الدولة المستقرة القوية، يُسهم في صناعتها نظام عادل دستوري مُنتخَب من الشعب، بالإضافة الى المجتمع الواعي الذي يضع كل قدراته وطاقاته ومواهبه في خدمة الدولة، مقابل قيام الأخيرة بحفظ الحريات والحقوق لجميع مواطنيها بلا استثناء، من هنا نحتاج الى دولة الانجاز، القادرة على القيام بكل ما يحفظ الحقوق والحريات، ولسنا بحاجة لدولة الشعارات التي لا تقترن بالعمل والانجاز، فثمة بون شاسع بين دولة الانجاز ودولة الشعار المزيّف.
لذلك عندما يقوم منهج الدولة على رفع الشعارات البرّاقة، من دون ان تتحول الى واقع فعلي، فإن النتائج سوف تكون وخيمة، لاسيما اذا أخفقت جماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني والجهات الرقابية المدنية، في دورها الرقابي والضاغط والمصحح للعمل الحكومي، وينبغي أن لا تنخدع هذه المؤسسات الرقابية المدنية بالشعارات، لأن المعيار الدائم للإنجاز الصحيح، يكمن بدرجة تطابق الشعار مع المنجز في الواقع.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتاب (من عبق المرجعية)، حول هذا الموضوع: (إننا لا نسير خلف الأسماء والشعارات بل خلف الواقع).
هذا القول يؤكد أهمية عدم السير وراء الكلمات والمضامين التي لا تتحول الى عمل فعلي ملموس ومرئي، فقد اعتادت بعض الحكومات المستبدة على خداع الجماهير، بفبركة الكلام، وإطلاق الجمل الفخمة في معناها، والخالية من الانجاز، فالنظام الذي يفتقر للعدالة، غالبا ما يغالي في الاعتماد على تزييف الحقائق والوقائع معا، حيث الإهمال التام لما تحتاجه الجماهير بصورة فعلية.
فتلجأ مثل هذه الأنظمة الى أسلوب الخداع، عبر أسلوب واضح، غالبا ما تعتمده هذه الأنظمة، حيث تضج الشوارع والساحات العامة وما شابه بشعارات عن الحقوق والحرية وحق التعليم والرفاهية وما الى ذلك مما يحسّن حياة الشعب، ولكن عندما نأتي الى الواقع لا نجد شيئا فعليا مما تحمله تلك الشعارات من مضامين وكلمات، ولا نأتي بشيء جديد عندما نقول، أن السبب الرئيس الذي يقف وراء معاناة بعض الشعوب الإسلامية المتأخرة، تكمن في الشعارات الكاذبة لحكوماتها.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في الكتاب المذكور نفسه، على أن: (السبب فيما نراه في البلاد الإسلامية اليوم من نواقص، ومشاكل، يعود إلى أنها إسلامية بالاسم فقط، والشعار فحسب، وليس أكثر من ذلك).
أهمية المشاركة في الرأي
هناك ارتباط وثيق بين تصحيح عمل الأنظمة السياسية، وبين حرية الرأي وأهمية المشاركة في نشر الوعي الجمعي العميق، وعندما تكون هناك مشاركة حقيقة للرأي العام حول عمل الحكومات ودرجة التزامها بواجباتها، فإن سياسة رفع الشعارات المزيفة، سو لا تصمد أمام الرأي العام الذي سيكون لها بالمرصاد دائما.
لذلك لا نلاحظ حضورا وتأثيرا لأسلوب الشعارات في الدول والمجتمعات التي تسمح بحرية الرأي، بل تنشط ظواهر كهذه في الدول التي تقودها أنظمة مستبدة فقط، من هنا يشجع الإسلام على الحرية، بل يعدها الركن الأساسي في حياة المجتمع، ويدعو لنشر الوعي بين الجميع، فإذا كان الفرد واعيا، هذا يعني أننا ازاء مجتمع واعي هو حصيلة جمع الأفراد، وهذا يقود بدوره الى نشر الثقافة السليمة، ويشجع على نشر القيم الاجتماعية الصحيحة، وكل هذا يرتبط بقضية اعتماد الشعارات رسميا، ودرجة تطابق مضامينها مع الواقع الفعلي لعمل الحكومة.
من هنا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (يشجّع الإسلام كل ما يؤدّي لنشر الوعي بين الناس ويعمّم الثقافة الإنسانية في الأمة، ويحرّم المفاسد والمغريات في هذه الوسائل، فإذا خلصت منها كان الإسلام من أشدّ المستقبلين لها).
كذلك يؤكد الإسلام على شرعية الحكومة، وأهمية مشاركة الجماهير في اختيار النظام عبر الانتخابات النزيهة، فعندما يكون الشعب هو مصدر الحكومة، تكون درجة التطابق بين مضمون الشعارات والانجاز كبيرة وواضحة، لأن الحكومة التي يختارها الشعب بصورة حقيقية، ستكون حكومة ناجحة، تحرص على العمل الجاد، وتنهض بمسؤوليتها كما يجب، لاسيما اذا كان درجة وعي الشعب عالية، وثقافته رصينة.
فهناك معادلة معروفة، كلما كان وعي المجتمع عاليا، كلما كان اختياره لممثليه وقادته صائبا، لذلك يرغب المجتمع غالبا وعموم الجماهير بالمشاركة في صنع القرار عبر ممثليهم في البرلمان والحكومة، وهذا بالضبط ما يدعو له الإسلام، اذا يحرص على ان تكون الحكومة شعبية، منتخبة بوعي، من اجل ضمان التطابق بين الشعار ودرجة الإنجاز في الواقع.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بالكتاب نفسه: (الحكومة في الإسلام شعبية بالمعنى الصحيح للكلمة، فماذا يريد الناس غير المشاركة في الرأي، وغير الغنى، والعلم، والحريّة، والأمن، والصحّة، والفضيلة، مما يوفّرها الإسلام خير توفير؟).
النظام العادل وازدهار الحياة
عندما نعود لدراسة الحكومة الإسلامية في عهد القيادة النبوية الشريفة في صدر الإسلام، فإننا في الحقيقة سنلاحظ نموذجيا فريدا في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، يقوم على العدل بالدرجة الأولى، ويحرص على حماية حرية الإنسان، ويصون حقوقه بدرجة تامة، فالكل له فرصة عمل مناسبة، وله حصة متساوية في مال المسلمين، مع الإبقاء على هامش الذكاء والنشاط والعمل الفردي مفتوحا.
بمعنى هناك تشجيع من الحكومة لمزاولة العمل والإنتاج بحرية، وفق ضوابط العدالة التي ينص عليها الإسلام، وساعدت التعاليم الإسلامية على ترسيخها بين أفراد المجتمع، وهذا يساعد على نحو واضح في انتشار العمل في الصناعة والتجارة والزراعة وفي جميع الميادين الإنتاجية، الأمر الذي يسهم في بناء الدول والمجتمع معا، حيث تزدهر الدولة وتنحو صوب الغنى والاستقرار والتطور.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب في كتاب (من عبق المرجعية): (تزدهر الحياة، بجميع أبعادها وجوانبها، في ظل النظام الإسلامي العادل، فتُعمر الديار، وتُبنى الدور، وتزرع الأرض، وتتقدّم الصناعة، وتتوسع التجارة، وتتراكم الثروة، ويستقرّ الناس في جوٍّ لا ظلم فيه ولا جور، ولا عنف ولا إرهاب، ولا قيود ولا أغلال، ولا سجن ولا تعذيب، ولا مشاكل ولا فقر).
ولا شك أن دولة بهذه المواصفات، تمثل نموذجا ناجحا للدولة التي يقودها نظام ناجح، قادر على تحقيق الدرجة المطلوبة من التطابق بين الشعار المرفوع، والانجاز المتحقق في الواقع، فعندما تتراكم الثروة، وينتفي الإرهاب، ويسود الاستقرار، وتنتشر العدالة، وتتقلص مساحات الفقر او تنعدم كليا، ويغيب الظلم وتستقر الدولة، والناس ينتجون على مدار الساعة، في أجواء سياسية عادلة، تضمن لهم حقوقهم وحرياتهم، فهذا يؤكد نجاح الدولة بلا منازع.
لذلك كان العمران مستمرا على قدم وساق، مما أسهم في صنع الارتقاء المطلوب للمجتمع وللدولة، التي استطاعت أن تضاهي أقوى إمبراطوريات العالم آنذاك، وقد سادت أجواء المحبة والثقة بين الأفراد والجماعات في عموم المجتمع، مما شكل نسيجا مجتمعيا منسجما ومتوائما، لدرجة أن الشعب بأكمله تحوّل الى ما يشبه خليه النحل، في توزيع ادوار العمل والإنتاج، وممارسة الحقوق والواجبات بأفضل الطرق الممكنة والمصانة حكوميا ودستوريا.
ولعل التقارب الشديد بين الشعار المطروح والانجاز المتحقق، هو أفضل دليل على نجاح الحكومة الإسلامية في صدر الرسالة النبوية، الأمر الذي جعل منها نموذجا حكوميا ناجحا، ينبغي أن يدرسه قادة المسلمين اليوم على أفضل وجه.
من هنا أكد سماحة المرجع الشيرازي هذا النجاح، عندما قال سماحته حول هذا الجانب: (لذا كان العمران والرقي، والمحبّة والثّقة، إبّان تطبيق الإسلام أمراً عادياً لم يجده العالم في هذا اليوم وإن كثرت فيه الوسائل).
اضف تعليق