q
لم يحصل اللبنانيون على أجوبة عن أسئلتهم: من أتى بهذه الكمية الضخمة من نيترات الأمونيوم؟ لماذا تُركت سبع سنوات في المرفأ، ومن كان يعلم بها وبمخاطرها؟ وما هي الشرارة التي أدت إلى الانفجار؟ بدأ لبنان مسيرته نحو الهاوية مع إعلان السلطات التوقف عن دفع ديونها الخارجية، ووضعت المصارف...

في الرابع من آب/أغسطس 2020، وقع انفجار ضخم في مرفأ بيروت قتل أكثر من مئتي شخص وألحق دماراً ضخماً في المدينة... وعمّقت المأساة أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية كانت بدأت قبل أشهر. بعد مرور عام، لا يزال البلد الصغير المنهك ينزف، ولم يحاسب أحد على ما حصل.

حوّل الانفجار الذي عزته السلطات إلى كمية ضخمة من نيترات الأمونيوم مخزنة من دون تدابير وقائية، بيروت إلى مدينة موت، دمّر أحياء فيها واقتلع أبواباً ونوافذ حتى في ضواحيها، وخلّف صدمة لم يشف اللبنانيون منها بعد.

وتبين، وفق تحقيقات إعلامية ومصادر مواكبة للتحقيق، أن مسؤولين سياسيين وأجهزة أمنية والجيش كانوا على علم بمخاطر وجود 2750 طناً من نيترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ، لكنهم لم يحركوا ساكناً. وعندما قرر القضاء استدعاء بعض هؤلاء المسؤولين لاستجوابهم في القضية، ثارت ثائرة السياسيين، ورفضوا رفع الحصانة عن نواب تولوا مناصب وزارية، ومنح الإذن لاستجواب مسؤولين أمنيين.

وتقول كارلن حتي كرم (26 عاماً) التي فقدت زوجها شربل وشقيقها نجيب وابن عمها شربل في عداد عناصر فوج الإطفاء الذين كانوا يحاولون اخماد حريق سبق الانفجار، "خسرنا كل شيء.. توقفت حياتنا في الرابع من آب/أغسطس". بحسب فرانس برس.

حتى اليوم، لم يحصل اللبنانيون على أجوبة عن أسئلتهم: من أتى بهذه الكمية الضخمة من نيترات الأمونيوم؟ لماذا تُركت سبع سنوات في المرفأ، ومن كان يعلم بها وبمخاطرها؟ وما هي الشرارة التي أدت إلى الانفجار؟

عيّن قاضي تحقيق أول في القضية، وقرر الادعاء على مسؤولين، فوقفت السياسة له بالمرصاد وتمّت تنحيته، بحجة عدم اتباعه الأصول القانونية. ويسير المحقق العدلي الذي خلفه طارق بيطار على خطاه اليوم، إلا أنّه لم يُعط بعد إذنا لملاحقة الأمنيين، ويعرقل البرلمان رفع الحصانة عن نواب ثلاثة، كانوا يشغلون مناصب وزارية، وتم استدعاهم.

وانتقدت دول عدة بينها فرنسا مسار التحقيق، وطالبت منظمات دولية بتشكيل بعثة تحقيق بإشراف الأمم المتحدة تدعم التحقيق المحلي، علها تنتشله من التدخلات السياسية.

وتقول كارلن "الحزن لا شيء يوقفه.. لكننا نسعى خلف الحقيقة والعدالة، علّنا نخفف شيئاً من الغضب في داخلنا".

ووقع الانفجار في عزّ أزمة كوفيد-19، ففاقم هموم اللبنانيين الذين كانوا غارقين أصلاً في أزمة اقتصادية غير مسبوقة.

أسوأ من الحضيض؟

في تشرين الأول/أكتوبر 2019، ثار اللبنانيون ضد الطبقة السياسية التي يتهمونها بالفساد والعجز. أسقطوا الحكومة آنذاك، وطالبوا بحكومة تكنوقراط. لكن الحكومة التي شكلت بعد عناء برئاسة حسان دياب لم تنجز شيئاً بسبب الانقسامات السياسية وتمسك الأحزاب والأطراف المختلفة بنفوذها، وقدمت الحكومة استقالتها إثر الغضب الشعبي الذي تفجر في وجهها بعد انفجار المرفأ.

وتتابع كارلن "الأشخاص أنفسهم هم سبب كل العلل". وتضيف "قبل الانفجار، بدأ الانهيار الاقتصادي والانهيار الصحي... يجب أن يتحملوا مسؤولية ما قاموا به، ومسؤولية عدم إدارتهم للبلد".

بدأ لبنان مسيرته نحو الهاوية مع إعلان السلطات التوقف عن دفع ديونها الخارجية، ووضعت المصارف قيوداً على الودائع، وبدأت العملات الأجنبية تنفد من الأسواق والليرة اللبنانية تفقد قيمتها. ضرب الانهيار الاقتصادي قطاعات مهترئة أساساً مثل الكهرباء، وتعثرت قطاعات أخرى، وصولاً الى قطاع الصحة بعد تفشي فيروس كورونا ثم هجرة مئات الأطباء والممرضين الى الخارج بسبب الأزمة، ومؤخراً نقص الأجهزة الطبية والأدوية جراء التدهور المالي وعدم القدرة على فتح اعتمادات بالدولار.

وسرّعت كارثة مرفأ بيروت، أحد أكبر الانفجارات غير النووية في العالم الذي ذكّر بالقصف النووي على هيروشيما وناكازاكي، الانهيار في البلد.

وتقول الأستاذة المحاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت ريما رنتيسي "اعتقدنا أننا وصلنا إلى الحضيض. فكيف بالوضع أن يسوء أكثر؟".

وتضيف "ما هو واضح لي، وما أذكّر نفسي به كل يوم، هو أن هؤلاء الذي يديرون البلد ليسوا سوى مجرمين وقتلة"، مضيفة "بعد الانفجار، فهمنا تماماً أنه طالما هم في السلطة، لن يتغير أي شيء".

قتل الانفجار 214 شخصاً وجرح أكثر من 6500 آخرين وشرّد عشرات الآلاف عاد عدد منهم الى منازلهم.

وهبّت الدول لمساعدة لبنان، لكن المساعدات كانت محددة الأهداف لدعم المتضررين من الانفجار.

وضاعف المجتمع الدولي الضغوط على السياسيين اللبنانيين لتشكيل حكومة وتنفيذ إصلاحات ضرورية يشترط تحقيقها لتقديم القروض والمساعدات للحكومة.

لكن الإصلاحات لم تحصل. وجمدت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بسبب عدم قدرة المسؤولين اللبنانيين على تقديم رؤية موحدة للوضع. ومنذ عام، تقود البلاد حكومة تصريف أعمال لعدم تمكن القوى السياسية من التوافق على حكومة جديدة.

وكلّف قبل أيام نجيب ميقاتي المهمة الصعبة بتشكيل حكومة جديدة، بعد تنحي سعد الحريري الذي عجز عن ذلك على مدى أشهر طويلة.

بعد سنة على وقوع الانفجار، لم يهدأ غضب اللبنانيين، لكنهم أيضاً يبدون متعبين. فالدعوات الى الاحتجاج في الشارع لم تعد تجمع كثيرين، كما حصل في تظاهرات تشرين الأول/اكتوبر 2019 ضد الطبقة الحاكمة، والتي علقت عليها آمال كبيرة لم تتحقق. وباتت الاحتجاجات محدودة وغالباً ما تشهد قطع طرقات وأعمال شغب.

وتقول إميلي، وهي شابة في الثانية والثلاثين وموظفة في مؤسسة حكومية، "كل ما أريده هو الهجرة. أريد أن أبعد أولادي من هنا، وأبني لهم مستقبلا".

وفوق ذلك كله، يعاني لبنان من أزمة محروقات ونقص في مواد غذائية وطبية وأساسية.

وتشهد معظم المناطق اليوم تقنيناً شديداً في الكهرباء يصل إلى 22 ساعة في اليوم، بينما لا يوجد ما يكفي من الوقود لتشغيل المولدات الخاصة.

كل يوم تقريباً، يصدر تحذير من قطاع ما: المستشفيات تحذر من نفاد المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات وسط انقطاع التيار الكهربائي ومخاطره على حياة المرضى، الصيدليات تنفذ إضرابات بسبب انقطاع الأدوية، المتاجر قد تضطر لإفراغ براداتها لعدم توفر الكهرباء والوقود.

وباتت حقائب القادمين من السفر لزيارة أهلهم أشبه بصيدليات متنقلة مليئة بالأدوية وحليب الأطفال وغيرها من الحاجات الأساسية.

وتقول رنتيسي "ندور في حلقة مفرغة. نصحو كل على يوم على ما هو أسوأ".

ويقول رسام الكاريكاتور برنارد الحاج "وكأنها +ديستوبيا+.. إنها الكلمة الوحيدة التي أستطيع أن أصف بها لبنان.. تعيش أسوأ كوابيسك ولا قدرة لك على التحكم به".

أما أهالي ضحايا الانفجار، فهمهم الأكبر محاسبة المسؤولين عن الكارثة التي خطفت أحباءهم.

وهم سيستذكرون قتلاهم الأربعاء الرابع من آب/أغسطس في ما أسموه في بيان صدر عنهم "يوم المطالبة بالحقيقة والعدالة". ودعوا الى مسيرات في هذا اليوم، والى تلاوة صلوات إسلامية ومسيحية، وقداس سيترأسه البطريرك الماروني بشارة الراعي في المرفأ المدمر الذي باتت إهراءات القمح فيه آيلة للسقوط.

وتقول كارلن "فليحاسب ولو لمرة أحد أخطأ في هذا البلد"، مضيفة "لا شيء يعيد لنا ما خسرناه.. نحن نسعى كي لا يتكرر ما حصل، فربما يتمكن جيلنا أن يبدأ من جديد".

وإن كان كثر يشككون في إمكانية الوصول إلى الحقيقة الكاملة او محاسبة جميع المسؤولين، يقول الحاج "إذا تمكن الانفجار من إسقاط واحد منهم فقط، سيكون قطعة الدومينو الأولى".

ويضيف "هذه القضية هي فرصتنا الوحيدة".

الغضب يغلي في النفوس

فقد إبراهيم حطيط شقيقه الأصغر ثروت في الانفجار الهائل الذي دمر مرفأ بيروت في أغسطس آب الماضي. وراح يتنقل من مستشفى إلى آخر لجمع أشلائه، بدءا بفروة رأسه، ودفن الأشلاء في نعش صغير.

وبعد قرابة العام لا يزال حطيط، الذي أصبح ناطقا بلسان أسر أكثر من 200 قتيل سقطوا في الكارثة، يسعى لمحاسبة من يقول إنهم مسؤولون عن السماح بوقوع الحادث.

وقال حطيط إن قوى الأمن استخدمت الغاز المسيل للدموع خلال مشاجرات وقعت مع المتجمهرين في وقت سابق من الشهر الجاري خلال احتجاج خارج منزل وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بالعاصمة اللبنانية.

وقال لرويترز إنه لا يمكن حرمان الناس من معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة في جريمة بهذا الحجم.

وفي الوقت الذي تتأهب فيه بيروت لذكرى مرور عام على الانفجار الذي سوى قطاعات كبيرة من المدينة بالأرض، لم يستجوب أحد حتى الآن الساسة وكبار المسؤولين الأمنيين في تحقيق رسمي.

وفي أحدث التطورات رفض وزير الداخلية محمد فهمي طلبا من القاضي طارق بيطار الذي يتولى قيادة التحقيق لاستجواب اللواء عباس إبراهيم المدير العام للأمن في لبنان والذي يتمتع بنفوذ كبير.

وقال إبراهيم إنه رهن إشارة القانون مثل كل اللبنانيين لكنه أضاف أن التحقيق يجب أن يتم بعيدا عن الاعتبارات السياسية الضيقة.

ودفع قرار الوزير فهمي بعض أقارب ضحايا الانفجار لتنظيم مسيرة قرب منزله هذا الشهر حاملين نعوشا فارغة مغطاة بصور الضحايا. وانقلب الاحتجاج إلى عنف.

وقال مصدر رفيع بوزارة الداخلية إن التدابير التي أخذتها قوى الأمن ضرورية لحماية منزل الوزير.

ويعكس شعور أقارب الضحايا بالإحباط غضبا واسع النطاق بين اللبنانيين إزاء التحقيق وكيفية إدارة البلاد عموما.

فقد ارتفع الدين اللبناني بشدة وزاد التضخم وأصبح أكثر من نصف السكان يعيشون في فقر في الوقت الذي فشلت فيه الكتل السياسية مرارا في تشكيل حكومة.

انتكاسات

لا يزال قدر كبير من مظاهر الدمار من جراء الانفجار باديا للعيان. فالمرفأ أشبه بموقع انفجار قنبلة وكثير من المباني أصبحت مهدمة.

ولم تُطرح إجابات عن تساؤلات رئيسية منها سبب تخزين شحنة كبيرة من مادة نترات الأمونيوم، القابلة للانفجار والمستخدمة في صناعة القنابل والمخصبات الزراعية، في وسط مدينة مزدحمة لسنوات بعد تفريغها في 2013.

وأثارت الحصانة التي يتمتع بها كبار المسؤولين شبهات بين بعض الأسر أن المسؤولين عن الانفجار قد لا يحاسبون أبدا.

وتساءل نزار صاغية رئيس المفكرة القانونية، وهي منظمة غير ربحية للأبحاث عن كيفية تحقيق العدل إذا كان الجميع من أصغر مسؤول إلى أكبر مسؤول على حد قوله يتمتعون بالحصانة.

وقالت رسالة في تفسير قرار الوزير فهمي منع القاضي من استجواب اللواء إبراهيم إنه قائم على نصيحة لجنة قانونية بوزارة الداخلية بعدم رفع الحصانة عنه.

والتحديات التي يواجهها بيطار ليست فريدة.

فقد تم إبعاد سلفه القاضي فادي صوان عن التحقيق في فبراير شباط بعد موافقة محكمة على طلب إبعاده الذي تقدم به اثنان من الوزراء السابقين كان قد اتهمهما بالإهمال في الكارثة هما علي حسن خليل وغازي زعيتر.

واستند القرار الذي اطلعت رويترز على نسخة منه إلى وجود شك مشروع في حياد صوان لأسباب منها أن منزله أصيب بأضرار في الانفجار.

وأعلن خليل وزعيتر ووزير سابق ثالث ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب براءتهم عندما اتهمهم صوان ورفضوا استجوابهم واتهموا القاضي بتجاوز سلطاته.

وكانت وثيقة أُرسلت قبل أسبوعين من الانفجار واطلعت عليها رويترز أظهرت أن الرئيس اللبناني ورئيس الوزراء تلقيا تحذيرا من الخطر الأمني الذي تمثله المواد الكيماوية المخزنة في المرفأ وإنها قد تدمر العاصمة.

ويريد بيطار أن تسمح له الحكومة والبرلمان باستجواب عدد من كبار المسؤولين بمن فيهم كل من وجه لهم القاضي صوان اتهامات بالإضافة إلى وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق.

وفي ضوء رفض طلب بيطار استجواب إبراهيم يبدو أن مصير التحقيق يتوقف على رفع الحصانة البرلمانية عن المشنوق وخليل وزعيتر وكلهم أعضاء في مجلس النواب.

واجتمع أعضاء مجلس النواب لبحث طلب بيطار في وقت سابق من الشهر الحالي وقالوا إنهم بحاجة لمزيد من المعلومات قبل البت في الأمر.

حطّم روح المدينة وخلّف صدمة تسكن حياة الناجين

بعد عام على انفجار مرفأ بيروت، لا يزال الأطباء يخرجون شظايا زجاج من جسد شادي رزق، آخرها قطعة بحجم سنتيمتر تقريبا بقيت عشرة أشهر عالقة فوق ركبته.

ويقول رزق (36 عاماً) "أجد كلّ شهر تقريباً شظية زجاج جديدة في جسدي.. لا يزال هناك زجاج في فخدي ورجلي، وأعتقد في يدّي أيضاً". ويضيف "الانفجار يعيش في داخلي وسيبقى كذلك كل حياتي".

كان رزق يقف على شرفة مكتبه المطل على مرفأ بيروت حين اندلع الحريق الذي سبق الانفجار. حمل هاتفه الجوّال وبدأ بتصوير الدخان الأسود المتصاعد، لكن ما هي سوى دقائق حتى وقعت الكارثة.

وثّق شادي الثواني الأولى من الانفجار، بينما سقطت عليه ألواح الزجاج.

وأخاط الأطباء 350 قطبة في جسد شادي، والطريق أمامه لا تزال طويلة، فقد أبلغه الأطباء مؤخراً أنه سيحتاج سنوات لإخراج كافة قطع الزجاج العالقة في جسده.

ويقول شادي "تحوّلت إلى شخص آخر بعد الانفجار.. تغيّر كلّ شيء في حياتي".

قبل الانفجار، وبرغم الأزمة الاقتصادية، لم يخطر في بال شادي أن يهاجر. "اليوم، أنتظر المغادرة بفارغ الصبر" إلى كندا. ويضيف "الصدمة تنهشك من الداخل.. وكأنك في حالة بكاء دائم، في داخلك".

الغضب يكبر

مرّ عام على الانفجار الذي غير وجه المدينة، من دون أن تكشف حقيقة ما حصل في ذلك اليوم أو يحاسب المسؤولون عنه. وتقف الحصانات السياسية اليوم عائقاً أمام استدعاء نواب ووزراء سابقين ورؤساء أجهزة أمنية وعسكرية كانوا يعلمون، وفق تقارير، بمخاطر تخزين كميات هائلة من نيترات الأمونيوم في المرفأ، ولم يحركوا ساكناً لإخراجها منه.

ويقول شادي "كلما اقتربت ذكرى الرابع من آب من دون أن يدخل أحد السجن، يكبر الغضب في داخلي.. غضب يجعلك تريد أن تحطّم وأن تتظاهر وأن ترمي قنابل مولوتوف".

ولا يزال المعالج النفسي روني مكتف من جهته يحاول التأقلم مع فقدانه النظر في عينه اليمنى بعد ثلاث عمليات جراحية ورحلات علاج الى أوروبا لاستشارة خبراء علّه ينقذ بعضا من قدرته على الرؤية. لكنه اليوم لا يقوى سوى أن يجلس على طرف طاولة او في زاوية غرفة ليتمكن من رؤية ما حوله بعينه اليسرى فقط.

ويقول في عيادته في بيروت التي أصيب بينما كان فيها "هذا البلد عبارة عن وهم كبير، كما حال كل ما كنا نفخر به حول قدرتنا على تخطي كل الصعوبات لنعيش ونفرح". ويضيف "كل هذا تحطم".

لم يتبق سوى صدمة جماعية في بلد يغرق أكثر في مستنقع من الأزمات والفوضى، ولا حلول لإنقاذه تلوح في الأفق. فقد فاقم الانفجار الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان منذ صيف 2019. وخلال أكثر من عامين خسرت الليرة أكثر من 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار وبات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر. وتشهد البلاد منذ أسابيع أزمة وقود وشحاً في الدواء وتقنينا شديدا في الكهرباء يصل أحيانا الى 22 ساعة.

ويقول روني "نناضل لنعيش وننجو.. لكن ذلك لا يمنحنا الوقت الكافي والسليم لاستيعاب ما حصل".

وطن حزين

اقتلع انفجار المرفأ أبوابا ونوافذ لا تحصى في بيروت وضواحيها. ولأيام عديدة، غطّت شوارع العاصمة أكوام من الزجاج المحطم المتساقط من المباني والمنازل والمتاجر. بعد عام، وعلى الرغم من إصلاحات وإعادة بناء بعض الأبنية، لا تزال أضرار كبيرة ناتجة عن الانفجار واضحة المعالم، وطال الدمار مباني أثرية وسكنية.

في شارع مار مخايل القريب من المرفأ، تقول جوليا صبرا (28 عاماً) إنها لم تعد تشعر بالأمان في شقتها التي عادت للسكن فيها بعد خمسة أشهر على وقوع الانفجار.

وتتذكر جوليا تفاصيل ما مرّ عليها في ذلك اليوم المشؤوم. وتروي "كان صديقي غائباً عن الوعي على الأرض والدم يغطي وجهه ورجليه.. ركزت عليه لكنني كنت أردد في نفسي أيضا بأنه لم يعد هناك منزل".

عادت جوليا إلى شقتها بعد إصلاحها وبعد أن تحسّن وضعها بعد الصدمة. لكنها لا تزال لا تحتمل أن تسمع أي صوت. وتقول "نرتعب من الأصوات.. إغلاق الأبواب، العواصف، الرياح، أن يقع شيء على الأرض".

يسيطر على جوليا اليوم شعور بـ"الغضب والعجز".

وتقول "بعد الانفجار قلنا إنه من المستحيل لهذه الطبقة الحاكمة أن تبقى. إهمالهم وعجزهم وفسادهم فجّر المدينة... بعد سنة لا يزال الوضع كما هو. لا يوجد منطق في أي شي".

وتضيف "لا راحة.. نحاول أن نعالج أنفسنا من الصدمة والجراح جراء الانفجار، لكن علينا أيضاً أن نتعامل مع الشح اليومي في كل شيء. لا نعرف كيف نتعامل مع كل هذه المشاكل ومن أين نبدأ".

قبل أكثر من أسبوعين، شاركت جوليا مع فرقتها الموسيقية "بوست كاردز" في عرض لمهرجانات بعلبك الدولية ضمّ موسيقيين لبنانيين شباب. وأدّت أغنية باللغة الإنكليزية صُوّرت بين آثار بعلبك تقول فيها "الوطن حزين".

وتقول لفرانس برس "هناك شيء تغيّر بعد الانفجار. لا أعرف إذا كان يمكن القول إن بيروت فقدت روحها.. أعتقد أن روحها لا تزال موجودة، لكنها روح محطمة".

الرضيع جورج يكمل عامه الأول

يكمل الطفل الرضيع جورج خنيصر عامه الأول في ذكرى مرور عام على انفجار مرفأ بيروت.

فقد جاء المخاض والدته في الرابع من أغسطس آب عندما انفجرت شحنة مع نترات الأمونيوم المخزنة منذ سنوات دون مراعاة ضوابط الأمان في العاصمة اللبنانية فحطمت نوافذ البيت على فراشها.

ووضعت إيمانويل لطيف خنيصر طفلها الأول على أضواء المشاعل في ممر بمستشفى القديس جورج المركز الطبي الجامعي الذي أصابه الدمار. بحسب رويترز.

وبعد انقضاء عام تقول إيمانويل وزوجها إدموند خنيصر إن ابنهما "رمز للحياة" يجلب الأمل للناس في لبنان.

قال إدموند "في كتير أخدوا قوة منه من بعد الانفجار.. الأشخاص اللي اتعرفنا عليها من بعد الانفجار اللي هنا كانوا كمان متأثرين بالانفجار يعرفوا بجورج بينبسطوا بينسوا قصتهم حتى... كتير عطى أمل للعالم بلبنان".

وتابع "في ناس اتعرفت عليها بيكونوا بيتهم رايح وخسروا كتير بس يتعرفوا ع جورج تشوف الضحكة على وجههم.. ها الشي صعب تلاقيه".

كان الانفجار واحدا من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ وأسفر عن سقوط أكثر من 200 قتيل وإصابة الآلاف ودمر قطاعات كبيرة من العاصمة اللبنانية.

وقالت إيمانويل "كانت صدمة.. في فترة بتحسي من بعد الانفجار بتكوني عايشة بعدك بصدمة ما بتكوني مستوعبة شو صار معكي بعدها بتصيري أكتر تستوعبي بتصيري أكتر تتضايقي بتصيري أكتر ما عم بتفهمي شو صار بس بالنهاية بدك تقفي على رجليكي.. في عندي ابن ما فيي بيّن ضعيفة قدامه".

وتتفق الأم والأب في أن جورج هو مصدر القوة في الأوقات العصيبة.

ولا يزال لبنان يترنح من تداعيات الانفجار ويعاني من أزمة مالية وصفها البنك الدولي بأنها من أصعب فترات الركود في التاريخ الحديث.

ومثل كثيرين من اللبنانيين قالت إيمانويل إن أسرتها تواجه صعوبات في العثور على الحليب والدواء لطفلها الوليد وسط أزمات متصاعدة مع نفاد السلع الأساسية في مختلف أنحاء البلاد.

ومع اقتراب ذكرى مرور عام على الانفجار ومولد جورج قال إدموند إن مشاعر متباينة تعتمل في نفسه مضيفا "ما فيكي تكوني مبسوطة وغيرك زعلان بنفس الوقت بس انه كمان ما فينا انه نحرم جورج من انه ننبسط فيه".

وتخطط إيمانويل وإدموند لإطفاء شمعة عيد ميلاد ابنهما الأول الذي يصفانه على صفحته على إنستجرام بأنه "معجزة" في الثامن من أغسطس آب.

نترات الامونيوم في انفجار بيروت أقل بكثير من الشحنة الأصلية

وفي سياق متصل خلُص مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي (إف.بي.آي) بعد انفجار ميناء بيروت في العام الماضي إلى أن كمية نترات الأمونيوم التي انفجرت لم تكن أكثر 20 بالمئة فقط من حجم الشحنة الأصلية التي تم تفريغها هناك في 2013، فيما يذكي الشكوك ويزيد الشبهات حول فقد كمية كبيرة منها قبل وقوع الانفجار.

مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى في الرابع من أغسطس آب ما زالت أسئلة تطل برأسها على غرار كيف يتم تخزين كمية ضخمة من نترات الأمونيوم التي تستخدم في صنع القنابل والأسمدة في ظروف لا تراعي أبسط إجراءات الأمان في العاصمة لسنوات.

كان الانفجار المروع واحدا من أشد التفجيرات غير النووية المعروفة في التاريخ، وأسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة آلاف بجروح وتدمير مساحات شاسعة من بيروت.

يقدر التقرير الذي صدر في السابع من أكتوبر تشرين الأول 2020 واطلعت عليه رويترز هذا الأسبوع أن حوالي 552 طنا فقط من نترات الأمونيوم هي التي انفجرت في ذلك اليوم وهي كمية أقل بكثير من الشحنة الأصلية التي تزن 2754 طنا والتي وصلت على متن سفينة مستأجرة من روسيا في 2013.

ولا يقدم تقرير مكتب التحقيقات الاتحادي أي تفسير لهذا التناقض بين الكمية التي انفجرت والكمية التي وصلت إلى الميناء كما لم يوضح أين ذهبت بقية الشحنة.

وردا على طلب للتعليق، أحال متحدث باسم مكتب التحقيقات الأمريكي رويترز إلى السلطات اللبنانية.

كان محققون من مكتب التحقيقات وصلوا إلى بيروت بعد الانفجار بناء على طلب من لبنان.

وقال مسؤول لبناني كبير، كان على علم بتقرير مكتب التحقيقات الاتحادي والنتائج التي اشتمل عليها، إن السلطات اللبنانية اتفقت مع المكتب بخصوص حجم المادة التي اشتعلت في الانفجار.

وقال مسؤولون كثيرون في لبنان في وقت سابق في جلسات خاصة إنهم يعتقدون أن كمية كبيرة من الشحنة سُرقت.

كانت شحنة نترات الأمونيوم متجهة من جورجيا إلى موزامبيق على متن سفينة شحن مستأجرة من روسيا عندما قال القبطان إنه جاءه الأمر بالتوقف في بيروت وتحميل شحنة إضافية ولم يكن ذلك مدرجا على جدول الرحلة من الأساس.

وصلت السفينة إلى بيروت في نوفمبر تشرين الثاني 2013 ولم يُكتب لها أن تغادر أبدا حتى وقوع الانفجار، بعد أن سقطت في براثن نزاع قانوني طويل بخصوص رسوم الميناء وعيوب في السفينة.

ونفى المسؤول اللبناني الكبير التوصل لأي استنتاجات قاطعة حول سبب نقص الكمية التي انفجرت عن حجم الشحنة الأصلية. وتفترض إحدى النظريات أن جزءا منها قد سُرق. وأضاف المسؤول أن نظرية ثانية تفترض أن جزءا فقط من الشحنة هو الذي انفجر بينما تطايرت الكمية الباقية في البحر.

وقال تقرير مكتب التحقيقات الاتحادي إن "كمية نترات الأمونيوم التي انفجرت في المستودع رقم 12 تُقدر بحوالي 552 طنا متريا".

وأشار إلى أن المستودع كان كبيرا بدرجة كافية لاستيعاب كامل الشحنة البالغة 2754 طنا، والتي كانت معبأة في حقائب وزن كل منها طن واحد.

لكنه أضاف "(افتراض) أنها كانت موجودة بالكامل وقت الانفجار يتنافى مع المنطق".

اضف تعليق