الرسول الأكرم (ص) تمكن بالأخلاق أن يحوّل الإنسان المتعصب في المجتمع الجاهلي إلى إنسان واع يشعر بمسؤوليته الإنسانية والأخلاقية تجاه نفسه والآخرين معا، وهكذا استطاع النبي (ص) أن يبني دولة عظمى وأمة متقدمة ضاهت وتفوقت على العديد من الدول القوية حينذاك...
(كان رسول الله صلى الله عليه وآله مجمع الفضائل والمكارم)
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
لو تمّ توجيه السؤال التالي لأي إنسان، ما هو المعني بالأخلاق، فإنه سوف يجيب بسرعة ومن دون تردد، الأخلاق هي استقامة الإنسان في دنياه...
وحين يستقيم الإنسان في حياته بسبب تحلّيه بالأخلاق، فإنه سوف يكف عن إلحاق الأذى بالآخر، في كرامته وعِرضه وجميع حقوقه المادية والمعنوية، وبذلك سوف يكون عنصرا صالحا في الأمة، وبالتالي نموذجا للآخرين الذين يحتاجون إلى القدوة والمثال كي يرتقوا بأنفسهم إلى مرتبة (الإنسان الصالح).
أما النتائج التي تجنيها الأمة من الإنسان حين يكون صالحا، فهي مهمة وكثيرة وكلّها تؤدي بالنتيجة إلى علوّ شأن الأمة وارتقائها، وتربعها مكان الصدارة بين الأمم، وقد وجدنا أمثلة معاصرة للانتقال بالشعوب والدول من التخلف إلى التقدم من خلال بث الأخلاق في روح الشعب وصنع الإنسان الصالح.
من هذه الأمثلة ما حدث في سنغافورة وحتى اليابان، فهاتان الأمتان كانتا متخلفتين حتى تاريخ قريب، لكنهما في النصف الثاني من القرن الماضي، تركوا سوء الأخلاق والتعصب، وركّزوا على بناء الإنسان الحافظ لحقوق الآخرين بأخلاقه، وبذلك تحقق الإنسان الخلوق الذي أصبح منتِجا، فتحولت سنغافورا بأخلاق شعبها وإنتاجيتها إلى المرتبة الأولى من التقدم في العالم.
الرسول الأكرم (ص) تمكن بالأخلاق أن يحوّل الإنسان المتعصب في المجتمع الجاهلي إلى إنسان واع يشعر بمسؤوليته الإنسانية والأخلاقية تجاه نفسه والآخرين معا، وهكذا استطاع النبي (ص) أن يبني دولة عظمى وأمة متقدمة ضاهت وتفوقت على العديد من الدول القوية حينذاك.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يذكر في كتاب (من عبق المرجعية): (إن رسول الله صلى الله عليه وآله جعل الهدف من بعثته المباركة إتمام مكارم الأخلاق وتعميمها، بقوله: «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»).
كيف تبني الأخلاق شخصيتنا؟
هكذا هو دور الأخلاق في بناء الإنسان ومن ثم في بناء الأمة، وضمان تقدمها، وبقائها في ساحة المنافسة على المستوى العالمي، فكثرة الناس الأشرار في أية دولة أو شعب أو أمة، يعني وجود قلّة في الأخلاق، ولهذا ركّز القادة الناجحون على أهمية صنع (الإنسان المسلح بالأخلاق)، لأنه بالنتيجة سوف يكون مسلّحا بالعلم والتفوق والمنافسة الشريفة، ومراعاة الآخر وفق قواعد الأخلاق.
قيمة الأخلاق تأتي من قدرتها على تحويل الإنسان من طاقة معطّلة إلى فاعلة ومنتِجة، ليس هذا فحسب، وإنما تحريك هذه الطاقة في إطار الفعل الصالح، فقد يكون هناك إنسان معطَّل الطاقة ويمكن أن يستثمره المنحرفون إلى توجيه طاقته نحو التدمير، لكن الأخلاق تحفز طاقة الإنسان وتحركها بالاتجاه الإيجابي الذي يخدم الإنسان نفسه، بالإضافة إلى خدمة الأمة والبشرية كلها.
لهذا ركّز الرسول الأكرم (ص) على الأخلاق، لأنه يعرف مسبقا مكانتها، وما الذي يمكن أن تقدمه من حلول سحرية تعجز عنها أساليب وأدوات وأفكار هائلة، والأخلاق تجعل الإنسان ذا نفس سامية، تترفع فوق الانتهازية والنفعية، وتزيد من قدرة الإنسان على مواجهة الترغيب المادي الذي يعجّ به عالم اليوم!!
الإنسان الخلوق، أقدر من غيره على حماية نفسه من الانحراف بكل أنواعه، ويمكن أن تحمي الأخلاق أكبر المسؤولين من الانحراف، وتحصّنهم من السقوط في وحل السلطة والنفوذ، وتحميهم من تضخّم الذات والغرور والتكبر، والذهاب وراء مغريات الدنيا، مع فقدان الوقار والهيبة الحقيقية وليس الكاذبة التي يصنعها المتملقون والمستفيدون، وكذلك فقدانه لحسن العاقبة في نفس الوقت.
هذه هي مخرجات الأخلاق، حيث تحمي الإنسان من الوقوع في حبائل الدنيا، وهي كثيرة ومغرية ومخادعة في نفس الوقت، لهذا كانت وستبقى مكانة الأخلاق عالية جدا، لدرجة أن الله تعالى وصف رسوله خاتم الأنبياء (ص)، بأنه يتحلى بالأخلاق.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (عندما يريد الله أن يذكّر الأمة الإسلامية بالرحمة المهداة إليهم، يذكّرهم بأهم سمات هذه الرحمة، ألا وهي: لين أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله، ويقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللهِّ لِنتَ لَهُمْ)، مما يدل على أهمية الأخلاق والآداب في الإسلام، ومدى اعتبار توفرهما في الإنسان المسلم).
خطوات للانتقال من التخلف الى التقدم
لأهمية الأخلاق ومكانتها الكبرى بين أسباب تطور الأمم والناس جماعات وفرادى، وصف الله تعالى رسوله (ص) حين أراد أن يمدحه بصفة الأخلاق، فأية مكانة عظيمة تحملها، وأية قدرة لها على صنع الإنسان ونقله من الحضيض إلى القمة، هناك من يقول أن الدولة ترتقي بالسياسة والاقتصاد، ولكن ما فائدة سياسة بلا أخلاق، وما فائدة اقتصاد مادي لا يراعي القيم والاستحقاق؟؟
القائد السياسي المحنّك، هو أيضا الإنسان المحنّك بأخلاقياته، ومهما عظمت موارده وقواته وعرشه، إذا لم يكن للأخلاق دور في سياساته وقراراته وسلوكه، فمصيره السقوط، ولنقلّب صفحات التاريخ بحثا عن الطغاة وسقوطهم المدوّي بسبب افتقارهم لمراعاة حقوق الناس، ولو أنهم قادة مسلّحون بالأخلاق لكتب عنهم التاريخ بطريقة أخرى يستحقون فيها المجد.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إن الله سبحانه وتعالى أثنى على رسول الله صلّى الله عليه وآله بقوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، ووصفه بأنه الأحسن في كلّ شيء، وأمرنا تبارك وتعالى أن نتأسّى برسول الله صلّى الله عليه وآله في كل شيءٍ).
إذا أرادت القيادات في الدول الإسلامية والعربية وغيرها، الانتقال من التخلف الذي يعصف بها، ما عليها سوى التشبث بالأخلاق، وبدلا من حماية السلطات والعروش، عليهم حماية الرؤوس والقلوب والنفوس بالأخلاق، فكن قائدا أخلاقيا تكن ناجحا خالدا وبطلا، هذه هي محصلة القادة السياسيين المتمسكين بالأخلاق.
ليس القادة وحدهم مطالبين بتحصيل هذه القيم العظيمة، فالناس جميعا ومن دون استثناء، يجب أن يجعلوا من النبي (ص) قدوة وأسوة لهم، يستمدون منه دروس الارتفاع بالنفس فوق أهوائها، والعقول فوق شطحاتها، والقلوب فوق عواطفها، وبذلك نكون قد تركنا التخلف وراء ظهورنا، وخطونا قُدُما إلى أمام.
يطالب سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بذلك قائلا: (على المسلمين أن يتعلّموا من النبي صلّى الله عليه وآله كل شيء في حياتهم، ويقتفوا أثره في كل ما كان يفعل في حياته ويتأسّوا به في جميع الأمور ولاسيما بأخلاقه صلّى الله عليه وآله).
ربما يتساءل بعضهم، هل ما يمر به العالم اليوم من أزمات اقتصادية وسياسية ونفسية، سببه الفراغ الأخلاقي؟، الجواب: لا يمكن للعالم أن يُصبح أفضل إذا لم يتنبّه (كبار قادة العالم) للمنحدر الأخلاقي الذي يسيرون فيه، فطالما الأخلاق مركونة جانبا، وبعيدة عن السياسة والاقتصاد وغيره، فإن الأزمات سوف تستمر، والصراعات لن تنطفئ، ويبقى التخلف من نصيب الأقل أخلاقا.
المسلمون يمكنهم أن ينقذوا أنفسهم من حالة التردّي، والتهافت المادي الغريب، حين يعودون إلى جذورهم الأخلاقية، وينهلون من سيرة الرسول (ص)، كيف قاد الأمة وكيف حوّلها من نفوس متعطشة للعصبية والتطرف والقتل، إلى نقيض ذلك تماما، كل هذا تم بالأخلاق، وما على المسلمين والعالمين قادة وأمما، إذا أردوا الخلاص، إلا الاقتداء بأخلاق النبي (ص) وهضم سيرته الأخلاقية جيدا.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (على المسلمين، بل العالمين، إن أرادوا لأنفسهم خيراً، الاقتداء بسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، والتأسّي بأخلاقه صلى الله عليه وآله).
هذه السيرة النبوية الأخلاقية العطرة، يمكنها أن ترفع عنّا حُجُب الجهل، وتزيح عن عقولنا ستار الظلام، وترفع عن نفوسنا اللهفة نحو المنافع حتى غير المشروعة منها، إننا نعيش اليوم تهتكا أخلاقيا يعصف بالبشرية، والكل يعرف بذلك، والكل (لاسيما القادة المتمكنين سياسيا واقتصاديا) يغمض عينه عن ذلك، تحت ضغط المغريات والمنافع، لكن يجب وضع حد لحالة الغرق المادي، وإنعاش الأخلاق على الصعيد البشري بأكمله.
اضف تعليق