغض الطرف عن المفسدة، ولا يواجه لأنه يُداهن، ومن ذلك؛ أن تصف الإنسان بغير ما فيه من الخير الصلاح والفضيلة إذا لقيته، وبأسوأ الأوصاف والنعوت إذا غاب عنك، أليس هذا هو شُعبة فاضحة من شُعب النفاق الاجتماعي؟
فشر الناس ذو الوجهين وذو اللسانين الذي يكون كالحرباء يتلوَّن حسب الظروف والأماكن، فهو إذا لقيك وبحضرتك تراه يصفك بكل المحاسن، والفضائل، ويُحلِّيك بكل القيم والشيم، وإذا أدرت ظهرك وذهبت عنه فتراه ينزل بظهرك بسيف لسانه فيأتي بكل القبائح، والسيئات سواء كانت فيك أو لم تكن، فيُقبل عليك بوجه محب بشوش، ويذهب عنك بلسان مبغض قمطريرا، فهذا هو المداهن المحرم، والممنوع والمذموم شرعاً وعقلاً ومنطقاً.
السكوت عن الفساد والظلم
ومن صور المداهنة المنتشرة اليوم بيننا؛ السكوت العجيب، والخنوع المريب للظلم والفساد العالمي، والذي تقوده قوى طاغوتية جبارة، تريد من كل الناس والشعوب أن تخضع لها، وتدفع لها ثمن الخضوع وإلا فإنها مهددة بالحرب والقمع بأي نوع تراه مناسباً لها، فالرضا بما يصدر عن الظلمة، والفجرة من ظلم وفجور، والاستكانة لهم في ذلك كله، بل وإعذارهم فيه، والدفاع عن باطلهم وتزيينه ببعض الحجج التافهة، والدعاء لهم بالحفظ والبقاء، كما يفعل وعاظ السلاطين وأبواق الشياطين، ورسولنا الكريم (ص) يقول: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ).
ولذا فمن أكبر الأخطاء والأخطار التي تواجهنا في هذا العصر المداهنة للقوى الكبرى والحكومات الظالمة التي صارت كالأخطبوط تمدُّ أذرعها في كل مكان وبكل اتجاه تريد أن تسيطر على الكرة الأرضية وتنهب ثرواتها وخيراتها وتتحكم فيها كما تشاء، ولذا تجد العالم اليوم يئنُّ تحت سياط وضربات الإرهاب الذي صنعوه ليبسطوا سيطرتهم، ولكن ما عرفوا أنهم لا ولن يستطيعوا أن يسيطروا عليه لأنه كالنار الذي يكون بيدك أن تُشعلها في الغابة ولكن من المستحيل أن يكون بيدك السيطرة عليها، ولهذا ترى الإرهاب يضرب في بلدانهم وفي قعر دورهم، وصدق عليهم المثل القائل: "صانع السم آكله"، وصانع الشر قاتله، وناشر الإرهاب سيرتد الإرهاب عليه سريعاً.
لا مداهنة للإرهاب العالمي
والمتابع لمحاضرات وجلسات سماحة السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يجده أنه يؤكد على الأخلاق الإيجابية في المجتمعات البشرية، فهو يحب نشر العدل والمساواة والحرية والأخلاق الحميدة والمعاملة الحسنة، حتى مع المخالفين، ولكن موقفه من الإرهاب الذي تشهده المنطقة والعالم فإنه يرفضه رفضاً قطعياً، ويمنع حتى من المداهنة كما يفعل بعض الناس لعلمه أن المداهنة لقوى الشر والإرهاب سيشجعها على المزيد من الجرائم بحق هذه الأمة وهذه الطائفة المحقة كما نرى نسمع في الأمس القريب، في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وأخيراً في أفغانستان حيث يستهدفون المساجد ويقتلون الأبرياء المصلين، فمداهنة هؤلاء لن يردعهم بل سيشجعهم على جرائمهم.
والمداهنة لهؤلاء سيُغريهم بالباطل، ويشجعهم على المزيد من الإجرام بحق الأبرياء، فالواجب مواجهتهم ومجابهتهم بما هم عليه من الفساد في العقيدة، والإجرام في الأعمال، لعلهم يرتدعوا أو لا أقل من أن نحمي أنفسنا وبلادنا وأعراضنا من هذه الجماعات التكفيرية المجرمة والجماعات الإرهابية والمتطرفة والحكومات الظالمة التي ترعاها فعاثت في الأرض فساداً وإفساداً في البلاد والعباد، فالمداهنة تعني عند سماحته: (تلبيس الحق بالباطل)، وهي قد لا تقتصر على هذا التلبيس، بل تتعداه إلى تبريره لدى أهل الباطل، والسكوت على أعمالهم، ولذا حرَّمها، وذمَّها الإسلام، ونهى الرب سبحانه رسوله الكريم (ص) عن ممارستها.
ومَنْ يُتابع السيرة العلمية والعملية لسماحة السيد المرجع يجده في طليعة المهتمين بشؤون المسلمين عامة والشيعة خاصة ويُتابع شخصياً، ويُبادر لتوجيه وكلاءه ومكاتبه لإصدار بيانات الاستنكار لكل العمليات الإرهابية التي تحصل في بلاد المسلمين وغيرها لأنها مرفوضة ومحرمة شرعاً، وعقلاً، وأخلاقاً، فهو واضح وصريح ولا يُداهن ولا يُلاين أحداً من هؤلاء جميعاً.
علاج المداهنة المعاصرة
فهذا الداء الوبيل، وهذا البلاء العام، الذي ربما تحول إلى جائحة أخلاقية أخرى تجتاح الكرة الأرضية بكل شعوبها، وأهلها وهي المداهنة والملاينة لأهل القوة والمال، خوفاً منهم، أو طمعاً في أموالهم، فنسكت على الباطل الذي هم عليه، أو نصمت على الإجرام الذي يمارس عملياً في واقعنا المأزوم كله، فالعقلاء جميعاً يسألون عن العلاج النافع، والدواء الناجع لهذا الوباء.
فالعلاج يكون بالمواجهة المباشرة لأهل الباطل، والمجابهة لهم بالحق الذي نحن عليه، بلا خوف ولا وجل، والدواء بالجرأة والشجاعة الحربية والأدبية، بقول الحق، ومواجهة الباطل، وذلك لأن ثمن المواجهة يبقى أقل وأكرم وأشرف من ثمن المداهنة والملاينة لهم، لأنهم لن يرتدعوا أو يرجعوا عن غيِّهم بالمداهنة، لا سيما الجماعات التكفيرية التي تمارس الإرهاب العملي في الواقع، فلهؤلاء الأشرار قال أمير المؤمنين (ع) لنا: (رُدُّوا الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، فَإِنَّ الشَّرَّ لاَ يَدْفَعُهُ إِلاَّ الشَّرُّ). (نهج البلاغة: ح305)
ولكن هذا لدى سماحة السيد المرجع الشيرازي لا يكون برد الإرهاب بالإرهاب، بل بتحكيم العقل والمنطق في ذلك كله، لأن سماحته يرى بأن من واجبنا إحياء بذور الخير في الناس بإثارة الفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، يقول سماحته في كلمة جميلة له: (كل إنسان عنده قريحة، ولكن هذه القريحة بحاجة إلى استخراج، وبحاجة إلى إثارة على قول الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فالله سبحانه وتعالى أودع في النفوس جذور لكل الخيرات)، وهذا في الحقيقة والواقع عمل وواجب ومهمة المصلحين وأصحاب الرسالات السماوية كلها: (كان عمل الأنبياء (عليهم السلام) مع الناس وكما قال الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): (وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ)، وهي دفائن دفنها الله تعالى في عقول الناس).
فخُلاصة مهام وواجبات الأنبياء والرسل كما حددها أمير المؤمنين (ع) في كلمته هي: (لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ)، فهذه الواجبات الخمسة ضامنة بإنعاش الفطر الخيرة والعقول السليمة في البشر في كل زمان ومكان، ولذا كان سماحة السيد المرجع يؤكد عليها دائماً.
ويضرب لنا مثالاً رائعاً من واقع التاريخ والرسالة الإسلامية فيقول سماحته: (إنّ أبا ذر كان يعيش في الصحراء في قرية وفي عشيرة بني غفار، الذين كانوا من المشركين.. وذكرت بعض التواريخ أنّ أبا ذر كان من قطّاع الطرق قبل الإسلام كما هو مذكور في كتاب أعيان الشيعة، ولكن كان مدفوناً في عقل أبي ذر أن يكون الرجل العظيم، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) تكلّم مع أبي ذر قرابة ساعة، أو أكثر أو أقل، فأظهر دفينة أبي ذر).
فعلينا أن نكون كأبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه) حيث لم يقبل ولم يرضَ بالسكوت على الفساد والظلم الأموي، فكان دائماً يرفع صوته بالحق ولو أدى ذلك إلى نفيه عدة مرات حتى قضى نحبه في صحراء الربذة فريداً وحيداً لا تجد أهله مَنْ يدفنه وكان ذنبه الوحيد أنه لم يُداهن السلطة الأموية، ولم يسكت على الظلم والفساد في الأمة، وعلى الجميع أن ينظروا إلى أنفسهم بمنظار هذا الصحابي الجليل، وكما يقول سماحة المرجع الشيرازي منوِّهاً ومحذِّراً من الوقوع في شرك المداهنة لأصحاب المال والجاه والسلطة، خوفاً من التهم الباطلة، حين يقول: (إذا لم أتعرّض أنا، ولم تتعرّض أنت، ولا يتعرّض المؤمن لهجمة، فلنتهم أنفسنا بالمداهنة).
فلماذا نداهن الأقوياء والأثرياء والوجهاء دول ومجتمعات وشخصيات هل نطمع بهم، أو نخاف منهم؟ فالمؤمن القوي يجب أن يكون أصلب وأقوى من الجبل، فالجبل يؤخذ منه بالفأس وغيره وأما المؤمن فلا يمكن أن يؤخذ من إيمانه بأي طريقة كانت، فالمداهنة التي نراها ونعيشها اليوم على كل المستويات الدولية والأممية.
وسماحة السيد صادق الشيرازي (حفظه الله) يؤكد على حفظ كيان ووجود ودماء وأعراض الشيعة في هذا الزمن الذي تكالبت فيه قوى الطغيان عليهم فيقول لهم: (المهم على الشيعة في العراق وفي باقي العالم، ألا يرعبهم هذا الاستهداف أبداً، وأنا أوصي الشيعة كافّة، وفي كل مكان بتوحيد الصفّ الشيعي)، فالقوة بالوحدة بين المؤمنين حفظهم الله ورعاهم.
أيها المؤمنون الأعزاء؛ هناك خلط من بعض الناس بين المداراة والمداهنة، فيفعل أفعالاً هي من مصانعة الظلَّام الفجار، أو الركون إلى الحكام الفاسدين، ثم يزعم أن هذه ليست مداهنة وإنما هي مدارة لهم، فليعلموا أن المداراة تكون في الإصلاح والمداهنة في الإفساد، والمداراة إيجابية والمداهنة سلبية، فالمداراة تبني والمداهنة تهدم.. وسنُبيِّن مكان ومكانة المداراة في بحث مستقل بإذن الله تعالى، ونستفيد من آراء وأفكار وتوجيها سماحة السيد المرجع السيد صادق الشيرازي في ذلك كله.
المداهنة تعني مسايرة الظلم
وجميل ما كتبه أحد الأخوة في ذلك: "إن الإنسان المبدئي لا يداهن سلطةً أو شخصاً ما، ولا يمكن أن يكون متذبذباً في آرائه ومواقفه، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالقضايا العقائدية، والأخلاقية وما شابه، ولذلك نلاحظ أن جميع الناس الذي يحملون مواقف مبدئية غير قابلة للتلاعب، أو التذبذب، أو التغيير، نلاحظ أنهم دائماً هدفاً للعدوان والتعذيب والمطاردة والقتل، والسبب دائماً؛ أنهم لم يداهنوا سلطة (أية سلطة كانت)، ولا يداهنوا حاكماً ظالماً، ولا يتراجعوا عن مبادئهم.
هؤلاء الناس الثابتين على عهودهم لا يداهنون أحداً أو جهة ظالمة، ولهذا السبب هم معرَّضون للاضطهاد والظلم والإقصاء دائماً، أما أولئك الذين لا يقفوا موقفاً واضحاً من الظلم، ويسايرون القوة الغاشمة والاعتداء على حدود الله ويتجاوزون على حقوق الآخرين وحرمة الناس، فإذا بقي هؤلاء في حالة صمت، ولم يعلنوا مواقف واضحة رافضة للظلم، هذا يعني أنهم يداهنون الظالم، ويغضّون الطرف عن ظلمه، لذلك إذا لم يتعرض أحد أو جهة للمؤمن بهجمة أو إلحاق الأذى به، فهذا يعني بأنه معرّض للاتهام بالمداهنة".
وأخيراً؛ يجب الانتباه إلى أن المداهنة لا تنحصر بالأفراد والأشخاص بل تتعداهم إلى الحكومات والدول، والشعوب والأمم التي تسكت على الظلم والفساد الدولي، وتغض الطرف عن الغطرسة التي تمارسها الإمبراطوريات القوية والحكومات الظالمة تجاه الشعوب الضعيفة، فهذه مداهنة محكومة بنفس الحكم لمداهنة الأشخاص فهي مرفوضة ومحرمة ومفسدة للدين والدولة والحكم وتُضعف الأمة وتستبيح الأوطان.
اضف تعليق