فإنسان الحضارة هو إنسان القيمة والفضيلة، فهو إنسان الله وخليفته في هذه الحياة، لأنه يعمِّرها ويبنيها ويُصلحها بكل ما يستطيع على كل المستويات الفردية، والاجتماعية، والإنسانية، وتلك هي العولمة الحقة التي يُنادي بها الدِّين ويسعى إليها عباد الله الأتقياء الصالحين، ولهؤلاء الكرام ولأجلهم خُلقت الحياة، وتزيَّنت بكل...
مقدمة حضارية
تاريخ البشرية منذ آدم (ع) وحتى عصرنا الحاضر تدَّرج في سلم الرقي، والتطور، والتقدم، حتى وصل إلى عصر الحضارة الرقمية، لأن العلم، والتعليم، والتقدم العلمي هي عملية تراكمية، تتوارثها الأجيال وليست من إبداعات شخص واحد أو عدة أشخاص من العباقرة، أبداً ولهذا العبقري حقاً هو مَنْ يُجيد رياضة الوقوف على أكتاف العمالقة، كما كان يفعل عملاق العلم والفيزياء المعاصرة "إسحاق نيوتن" الذي قال: "إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين، فذلك لأنني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني"، وكان يقصد: أنه في نظرياته واكتشافاته العلمية ما كانت منه، لأنه كان يبني على منجزات الآخرين، وما توصَّلوا إليه من علوم، فكان يعرف أن قسماً كبيراً من سمعته، وهالة العبقرية المحيطة به تكمن في مقدرته الذكية وعبقريته في الاستفادة القصوى من علوم ونظريات الذين سبقوه من علماء العصر القديم، والعصور الوسطى وعصر التنوير والنهضة، هذه حقيقة يغفل عنها حتى كبار المفكرين والعلماء.
فحضارة اليوم رقمية ومبنية على (الصفر)، والذي أضاف هذا الرقم غير المعروف إلى قائمة الأعداد وأبدع الطريقة العشرية الرقمية، ثم وضع أسس العمليات الرياضية المتسلسلة التي أنشئت عليها أعقد النظريات الرياضية اليوم، وبُنيت الحضارة على الصفر الخوارزمي، ذلك العالم الفذ الذي قلب موازين التقدم والتطور الرياضي ونقله نقلة نوعية سبقت كل مَنْ كان قبله، وهو يمكن إعتباره أبو الحضارة الرقمية الصفرية المعاصرة، وإلى الآن علومه تُعرف بالخوارزميات، والتي عرَّفوها: "هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما، وسميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي".[1]
هذا العملاق لم يأتِ من فراغ بل كان يقف على أكتاف علماء الهند والصين، وغيرهم ممَّن سبقوه ولكن عبقريته ظهرت بإضافة لبنات جديدة إلى جدار العلم الذي يبنيه الإنسان وتتعاون عليه البشرية منذ اليوم الأول وحتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من هذا التطور والتقدم الذي جعل إنسان هذه الحضارة يتنكَّر لكل فضل وفضيلة جاءته ممَّن قبله وكأنه هو العبقري الوحيد في الزمان والمكان، فمخترع الطائرة العملاقة نسي عباس بن فرناس وتضحيته، وهكذا أصحاب الحضارة الرقمية نسوا الخوارزمي الذي وضع لهم الصفر فبنوا عليه حضارة صفرية والعجيب أنهم إلى الآن لم يستطيعوا إضافة رقم آخر لكل المخترعات الصفرية الدقيقة (01)، ومَنْ يستطيع فعل ذلك سيؤدي على قفزة نوعية في العلم والحضارة أكبر من قفزة نيوتن ونيلزبور كما يقولون.
العلم والدِّين والحضارة
هنا يجب علينا أن ندقق في البحث وذلك لكيلا تختلط علينا المصطلحات كما في هذا العصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، والعامل المجد بالعاطل، والحق الصراح بالباطل، فعلينا أن نعرف الأسس والأصول لكل هذه المصطلحات ودورها في هذه الحياة وهدفها أيضاً، لأننا إذا لم نعرف ذلك كله سنبقى ندور في حلقة مفرغة ولن نصل إلى النتيجة المرجوَّة من البحث.
الدِّين أصل فطري
فالدِّين أصل من أصول هذا الوجود الكوني، وهو أمر فطري غرسه الخالق بهذا المخلوق المكرم، ليكون خليفته على هذه الأرض حيث استأمنه عليها وأمره بعمارتها بالصالحات، ونهاه عن الفساد والإفساد فيها، قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)، ولذا بعث منه وإليه رُسلاً مبشِّرين ومنذرين، قال سبحانه: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأنعام: 49)، فالتكذيب بآيات الله والفسق هو سبب نزول العذاب من رب الأرباب.
العلم عطاء ربَّاني
والعلم أصله وأساسه من الله تعالى بالتعليم (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة: 31)، يقال: "إن العلوم كلها صادرة من الله إلى الناس، بواسطة أولياءه، فليس للبشر علم إلا وأخذ أولياته من نبي أو وصي نبي، وعادة: تصدر العلوم في خط عمودي؛ من الله، إلى المختصين من الملائكة، إلى الأنبياء، إلى الأوصياء، إلى البشرية"، وفي الرواية الشريفة، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) لِسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: (شَرِّقَا وَغَرِّبَا لَنْ تَجِدَا عِلْماً صَحِيحاً إِلَّا شَيْئاً يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ)[2]، وفي رواية أخرى عنه (ع): (فَلْيَذْهَبِ الْحَكَمُ يَمِيناً وَشِمَالًا فَوَ اللَّهِ لَا يُوجَدُ الْعِلْمُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ)[3]، فالعلم ينزل من السماء كالمطر وتستقبله النفوس البشرية كما تستقبل الأرض قطرات وحبات المطر وكل منها يأخذ حاجته وما يُصلحه، فما تستفيده الأرض الخصبة غير الأرض السبخة، والصخر غيرهما، وليس كل الأودية والسواقي والأنهار متساوية.
فالعلم كله متاح، ولا يوجد ما يضن به علينا إلا عدم استعدادنا لاستيعابه؛ ولو ألقي علينا أكثر مما نستطيع احتماله، لأدى إلى نتائج سلبية، قد يكون من أقلها؛ فقدان التوازن تماماً كما أن لكل فرد استعداداً محدوداً لاستقبال الشعاع، والهواء، والطعام.. فلو دفع إلى داخله كمية أكبر، أدى إلى مضاعفات خطيرة، أقلها المرض"[4].
حقيقة الإنسان وعلمه
الإنسان في حقيقته؛ أنه قبضة من تراب، ونفحة من روح، فلا بد أن نعرف مبدأ الإنسان، المكون من شطرين هما: الروح القدسية والجسد الترابي، فما هو مبدأ روح الإنسان وما مبدأ جسده؟
يجيبنا السيد الشهيد بقوله: "أما مبدأ روح الإنسان، فطاقة خامة، كالطاقات الخامات الأخرى التي لم تتحرك من مصادرها؛ كالكهرباء المختزنة في قطعة حجر، كالشاعرية المطمورة التي تتذبذب في صدغ الطفل، كالطاقة الذرية النائمة في كثير من الموجودات.. فالروح في ابتداء تكونه خامة غامضة، كالبذرة التي لم تتفتح.
وأما مبدأ جسد الإنسان، فمجموعة من عناصر الكون، مركبة تركيباً أشبه بتركيب أجسام الحيوانات.. وكلاهما لم يكونا ثم أفاض الله عليهما نعمة الوجود، أي أوجدهما بعد أن لم يكونا، دون أن يكون في وجودهما رأي أو يد للإنسان نفسه، فهما خلقان لله تعالى، وبعض ممتلكاته.
وأما في نموهما: فالروح تنمو بالإستفادة من تجارب الموجودات، البشرية، أو غير البشرية.
والجسد ينمو بالسيطرة على المزيد من عناصر الكون، وصهرها في بناءِ كيانه الجسد.. وتجارب الموجودات التي ينمو بها الروح، وعناصر الكون التي ينمو بها الجسد، كلها من ممتلكات الله وإذا كان الإنسان في مبدئه ونموه بعض ممتلكات الله، فهو لا يملك نفسه؛ لا روحه ولا جسده.
ثم الإنسان في حياته يسيطر على أشياء يدَّعي أنها ممتلكاته، والله يعتبرهما ممتلكاته، لوضع مقياس يخفف من عنف الصراع على الأشياء التي يتنافس عليها الناس، ولإيجاد نوع من التوازن بين الإنتاج والإستهلاك، ولسن نوع من العدالة في التوزيع.. ولكنه في الحقيقة لا يملك شيئاً من تلك الأشياء.
فهو لم يوجدها، وإنما سيطر عليها؛ فالنائب في البرلمان لا يكون نائباً إلا بما سيطر عليه من أصوات الناخبين، والرئيس لا يكون رئيساً إلا بما سيطر عليه من آراء الناس كيفما كانت طريقة توليه الرئاسة، والعالم لا يكون عالماً إلا بما سيطر عليه من أفكار الناس، والغني لا يكون غنياً إلا بما سيطر عليها من أموال الناس.. وهكذا.. كل من يتدرج في قوس الصعود.
سواء أكانت سيطرته بالطرق السليمة أو غير السليمة، فالسيطرة هي السيطرة ذاتها؛ لأن الطرق السليمة هي طرق الإقناع، والطرق غير السليمة هي طرق الإرهاب والخداع، وهذا الفارق لا يُغيِّر جوهر القضية، فهو في الحالتين لا يُوجِد شيئاً، وإنما يستولي على أشياء.
فالإنسان الذي ينمو ويتوسع إنما يأخذ من الحياة والأحياء، فهو مدين للحياة والأحياء بمقدار نموه، واتساعه، فعليه أن يُسدد ديونه للحياة، بتصعيدها وتطويرها إلى الأفضل، وأن يُسدد ديونه للأحياء، بتصعيدهم وتطويرهم إلى الأفضل، وألا يكون ظالماً سرق الحياة والأحياء، وعاش على أكتافها، وأكتافهم عالة ومخادعاً"[5].
فإنسان الحضارة هو إنسان القيمة والفضيلة، فهو إنسان الله وخليفته في هذه الحياة، لأنه يعمِّرها ويبنيها ويُصلحها بكل ما يستطيع على كل المستويات الفردية، والاجتماعية، والإنسانية، وتلك هي العولمة الحقة التي يُنادي بها الدِّين ويسعى إليها عباد الله الأتقياء الصالحين، ولهؤلاء الكرام ولأجلهم خُلقت الحياة، وتزيَّنت بكل ما فيها من موارد وطاقات وهبات لا تخطر على قلب البشر، وليس لأجل الشياطين، والفراعنة، والقوارين كما نرى اليوم في هذه الحضارة العملاقة.
الناس صنفان لا ثالث لهما
ولذا تجد أن تصنيف الناس إلى غربي وشرقي، وآسيوي وأوربي، وأبيض وأسود، وأصفر وأحمر، فكلها تصنيفات شيطانية لا إنسانية لأن أصل الناس جميعاً واحد هو أبوهم آدم (ع)، وتكوينهم واحد أيضاً روح وجسد، وهم يتشابهون في التكوين ولكن يختلفون في البلدان والأشكال والألوان للتكامل لا للتقاتل والتفاضل كما في النظرية الغربية عامة والأمريكية خاصة، (أمريكا أولاً) والأبيض دائماً، والخالق يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)
فالإختلاف في الأشكال والألوان التي تتأثر بالمناخ والطبيعة كما يعلم أبناء الحضارة جيداً وليس لشرف فيهم، وخسَّة في غيرهم، والتفاضل عند الله بالتقوى وليس بالمال، والمنصب، والجاه، واللون، والقومية، والبلد، والدِّين، والمذهب، لأنها كلها مقاييس زائفة وباطلة، ولا تُعبِّر عن حقيقة الإنسان وجوهره وقيمته وفضيلته، وإمام المسلمين، وأمير المؤمنين علَّم البشرية أصول النظرة المتوازنة فيما بين البشر بكلمته التي صارت شعاراً أممياً من بداية قرن الحضارة وتُرجم ووضع على كل قاعات حقوق الإنسان العالمية، حيث يقول: (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)، وقال في قصيدته المشهورة أيضاً:
الناسُ مِن جِهَةِ التِّمثالِ أَكفاءُ *** أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُّ حَوّاءُ
فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ *** يُفاخِرونَ بِهِ فَالطينُ وَالماءُ
ما الفَضلُ إِلا لِأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ *** عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلّاءُ
ضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُهُ *** وَالجاهِلونَ لِأَهلِ العِلمِ أَعداءُ
فالأصل والفصل والطينة واحد، فلا فرق لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بتقواه لله، وعلمه بما يُخلصه من عذاب الله تعالى، و"من الخطأ تقسيم الناس إلى: (عظماء) و(تافهين) بمقياس إنتاجهم؛ فكل إنسان مزوَّد بطاقة هائلة، لو قدِّر لها أن تلتقي بما تنسجم معه، لأنتجت الكثير..
والعظماء؛ هم الذين وفقهم الله تبارك وتعالى للالتقاء بما ينسجمون معه، فأنتجوا الكثير. والتافهون؛ هم الذين لا يحاولون الالتقاء بما ينسجمون معه، فتحطموا كأية طاقة متحفزة مكبوتة.
كما.. أن الجوهرة الضخمة، التي تتواجد على سطح: (الزهرة)، لا تجد طريقها إلى جِيد (رقبة).. أو تاج (ملك).. ولو كانت أغلى من كل الجواهر (الأرضية)، التي تتدحرج على صدر الحِسَان، أو تتكبر على قمم التيجان.. لا لبؤسها، وغناء جواهر الأرض، وإنما لأن ظروفها الخاصة، طردتها عن مجالها المناسب.
وكما... أن الإنسان الموهوب، الذي يولد في المجاهل، يبقى وحشاً مقيتاً، لا يُستقبل إلا بالسلاح، ولو كان أوفر الناس مواهباً.. لا لإفلاسه وعبقرية الآخرين، وإنما لأن ظروفه الخاصة، طردته عن مجاله المناسب.
كذلك: أكثر التافهين أو كلهم، فإنهم لا يختلفون عن أكثر العظماء، إلا بأنهم لم يُكتشفوا، لجهل المجتمع بهم، أو تجاهل المجتمع لهم.. ولذلك: يجب أن يقاس الإنسان بمقياس ذاته، لا بمقياس إنتاجه.. فقيمة الإنسان الحقيقية، بذاته؛ (قيمة كل امرأ ما يُحسنه)[6]، ولكن المجتمع لا يفهم ذات الإنسان بقيمه، بل بجريانه الذي يُحدد نشاطه ومن وراء نشاطه نتاجه"[7].
وهنا كان مقتل الحضارة الرقمية بالنسبة لهذا الإنسان المخلوق المكرم حيث أن الله سبحانه كرَّمه وفضَّله على كثير من مخلوقاته، فجاءت الحضارة الرقمة وامتهنته، وأهدرت شخصيته وكرامته، وجعلته كأي شيء تافه لا قيمة له إلا ما نفذت طاقته وكبر سنه وشاخ فيصير عبأ على الدولة والطغاة والقوارين فيبحثون عن أي طريقة ليتخلصوا منه، ولربما صنعوا ونشروا، هذا الفيروس المنحوس (كوفيدا 19) لأجل ذلك كما يُشاع عنهم، ولكنَّه خرج عن سيطرتهم وراح يفتك بهم ليُذكرهم بأن لهم خالقاً هو الذي يهب الموت والحياة، ويوزع الأعمار والأرزاق وليس هم.
حضارة الخراب والتدمير
فحضارة العلم الحق، والدِّين الإلهي هي حضارة القيمة والفضيلة والإنسانية بأجلى وأرقى مبانيها ومعانيها، وأما حضارة اليوم فهي حضارة الخراب والدمار والقتل والإرهاب، فهي حضارة صناعة الموت لا الحياة، فهي أبدعت فعلاً في مختلف مناحي وجوانب الحياة البشرية إلا أنها جعلت كل همَّها وإبداعها بصناعة القتل والدمار لا البناء والعمار، لأنها تنظر إلى نفسها من عين حولاء وعوراء لا ترى إلا أبناءها، وتعيش العنصرية والجاهلية بأبشع صورها وجرائمها.
ولو راجعنا كل حياة وسيرة ومسيرة ومؤلفات ومحاضرات ودروس سماحة المرجع الديني الكبير، والمؤدب، والمربي السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، تجده منذ أكثر من نصف قرن وهو يحاول أن يرسخ تلك القيم والفضائل الأخلاقية في تلاميذه وطلابه، ومؤيديه، ومقلديه، ومجتمعه، لأنه يعيش همَّ الإنسانية، ويحمل رسالة جدِّه رسول الله (ص) إليها لكي يُخلِّصها من عذاباتها ومشاكلها والتنور التي أنزلتها فيه الحضارة الرقمية المتطورة في علومها المتفسخة في أخلاقها.
وينطلق في كل ذلك من الإسلام النبوي الأساس في كل قيمة وفضيلة في هذه الحياة، وهذا ما تفضَّل به في شرحه للوصية النبوية لأبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه)، حيث يقول سماحته مبيِّناً موقف الإسلام الحق من العنف والإرهاب الذي يلفُّ الحضارة وأهلها جميعاً: "الإسلام يرفض العنف (تماماً)؛ لأنّ من الممكن جدّاً نشر الإسلام والتبليغ له من دون استخدام القوّة والسيف، وقبل ذلك لا بدّ من تحديد موقف الدِّين من العنف وممارسة القوّة واستعمال السلاح؛ إن الإسلام لم يُشرِّع استخدام القوّة إلا حين الدِّفاع، وردّ الاعتداء، أو الهجوم المعادي، وقد طلب أهل البيت (سلام الله عليهم) منّا أن نكون لهم خير دعاة، فقد روي عن الإمام الصادق (سلام الله عليه): (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً).[8]
ثم لا يكتفي سماحته ببيان رأي الإسلام والشريعة بالعنف والإرهاب بل يُعطي مثالاً راقياً عن تسامح الإسلام العظيم وخلق الرسول الكريم (ص)، الذي كان يقرن القول بالعمل، والتشريع بالتطبيق العملي له حيث يقول سماحته: "وثمّة مثل رائع للسلوك المسالم، والدَّاعي للأمن والسلام، كان له أكبر الأثر في اعتناق الناس للإسلام، وهو السلوك الشخصي للنبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) بعد فتح مكّة المكرّمة؛ لقد كانت مكانة أبي سفيان في الإسلام معلومة، فهو الذي أعلن منذ بدء الدَّعوة رفضه ومعارضته للحركة الربانيّة المحمديّة الوليدة، وقد كرّس كلّ جهوده، ووظّف حياته، وجميع ما يملك لطمس نور الإسلام وتصفية شخص النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ورغم هذا التاريخ الأسود لأبي سفيان إلا أنّ النبيّ المصطفى (صلى الله عليه وآله) جعل من بيته محلاً آمناً وقال بكلّ صراحة: (مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن).[9]
ومن الواضح أنّ هذا العفو والكرم لا نظير لهما عبر التاريخ، فأين نجد قائداً قد جعل دار عدوّه الألدّ والأكثر حقداً عليه وعلى مبادئه وأصحابه محلّ أمن وسلام؟ إنّ سعة لطف ورحمة نبيّنا المصطفى (صلى الله عليه وآله) بلغت حدّاً يعجز الآخرون عن دركها، ولم يبقَ لهم إلا اتباعه بما أمكنهم".[10]
فلسفة الصراع وأسبابه
ولكن لو تأملنا تلك الحركة الناهضة والمتطورة في التاريخ البشري، وهذا الصراع الأبدي بين الحق والباطل، والخير والشر، والنور والظلمة، والقسط والعدل، والجور والظلم، وبالتالي بين الأنبياء، والأوصياء، والأولياء، والمجرمين، والأشقياء، والسلاطين، بين جنود الرحمن وأتباع الشيطان، وعلى طول التاريخ هذا الصراع محتدم، ولكن لكل من الجندين مواصفات يُعرفون بها، وأخلاقيات يتصفون بها ويتقيدون فيها.
فجنود الرحمن لهم من هذا الاسم الشريف المبارك النصيب الأوفر فتراهم راحمون، طيبون، أخلاقيون، أتقياء أنقياء، ينشرون القسط في المجتمعات والعدل في الأحكام، ويبسطون الأمن والأمان والسلم والسلام بين البشر بجهدهم وجهادهم من آدم وهابيل وحتى محمد والمهدي (صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً).
وأما جنود الشيطان فلهم من سيدهم وسندهم واسمه الخبيث النصيب الأكبر فتراهم ظالمون، خبيثون، منفلتون لا أخلاقيون، لعناء أشقياء، ينشرون الظلم في المجتمعات والجور أينما حلوا ويعملون على نشر الظلم والظلام، والخوف والذعر والإرهاب، بكل طريقة ووسيلة استطاعوها من إبليس وقابيل وحتى آخر طاغية سفياني، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون فأينما نزلوا حلَّ الدَّمار والخراب وانتشر العنف والإرهاب، فوسيلتهم القتل وسيرتهم الجهل والتخلف والفساد والإفساد.
ولكن هذا التقارن بين الخطين ما فلسفته، وعلله، وأسبابه، والظاهر أن أهل الباطل هم الذين يسيطرون ويحكمون وأهل الحق أشهاد على الظلم وشهداء في الأمم، هذا ما يُبيِّنه سماحة المرجع السيد صادق الشيرازي في قوله: " كان الأئمّة المعصومون (سلام الله عليهم) قد اختاروا أسلوب الصبر والتحمّل دون أن يستفيدوا من قدراتهم المادّية، أو المعنويّة في حين كان القضاء على السلطة (الأموية و) العباسيّة برمّتها ليس بالأمر الصعب بالنسبة للأئمة (سلام الله عليهم)، وهم الذين يتمتّعون بأقرب المكانة لدى الله القادر المتعال.
وكان سبب ذلك التحمّل والصبر ـ حسب ما جاء في الروايات ـ امتحان الناس، حيث ينبغي أن يُميَّز الخبيث من الطيّب، ويرتقي مَنْ هو جدير بالرُّشد والتكامل إلى أعلى المراتب، ويختبر ما يحمل من الإرادة، فالجميع يجب أن يُعرَّضوا للفتنة والبلاء.
فكان الحكّام وأتباعهم من جهة، والأئمّة وأتباعهم من جهة أخرى يمثّلان فريقين يتعرّضان للاختبار الإلهي، لكي ينال فريقٌ الخزي والعذاب، ويستحقّ الفريق الآخر رضوان الربّ وجنان الخلد والرَّحمة الأبديّة، ولتكون حيواتهم خير نموذج وقدوة حسنة لمَنْ أراد النجاة من الشيطان والموبقات والعذاب الأخروي.
ثم يقول سماحته: "وقصّة الامتحان والاختبار، والتكامل أو السقوط، قصّة لا تنتهي، واليوم وكلّ يوم يعيش الناس جميعاً في ساحة الامتحان".[11]
ففلسفة الصراع هي الامتحان، والاختبار، والغربلة ليُعرف الحق وأهله والباطل وجنده، وإلا (فبمَنْ يُمتحن هذا الخلق المتعوس، وبماذا يختبرون؟)[12]، كما في كلمة الإمام الحسين (ع)، وقبل ذلك قال ربنا سبحانه وتعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 3)، فالفتنة والامتحان سُنَّة من سُنن الله في هذا الخلق المتعوس، لتخلص النفوس الطيبة لتكون بجوار الرب القدوس.
وأما عن رأي سماحة السيد المرجع الكبير صادق الشيرازي في الإرهاب، والعنف، وكل هذه الأعمال التي رفضها رفضاً قاطعاً قولاً وعملاً فيكفيك مراجعة أجوبته على أسئلة الأخوة في موقع (شبكة النبأ المعلوماتية) حول العنف لتعرف الموقف الشرعي والدِّيني من هذه المسألة التي شوَّهت وجه التاريخ المعاصر والحضارة الرقمية للأسف الشديد، حيث اخترعوها ونشروها واتهموا بها الإسلام العظيم والمسلمين الأبرياء وكانوا ضحيتها الأولى ومازالوا ولكن حضارة الكذب والدجل، والإعلام المنافق جعل الضحية متهماً، ولذا يُطالب سماحة السيد المرجع الشيرازي (حفظه الله) بالوعي والبصيرة لنكون بمنأى عن هذه الفتن الهوجاء إن شاء الله تعالى.
اضف تعليق