عالمية وشمول العنف المعاصر، يتطلب منا معالجة نابعة من فكر عالمي لا يوجد إلا في الفكر الإسلامي المعتدل، فعالميته وإنسانية الدَّعوة فيه تتلخَّص بنبذ العنف كله واعتناق السِّلم والدَّعوة إلى السَّلام العالمي.. السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من أعداء...
(تعميم ثقافة اللاعنف بـ: الحرية، إرساء دعائم العدالة الاجتماعية، وتوفير الفرص للجميع، وإعطاء حقوق الفقراء والمحرومين، الرقابة الاجتماعية، فتح قنوات الحوار البناء بين الأفراد والتجمعات)-المرجع الشيرازي
مقدمة تاريخية
الدارس لتاريخ الحضارة المعاصرة، والتي تعملقت حتى وصلت إلى أن حوَّلت الكرة الأرضية إلى قرية إلكترونية كبيرة، يجد أنها بُنيت على شفا حفرة من النار، تكاد تسقط فيها في كل حين، وذلك لأن ركائزها متهالكة، ومتداعية من أصلها، حيث بُنيت الحضارة في غير أرضها ومكانها التي يجب أن تكون فيه، لأن الحضارات كالبشر في كل أطوارها، وهي تتلاقح وتتزاوج وتنتج الحضارات المتلاحقة، ولذا ترى التاريخ البشري الحضاري كله في العالم القديم وما يُسمونه بالقارات الأم الثلاث (آسيا، وأوربا، وأفريقيا)، التي تتابعت الحضارات فيها منذ ذي القرنين، والنمرود، والفراعنة، وأباطرة الصين واليابان، وأكاسرة فارس وإيران، وهرقل الروم.
والحضارة المعاصرة غير شرعية لأنها مسروقة من العالم القديم، بواسطة المجرمين واللصوص الذين هربوا من وجه العدالة، وفروا طمعاً بتلك الأرض البكر التي اكتُشفت حديثاً ما وراء المحيط وسموها بالعالم الجديد، ثم الأمريكيتين، تلك الأرض التي كان يعيش فيها سكان من الهنود الحمر، فتطفَّل عليهم البيض الأوربيين قوةً وبسطوا سيطرتهم بقوة السلاح والعنف، وحكموا البلاد بالحديد والنار، لأن السكان الأصليين كان يعيشون عصور بدائية جداً، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يسرقون السود من القارة الأفريقية ويرسلونهم إلى هناك ليعملوا لهم في مزارع الأبقار عندهم فاجتمع الألوان الثلاثة هناك، الأبيض الحاكم والمسيطر، والأسود العامل والعبد، والأحمر المطارد حتى الإبادة.
فكان العالم الجديد يخوض حرباً لا هوادة فيها بين الألوان البشرية الثلاثة، وهكذا استمرت لأكثر من قرن ونصف، وهي في الحقيقة لم تنته إلى اليوم، و"الحرب الأهلية الأمريكية، هي صراعات داخلية حدثت داخل الولايات المتحدة في الفترة من عام 1861 إلى 1865، واجه فيها الاتحاد (الولايات المتحدة) الانفصاليين في إحدى عشر ولاية جنوبية مجتمعة معاً لتكون الولايات الكونفدرالية الأمريكية، وقد فاز الاتحاد بهذه الحرب التي ما زالت تعدّ الأكثر دموية في تاريخ الولايات المتحدة". (الموسوعة الحرة؛ الويكيبيديا)
و"تعد الحرب الأهلية الأمريكية من أوائل الحروب الصناعية الحقيقية (الحضارية)، حيث استخدمت فيها بشكل مكثف السكك الحديدية، التلغراف، البواخر، وإنتاج الأسلحة الضخم، وقد ظهر أثر أستنفار المصانع المدنية، الألغام، أحواض بناء السفن، البنوك، وسائل النقل والإمدادات الغذائية في التحول الصناعي في الحرب العالمية الأولى.. ولا تزال هذه الحرب الأعنف في التاريخ الأمريكي (بل في التاريخ البشري)، حيث تُشير التقديرات أن خلال الفترة من 1861 إلى 1865، لقي حوالي 620٬000 شخص حتفه، ولكن الدراسات الحديثة تقول أن 750٬000 من الجنود لقوا حتفهم بجانب عدد غير معروف من المدنيين، وتقول أحد التقديرات، أن هذه الحرب قد أزهقت بحياة 10% من الذكور الشماليين التي تتراوح أعمارهم ما بين 20-45 سنة، و30% من الذكور الجنوبيين البيض الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18-40 سنة". (الموسوعة الحرة؛ الويكيبيديا)
وبعد أكثر من عشرة آلاف معركة استطاع (إبراهام لينكولن الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة (1861-1865)، أن يوحِّد كل تلك الشعوب المختلفة، والأقوام المتحاربة، والتي لا يجمعها إلا الطمع بالثراء، والغنى، والجاه والسيطرة، فأبادوا الهنود الحمر حتى لم يبقَ منهم إلا النادر، واستعبدوا السود حتى ساووهم بالكلاب واليهود، وراحوا يُجمِّعون قواهم في دولهم وولاياتهم الأكثر من خمسين، في دولة فدرالية تمتد من المحيط إلى المحيط، ولكن تحكمها حكومة واحدة ولديها جيش واحد، وكل المؤسسات الأخرى التي تعملقت حين ورثت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والتي تُعد من أبشع وأشنع الإمبراطوريات في التاريخ البشري كله ألا وهي الإمبراطورية الإنكليزية المتهالكة في نهاية الحرب العالمية الأولى.
إمبراطورية العنف
فمما تقدم نعلم جيداً أن هذه الإمبراطورية الناهضة، التي ولدت من رحم الإمبراطورية الإنكليزية ولكن بٌنيت في أمريكا حيث العالم الجديد، بالنار والحديد، وكان ضحيتها شعبين كاملين (الحمر والسود)، فما يكتبونه في تاريخهم الأسود حقاً وصدقاً من أعجب وأغرب قصص العنف فقد كانوا يتعاملون مع البشر بالعنف ومع البهائم باللطف، فكانوا يُحبون الخيول والبقر، ويكرهون كل ألوان البشر إلا اللون الأبيض الأوربي حصرياً، فجاءت حضارتهم تسبح في بحار من الدماء البريئة.
وبنت حضارتها على جبال من الرؤوس المقطعة، والأشلاء المضرَّجة للحمر والسود خاصة، ولكن ما أن استقرَّت راحت تتطلَّع إلى خارج حدودها لتأمين الموارد المادية والمالية وتسيطر على الأسواق لبيع نتاجها من كل شيء تصنعه وما برعت إلا في صناعتين هما:
1- السلاح بأحدث أصنافه وأنواعه لصناعة الموت والقتل وبث الرعب والعنف والإرهاب.
2- الإعلام والإعلان بأخبث ما فيه من كذب ودجل ونفاق لتسويق سياسة الإمبراطورية، وخلق جو لها ليتقبلها العالم لا سيما الشعوب والأمم بما فيها من عنف وإرهاب، فصار الإعلام سلاحاً أقوى من السلاح النووي لما يفعله في العقول ويتلاعب بالأفكار.
فالإمبراطورية الأمريكية رائدة وقائدة ورأس الحضارة المعاصرة قامت على العنف بكل معنى الكلمة، ولذا بَنت هذه الحضارة بنفس الطريقة من العنف والإرهاب والإرعاب، فتراها في أقل من ربع قرن خاضت حربين عالميتين حتى خرجت من الحرب العالمية الثانية الدولة النووية المرعبة، فراح العالم والدول القوية تتسابق معها على صناعة الموت ونشر العنف والإرهاب في العالم أجمع بسباق تسلح لم تعرف البشرية له مثيل لا سيما في النصف الثاني من القرن الماضي بين الإمبراطورية الأمريكية وحلفها الناتو، وبين الاتحاد السوفييتي وحلفه وارسو، حتى زرعوا الفضاء بالصواريخ النووية والعابرة للقارات.
ولم ينته القرن إلا وذهب الاتحاد السوفييتي وقيادته الشيوعية وفكرها إلى مزابل التاريخ وهكذا تربَّعت الإمبراطورية الأمريكية على كرسي العالم المتحضِّر وانفردت بقيادة العالم وهي إلى الآن تحارب في سبيل ذلك ولكن بأي شيء ساست الأمم والشعوب، وكيف تعاملت مع الدول؟
عنف الحضارة المعاصرة
إنها سياسة العنف، وما سمونه "الحرب على الإرهاب"، و"محور الشر"، و"الدول المارقة"، ولكن على أي أساس يكون التمييز والتسمية والانتماء عندهم؟ قالوا شعارهم: "أمريكا أولاً"، فالمصالح الأمريكية ورفاهية الشعب الأمريكي هي أولاً ومن بعدهم الطوفان، أو الجحيم لا يهمهم ذلك، ولهذا قال رئيس الوزراء البريطاني الشهير وينستون تشيرتشل ذات مرة وكررها ثعلبهم كيسنجر: "ليس هناك عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة، بين الدول بل هناك مصالح".
فالحاكم العالمي المصلحة الأمريكية، والعجيب الغريب أنها راحت تتعامل مع البشرية قاطبة بنفس الطريقة الأمريكية "رعاة البقر؛ الكوبوي"، لتسويق سياساتها بالقوة والعنف والإرهاب، وتهرباً من هذه التهمة الشنيعة عالمياً ظهرت لنا عن طريق الإمبراطوريات الإعلامية الخمسة التي تسيطر عليها على أنها حمل وديع وتريد أن توزع الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، على الشعوب والأمم وفي كل الدول، رغماً عنها ومَنْ لا يقبل يُحارب ويُصنَّف على أنه دولة مارقة، وغير متحضرة، وفي محور الشر، لأنها لم تخضع وتخشع وتُصلي في محراب الإمبراطورية.
فصارت الحضارة المعاصرة حضارة الحروب وإبادة الشعوب بـ"الجيل الرابع من الحرب"، وهو ما يسمونه "الفناء الذاتي"، وهدفها الأول أن تصنع الحروب الأهلية في الدول لإفشالها، وبين الشعوب حتى يقتلون بعضهم بأيديهم، أو يخضعون لأوامر الإمبراطورية كما جرى عندنا في الشام منذ عقد من الزمن، وفي العراق منذ عقود، وفي لبنان، واليمن، وليبيا، والسودان، غيرها من الدول المصنفة بالمارقة على السيد الأمريكي، ككوريا، وكوبا، والبرازيل، وإيران، وأفغانستان، وكأننا في مزرعة أبقار يحكمها الكوبوي ولكن بوسائل رقمية، وبالقوة والعنف والإرهاب بأبشع أنواعه.
شواهد ومشاهد كارثية
لو نظرنا في الخريطة العالمية من أمريكا نفسها رأس القاع الحضاري المعاصر حتى كوريا وكوبا مروراً بمنطقتنا خاصة وما يسمونه الشرق الأوسط الكبير، فإنك ترى العنف يلفُّ العالم كله منذ أن ظهرت إلى الوجود هذه الدولة الشيطانية، لأنها تعتمد على الهرم الكوني، وفي رأسه عين الشيطان، وهذا ما هو مثبت على الدولار الذي صار كارثة العالم المعاصر.
فالعنف صار ظاهرة واضحة في الحضارة الرقمية المعاصرة بل صار ثقافة في مثل أمريكا التي ترى فيها انتشار السلاح بشكل عجيب وغريب، فعدد السلاح فيها يفوق عدد سكانها ثلاث مرات، واخترعوا شركات للقتل يسمونها الشركات الأمنية مخصصة للقتل والاغتيالات، وشركات لتسويق المخدرات وسموها مافيا، وشركات عملاقة لصناعة وتسويق السلاح، وشركاتها كلها عابرة للقارات وتجوب البحار والمحيطات وتنزل في أي مكان وتأخذ ما تريده من الثروات بقوة السلاح.
ويكفيها عنفاً ما أبادته في حربين عالميتين واستخدامها للقنبلة النووية في إنهاء الحرب الثانية حيث أبادت مدينتي ناغازاكي وهيروسيما، في اليابان بلحظات ودون أن تطرف لرئيس الإمبراطورية عين وكأن في تلك المدينتين يعيش وحوش كاثرة وليس بشر مثله، ثم مَنْ أبادوهم في فيتنام، وكوبا، وفلسطين ولبنان وسوريا والعراق وأفغانستان، وغيرها من الدول التي أشعلت فيها الحروب وصنعت فيها القلاقل والنزاعات لنشر الإرهاب والعنف بنظرية قديمة جددوها باسم "الفوضى الخلاقة"، وهي الفوضى التي ينشروها في البلدان والشعوب لتخلق لهم الجو المناسب للسرقة والنهب، والقتل والدمار، وآليتها وسلاحها الفعال في ذلك كله شركتها الأمنية "بلاك ووتر".
فالمتأمل في الخريطة الجيوسياسية، والسامع لنشرات الأخبار يجد أن العنف يلف العالم من أدناه إلى أقصاه، ومن أسفله إلى أعلاه، وكل ذلك بفضل وبركة وكارثة القيادة الحضارية لإمبراطورية الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، وما رفعت شعاراً إلا لضربه، وما قالت كلمة، ولا فعلت فعلاً إلا لتحقيق مصلحتها ورفاهية طبقة اللوردات، والأغنياء من شعبها، لأن الرئيس عندهم لا يمكن إلا أن يكون من هؤلاء الطغاة، فأعطت المعنى الحقيقي للديمقراطية (حكم الطبقة الفاسدة).
كما أن سلاح اللقمة، والجوع، بالحصار الاقتصادي، وفرض العقوبات على شعوب بأكملها لأجل أن يخضع زعيمها، كما يدَّعون كذباً وزوراً وبهتاناً، ونشر الأوبئة والأمراض كما نعيش في هذه الأيام في أتون هذه الجائحة التي أربكت الجميع بما فيهم العالم المتحضر، ولكن لم تردعهم عن الدجل والنفاق فصارت سوقاً سياسية لضرب الفقراء والبسطاء لقتلهم إما جوعاً، أو مرضاً، وفي العراق الجريح جاؤوا ببدعة من جدهم النمرود وهي حرق المرضى وهم في المستشفيات، للأسف الشديد، أو تفجيرهم في الأسواق الشعبة المزدحمة بالبشر.
الإسلام وصناعة الحضارة
الناظر إلى الكرة الأرضية يجدها تلتهب فعلاً وكأنها على فوهة بركان، تنتظر قذف الحمم الملتهبة ليحرقوا الحياة والأحياء فيها، فكم ينطبق عليها قول ربنا سبحانه وتعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (الروم: 42)
نعم؛ ظهر الفساد في كل شيء لا سيما في العقائد والأفكار حيث تركوا الرحمن وعبدوا الشيطان ورجعت الجاهلية من جديد وانتشر الشرك والكفر في العالم وتجددت الأصنام والأوثان الحجرية والبشرية، وقتلوا الإله في حياتهم، والإنسان فيهم فعادوا كقطيع من البهائم الهائمة يقودها الكوبوي إلى الهاوية والجحيم، نار العنف والإرهاب في الدنيا ونار الله أشد وأبقى في الآخرة.
والإسلام دين الله في الأرض، وهو الذي بنا للإنسانية حضارة في عصر الجاهلية، ورفع العرب من حضيض سحيق إلى أوج العلم والتقدم والحضارة بما يتضمنه من برامج عملاقة تقود الحياة برمتها وتعطي كل ذي حق حقه في هذه الحياة، لأنها عادلة في أحكامها مقسطة في اجتماعها، فلا تظلمون ولا تُظلمون، وهي فطرية وعقلية تتلاءم مع البشر في كل عصر ومصر.
ومن هذا المنطلق تجد أعلامنا ومراجعنا العظام لا سيما مَنْ نحن نعيش في ظل أفكاره الحضارية سماحة المرجع الكبير والمربي القدير السيد صادق الشيرازي (دام ظله) فإننا نجد في دروسه ومحاضراته وأجوبته على أسئلة الأخوة المؤمنين الكثير من الأفكار والرؤى الحضارية التي تبني المجتمع وتطوره على أساس القيم السماوية، والآيات القرآنية الشريفة، ولا عجب فإنه ابن مدرسة الولاية لآل محمد (ص)، وقائد من قادتها، ورائد من رواد مدرستها.
فسماحة السيد المرجع يرى حرمة العنف أصلاً وفصلاً وممارسة –كما تقدم من بحث– إلا في حالات رد الاعتداء، والدفاع عن حرم الإسلام وحريم المسلمين وأرضهم وعرضهم ومكتسباتهم، فإن المسألة تصبح واجبة شرعاً وعقلاً ونقلاً، وهو الجهاد الأصغر كما هو معروف، ولكن مسألة العنف بكل أشكالها وأنواعها مرفوضة لدى سماحة السيد المرجع الكبير.
المدرسة الشيرازية الحضارية
كم ناضل وجاهد السادة من آل الشيرازي الكرام في سبيل إثبات أن الإسلام العظيم هو أعظم شريعة وقانون يمكن أن يبني الحضارة الإنسانية في عصر الحضارة الرقمية وفي كل عصر ومصر بشرط العمل بالإسلام كلاً، والأخذ به من كل النواحي، وتطبيقه في جميع مفاصل الحياة من الشيخ المجاهد محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في وجه الإنكليز أرباب الحضارة التي لا تغيب عنها الشمس، وحتى الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) كم كتب وخطب في سبيل بيان عظمة الإسلام ومنهاجه القويم.
فكتب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، فماذا يُريد البشر غير ذلك؟
وكتب الكثير من الكتب في سبيل تطبيق الإسلام وقوانينه، وأحقيته على كل الأطروحات التي يعجُّ بها العالم المتقدم اليوم، وكذلك سار على نفس المنهاج، والطريق سماحة السيد المرجع الكبير السيد صادق الشيرازي (حفظه الله)، حيث كتب، وتكلم، ووعظ، في توضيح الأسس الراقية لنظرة الإسلام للحياة، والأحياء وأنه يبني الحياة على قاعدة السلام لا العنف، والعنف المضاد.
فالإمام الشيرازي (رحمه الله) كان يؤمن ويعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الأديان قامت على مبدأ السلم والأخوة بين البشرية ونبذ العنف حيث يقول: "إن منطق الرسل والأنبياء هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)
هذا هو منطق الأديان السماوية كلها، وما نقرؤه في بعض الكتب المدَّعاة عن القتل والحرق وسفك الدماء ما هي إلا أكاذيب إفتراها الأولون من أصحاب الفكر العنصري (شعب الله المختار) لقتل الشعوب والأمم منذ القديم وهم كذلك حتى اليوم، وكل ما نراه ونسمعه في عالمنا المتحضِّر من عنف وقتل وسفك للدماء هو من صناعة ونشر وتوزيع أولئك الأشرار، وكل النظريات التي تُحارب الرب والأديان، أو تهين وتنزل من كرامة الإنسان، أو تدعو إلى القتل والحرب هي من نبع آسن اسمه "بروتوكولات... صهيون".
المرجع السيد صادق الشيرازي مثال في السلم
ونحن لا نتحدث عن غابر الزمان لنحتاج إلى أدلة وبراهين، ولا نتكلم عن أساطير العهود السابقة بل نتحدث عن سماحة السيد المرجع السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) وهو ملئ العين والبصر وها هو يعيش بين الناس ونراه كلما أردنا وسمحت لنا الفرص، ونجلس معه ونتحدث براحتنا فيسمع منا ويناقشنا ويوجهنا دون خوف أو وجل.
فكل مَنْ زار سماحته يشعر من اللحظة الأولى أن هذا الرجل ليس كغيره من رجال الدِّين لا سيما على مستوى المراجع العظام – حفظهم الله جميعاً – لأنه يرى منه التواضع العجيب، والأخلاق الراقية جداً التي ربما لم يصادفها في حياته، حتى أن "الكاريزما" التي يتمتع بها سماحته هي مميزة وخاصة جداً به وربما لا يشاركه فيها إلا الأقلون من علمائنا الكرام.
فكل ما في سماحة السيد المرجع هو تجسيد للشرع الإسلامي الحنيف، وأخلاقياته الراقية، فهو يستقبلك بابتسامته، وسلامه، وهدوئه، ويُكلمك بنفس الطريقة، ويسمع منك بإهتمام ومتابعة، فهو المثال الرائع، والراقي جداً للمنظومة الإسلامية وأولها اللاعنف، لأنك لا ولن ترى العنف في بيت سماحته، ولا كلامه وخطبه ومحاضراته ودروسه منذ نصف قرن من الزمن وبكل الظروف في الشدة والرخاء، فهو هو كالذهب الخالص لا شائبة فيه، فلا يتقلَّب ولا يتلوَّن، بل هو هشٌّ بشٌّ، وهيِّنٌ ليِّن، بشره في وجهه وحزنه في قلبه، تلك هي شخصية السيد المرجع الذي لم أسمع منه، أو عنه حتى كلمة عنيفة واحدة، ولا موقفاً عنيفاً أيضاً.
وما ذلك إلا لأن العنف يُخالف المبدأ الذي يؤمن به ويسعى لنشره في العالمين، فهو مثال لرجل الدِّين والمرجع الذي يلتزم بما يقول، ويعتقد، والإسلام كله أمن وسلام، وقسط وعدالة فكيف يُخالفه في حياته وتطبيقه في مجتمعه الذي يُحاول أن يوصل إليه الفكر، والفقه، والثقافة السليمة التي ربَّى عليها رسول الله (ص) أهل بيته الأطهار (ع) وهم ربُّوا الأمة على تلك القيم النابعة من كتاب الله سبحانه وتعالى، الذي كان خُلُق رسول الله (ص)، وهو القائل: (أنا أديبُ الله، وعليٌّ أديبي)، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكد هذه الحقيقة ويُضيف عليها فيقول: (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدّبَه اللهُ عزّ وجلّ، وهو أدّبَني، وأنا أُؤدِّب المؤمنين، وأورِّث الآدابَ المـُكرَمين). (تحف العقول: ١١٩، بشارة المصطفى: ٢٥ وبحار الأنوار: ج٧٧ ص ٢٦٩)
فهو من مواريث أمير المؤمنين (ع) لأنه من نسل أولئك المكرَّمين الذين ورثوا أدب رسول الله (ص) عن جدهم أمير المؤمنين (ع)، فتراها طبيعية وتظهر لك أنها ليست مصطنعة، بل هي سجايا نابعة من الطينة المباركة، بما زيَّنها الأدب الراقي لتلك العائلة التي أهم ما يُميِّزها أمران اثنان هما: العلم، والأخلاق (الأدب)، وهم يُحاولون أن يُعلموا ويُؤدبوا تلاميذهم ومقلديهم.
وصدق مَنْ قال: "إننا نعيش في زمن العنف الشامل!" وأصوات الدُّعاة إلى اللاعنف من النوادر، وتكاد تكون معدومة وسط هذا الضجيج العالي للعنف العالمي الذي يُعتبر بحق من "المصاديق الظاهرية لتغلب القوى الشريرة في الإنسان على القوة الخيرة"، فالعنف بأنواعه كلها يرفضه سماحة السيد صادق الشيرازي؛ بالقول، والفعل، وحتى في القلب، فهي مرفوضة ومدانة من قِبله وهذا ما نقرأه في كلماته الكثيرة ومحاضراته التربوية ونكتفي ببعض الإجابات من سماحته عن مسألة العنف التي تلفُّ العالم المعاصر كله، لنعرف منهج سماحته في هذه المسألة المؤرقة للعالم الإسلامي كله، فهو المتهم بالعنف والإرهاب، وهو الذي يدعو إلى السلام بين جميع الشعوب والأمم، والتآخي بين أفراده من البشر.
فيُعرِّف سماحته العنف بقوله: "العنف هو استخدام القوة المعتدية"، والدفاع حق مشروع يضمنه كل الشرائع السماوية والأرضية، ولكن من أين ينبع العنف، وما هي جذوره العميقة؟
يجيب سماحة السيد بقوله: جذور العنف هي:
أولاً: الجهل.
ثانياً: العصبية.
ثالثاً: الفهم الخاطئ للدِّين.
رابعاً: الاستبداد والديكتاتورية.
خامساً: الحرمان الاجتماعي.
سادساً: العنف والظلم من قبل الحكومات والأفراد، فإنه يولد العنف المضاد.
سابعاً: غلق قنوات الحوار البنّاء، أو ضيق هذه القنوات"، تلك هي الجذور والمنابع ولكن كيف لنا مواجهة هذه الظاهرة المدمرة لكل شيء، وعلى كل المستويات؟
يجيب سماحة السيد المرجع بقوله:
أولاً: تعميم ثقافة اللاعنف، وتوضيحه أن العنف نار تحرق الكل ولا تستثني أحداً، وبيان مضار العنف؛ النفسية، والاجتماعية، والدينية.
وثانياً: بتوفير الحرية للمجتمع، فإنه في أجواء الكبت والإرهاب والاستبداد والديكتاتورية تنمو الاتجاهات المتطرفة والحركات التدميرية، قال تعالى في سياق بيان صفات الرسول الأعظم (ص): (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). (الأعراف: 157)
وثالثاً: بإرساء دعائم العدالة الاجتماعية، وتوفير الفرص للجميع، وإعطاء حقوق الفقراء والمحرومين، وقد جعل الإسلام (بيت المال) لعامة المسلمين: يسد عوزهم ويؤدي ديونهم…
ورابعاً: بالرقابة الاجتماعية، وبالأنظمة العامة التي تحمي المجتمع من حاملي راية العنف.
وخامساً: بفتح قنوات الحوار البناء بين الأفراد والتجمعات".
والعجيب أن سماحة السيد الشيرازي يرفض العنف كمبدأ في مواجهة العنف كحالة اجتماعية وسأله الأخوة فقال سماحته: " لا يصح استخدام العنف بالمعنى المتقدم ولو في مواجهة العنف.
نعم؛ إذا كانت هنالك ضرورة فلا بأس باستخدام القوة كما لو هاجم البلاد: عدو غاشم، فلا مانع من استخدام القسوة لصده، إذا لم تنفع الوسائل السلمية - كالإضرابات والمظاهرات ونحوها - في ذلك، إلا أن ذلك لا يسمى (عنفاً) بل (دفاعاً مشروعاً)، ولذا تستخدمه جميع الدول في مواجهة الأعداء المهاجمين من دون أن توصم بـ(العنف)"، ويقول أيضاً: " العنف - بالمعنى الذي تقدم - غير مسموح به مطلقاً".
فقد يتذرَّع أحدهم بقول أمير المؤمنين (ع): (رُدُّوا الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا الشَّرُّ)، فهي من باب الدفاع عن النفس في مواجهة المعتدي فهي من الواجبات أحياناً.
الخلاصة السليمة
إن عالمية وشمول العنف المعاصر، يتطلب منا معالجة نابعة من فكر عالمي لا يوجد إلا في الفكر الإسلامي المعتدل، فعالميته وإنسانية الدَّعوة فيه تتلخَّص بنبذ العنف كله واعتناق السِّلم والدَّعوة إلى السَّلام العالمي وجميل ما كتبه الدكتور أسعد الأمارة عن الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله): "الشيرازي في دعوته إلى مبدأ اللاعنف لكل البشرية دون استثناء، اعتمد على صياغة مفاهيم الحياة صياغة جديدة وممارسة شؤونها ممارسة فعلية، لذا نلاحظ من الواضح أن الغاية الأولى لديه عكست ما انطبع في نفسه من تعاليم ومنهج القرآن الكريم بكل شموليته العظيمة، وهو أعظم تعبير عن طموحه الذاتي والموضوعي المعرفي في مبدأ اللاعنف".
ثم يقول: "نادى الإمام الشيرازي بمبدأ التغيير في كل مجالات الحياة ومواكبة حركة التطور الطبيعي للتاريخ وحركة التغيير الاجتماعي، ومن هذا المنطلق الفكري كان ينادي حتى وفاته باستخدام مبدأ اللاعنف في كل مجالات الحياة، فالإمام الشيرازي يرفض العنف والعدوان كأسلوب لحل المشكلات باعتبارها من الأساليب التي تؤثر في حياة الفرد والمجتمع، ويستند سماحته في ذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من آيات صريحة لا تقبل اللغط وما ورد في سنة رسول الله (صل الله عليه وآله) وروايات آل بيت الرسول (عليهم السلام)، فيقول السيد الشيرازي: "إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من أعداء، ويطرح أفكاره ونظريته التي تساير وتواكب التمدن والتغيير الاجتماعي كمبادئ تحولت إلى ميدان التطبيق الواقعي، وهو بنفس الوقت يرفض جميع أنواع التسلط والتعسف والعنف على الأفراد أو على الشعوب في سياق التعاملات الفردية والجماعية، ويستمد هذه الرؤية من قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة: 208)، ويستطرد السيد الشيرازي مؤكداً على مبدأ اللاعنف كحقيقة لا يرقى إليها الشك إطلاقاً في الدِّين الإسلامي بقوله: إن الأصل في الإسلام: السلم واللاعنف".
وهي نفسها نظرة ونظرية، ورأي سماحة السيد صادق الشيرازي الذي يعيش في عصر الحضارة الرقمية التي قامت على العنف، وراحت تنشر العنف والإرهاب في كل بقاع الدنيا وتتهم فيه الإسلام والمسلمين لعلمهم ومعرفتهم بأن الفكر الوحيد الذي يمكن أن يُنقذ العالم والحضارة هو الفكر الإسلامي الراقي، وتطبيقه على أيدي الأمناء من قادة ومراجع الدِّين الإسلامي الحنيف.
اضف تعليق