q
عندما يستوعب التنظيم متطلبات وحاجات الجماهير من خلال تنظيمات وهيئات وجمعيات تتنوع بتنوع الحاجات الموجودة فانه يعزز من قوة التنظيم السياسي لديه من خلال ما تضخه هذه الجماهير من دعم ومساندة، ليس فقط في الاستجابة لنداء التجمعات والتظاهرات في الشوارع، وانما في الحملة الانتخابية وعند صناديق الاقتراع...

من العوارض الجانبية لداء الديكتاتورية في بلادنا؛ توتر العلاقة بين التنظيمات السياسية وافراد المجتمع، بينما نرى العكس في البلاد المستقرة سياسياً مع نسب جيدة من الديمقراطية تسود العلاقة المتبادلة والايجابية والبناءة بين هذه التنظيمات وبين افراد الشعب من مختلف الشرائح، عندما يكون النشاط السياسي المعارض مرآة يعكس تطلعات واهداف الجماهير، ومن ثمّ الطريق لمشاركة سياسية فاعلة والتأثير على القرار.

في معظم بلادنا المأزومة سياسياً طيلة العقود الماضية، ترى الجماهير في التنظيمات السياسية مجرد اسماء وشعارات وافكار همّها الرئيس؛ الصراع مع النظام السياسي القائم وتسجيل نقاط الامتياز عليه، وفي حال اشتداد الوطيس؛ إما التخلّص من طعناته بالانغماس تحت الارض والعمل السرّي، وإما مغادرة الوطن واختيار المنافي الاختيارية.

وقبل هذا وذاك، فان اطلاق مصطلح "الحزب" على النشاط السياسي غير مألوف في الذهنية الاسلامية قبل استيراده من البلاد الغربية ذات التجربة الديمقراطية في الحكم، بالمقابل لدينا مصطلح "التنظيم"، وهو أقرب الى المفاهيم الاسلامية الداعية الى النظام، والامن، والسلام، ومن ثمّ فانه أقرب الى الحياة الاجتماعية باطارها الواسع، ثم الحياة السياسية بإطارها المحدود مما حدا بالعلماء والمفكرين للحثّ على ترسيخ مفهوم التنظيم في ميادين التعليم والعمل والانتاج لتكون لدينا تنظيمات طلابية، وأخرى، عمالية، وحتى ما يتعلق بالعمل الخيري والانساني، فيما يسمى اليوم ب"منظمات المجتمع المدني" التي تنضوي تحت خيمتها النقابات والاتحادات.

والى جانب كل هذا فان للنشاط السياسي حصته من هذا النمط من التشكلات الاجتماعية (التنظيم) وهو ما يحبذه ويدعو اليه علماء الدين مستندين الى نصوص دينية واضحة أبرزها وصية أمير المؤمنين، عليه السلام، في ساعاته الاخيرة؛ "الله الله في نظم أمركم"، وليكون هذا التنظيم حلقة الوصل بين القاعدة والشريحة المثقفة من جهة، وبين الاثنين وقيادة المجتمع من جهة اخرى.

وكلما قويت هذه الحلقة، تعززت العلاقة بين الاطراف الثلاثة في الهرم القيادي، واستشعر الناس بالأمن والاستقرار، وتبلورت الرؤية اكثر نحو الإصلاح والتغيير، والتطوير ايضاً، بينما العكس يؤدي الى الفوضى والتمزق الاجتماعي، وضياع الحقوق، وهدر الطاقات، والأخطر من كل ذلك؛ تكريس الواقع الديكتاتوري، وما يفرزه من سياسات تكميم الأفواه، وتضليل الرأي العام، ونشر الرعب (الارهاب المُنظم)، وفي التجربة الديمقراطية؛ تكريس ظاهرة الفساد الاداري والمحاصصة، ومن ثمّ انعدام الثقة بين الجماهير وبين الدولة برمتها، كما حصل في العراق؛ قبل وبعد 2003.

فما هي عناصر القوة في هذه الحلقة؟

نشر الوعي ورفع مستوى الثقافة العامة

وهذا لا ينحصر في المسار السياسي كون الاحداث والتطورات السياسية، وبفضل وسائل الاعلام، وتقنية نشر الاخبار السريعة، جعلت الكثير من افراد المجتمع –لاسيما في بلد مثل العراق- يتحولون الى محللين سياسيين، يتناولون الاحداث وأبطالها بالإسم، مع التفاصيل والخلفيات، ثم يعطون آراؤهم واستنتاجاتهم خلال احاديث تشهدها المقاهي والحدائق، وحتى سيارات الأجرة، إنما المهم في حياة الناس والمفقود؛ الوعي الاجتماعي، والوعي الاقتصادي، والوعي الصحي، وكلما له علاقة بحياة الناس وما يترك أثره على السلوك وطريقة التفكير.

حالة الوعي لدى افراد المجتمع هي التي تمكنهم من فهم خطاب النخبة المثقفة والقيادة، ومعرفة أبعاد المشاريع والاعمال التي يتحدثون عنها، وفي نفس الوقت يمكنهم هذا الوعي من محاسبة المثقفين على تقاعسهم وأخطائهم بغية التصويب ومراجعة المنهج والاسلوب، والفائدة الأكبر يتحدث عنها سماحة الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- بقوله: بان "التنظيم اذا لم يكن توعوياً، لم ينجح في تخطيطه، وعمله، وسلوكه، أولاً؛ ويقع ألعوبة بيد المستعمرين والمستبدين ثانياً"، (السبيل الى إنهاض المسلمين).

وأمامنا تجارب تاريخية مريرة مع فقدان الوعي وكيف أن أمير المؤمنين، ومن بعده الإمامان؛ الحسن والحسين، عليهما السلام، وكيف أن الفهم الخاطئ للدين، وتغليب المصالخ الخاصة على القيم المبادئ كلف الأمة حروباً ضروس، وإزهاق لآلاف الارواح في معارك الجمل وصفين والنهروان، وكيف انقلب موقف أهل الكوفة خلال ايام من البيعة للإمام الحسين، ولأهل البيت، عليهم السلام، الى البيعة لابن زياد، وللأمويين.

البداية من القاعدة

دار جدل فكري واسع طيلة القرن الماضي بين من قالوا بالتغيير السياسي والاجتماعي من القاعدة الجماهيرية، ومن قالوا من القيادة والحكم، بدعوى أن الوصول الى الحكم يتيح لهم تنفيذ بنود التغيير بشكل أسهل وأضمن للنجاح، هذا الرأي تسبب بظهور حالة "الصنمية" في عديد التنظيمات الاسلامية التي فضلت الايديولوجيا على الانسان، فكل ما يقوله ويفعله صحيح، وعلى الناس اتباعه، فهو "المحور لا الحق، وهذا أخطر ما يقع فيه التنظيم الاسلامي، لأنه اذا صار التنظيم صنماً فبطبيعة الحال لا يكون اسلامياً، لأن الحق يجب أن يُتبع، والتنظيم هو آلة لتطبيق الحق، لا أن يكون معياراً فيبتعد عن الحق".

ولا نجانب الحقيقة اذا قلنا إن معظم التجارب الفاشلة للتنظيمات الاسلامية (الاحزاب) مردها الى تجاهل الجماهير والقفز عليها نحو السلطة والحكم والقيادة السياسية، وعندما تشعر الجماهير إنها غير معنية في البناء القيادي، وفي صناعة الاحداث، فما الذي يدفعها للتفاعل والتجاوب مهما ساءت الأمور، وتعالت الأصوات بالحاجة الى التغيير والانقاذ، فالنتيجة بالنسبة اليهم واحدة، فلماذا يجهدون انفسهم وقدراتهم ليحصد غيرهم؟!

وهذا ما يعقد الازمات، بل ويعطيها سمة الاستمرارية الى حدّ التطبيع مع الواقع بحيث يستمرئه الجميع رغم مرارته، كما يحصل في العراق، لذا فان "واجب التنظيم ان يلاحظ الجماهيرية على طول الخط، فهي التي تتمكن من انقاذ بلاد الاسلام لا جماعة خاصة من المثقفين فقط، إن مثل الجماهير كمثل الماء اذا لم فقد من البحر فلا تبقى حياة للاسماك، والتنظيم مثله كمثل السمكة".

وعندما يؤكد العلماء، وفي طليعتهم الامام الشيرازي الراحل على جماهيرية التنظيم، انما يعكسون المنهج الرسالي في عملية التغيير ومن ثم البناء الاجتماعي والسياسي، فالانبياء الحاملين رسالة السماء بدأوا مهمتهم من عامة الناس، بل إن الحكمة الإلهية ذهبت الى أبعد من هذا بأن جعلت الانبياء والمرسلين من وسط الناس ومن رحم المجتمع، ولم يكونوا من جنس الملائكة، ولا يختلفون من حيث التكوين البشري مع سائر الناس؛ يحبون ويكرهون، ويتألمون، ويتزوجون، وغيرها من المشاعر والرغبات، حتى يكون التغيير والبناء على قاعدة رصينة من الايمان والالتزام والاستقامة، ومن ثمّ يأتي دور القائد ليهدي الأمة المؤمنة والصالحة الى سبل الخير والسلام.

نظرة على الجماهير وأخرى على الاهداف البعيدة

من المعروف أن جماهير الشعب في كل مكان لا تفكر أبعد من احتياجاتها المعيشية، مهما أوتيت من الوعي والثقافة، فان الطالب يفكر بالشهادة الجامعية وبعنوانه العلمي المرموق، والكاسب يفكر بالربح والخسارة، والعامل يفكر بحسن التعامل بينه وبين رب العمل، ثم التحقق من مستقبل عمله، والفلاح يفكر بجدوائية المحصول واذا ما يدرّ عليه الارباح، وكيفية تسويق هذا المحصول، وهكذا سائر افراد المجتمع، بينما التنظيم والقائمين عليه له رؤيتهم البعيدة المدى، وتطلعهم نحو اهداف كبيرة، وعندما تصدر المطالبات من الجماهير بتلبية حاجاتها الصغيرة والمحدودة يحدث التقاطع وسوء الفهم بين الجانبين، وهذا ما عالجه الامام الشيرازي في "السبيل الى انهاض المسلمين" بأن "تحمّل صعوبة إعطاء مطاليب الجماهير أسهل من تحمل وجود الاعداء"، وما يحصن التنظيم من ردود فعل الجماهير السلبية هو "ان يكون على قدر كبير من التعقّل والحزم حتى يتمكن من إطفاء الحرائق التي تنشب بينه وبين شرائح معينة من الجماهير، وبذلك يستطيع الجمع بين الجماهيرية وبين الهدف، وهذا ليس بالأمر السهل إلا انه ممكن".

ان التنظيم الذي يفكر بالوصول الى الحكم من خلال العملية الديمقراطية (الانتخابات) لابد وأن يضع في حسبانه تلبية حاجات الناس ذات الطابع العام، وبما يسهم في عملية التغيير الشاملة، وإلا فان عامة الناس لا يعيشون الهمّ السياسي، ولا يفهمون بالتحالفات السياسية، ولا بأساليب المعارضة، او أنماط الحكم، فالشاب يريد توفير الاجواء اللازمة لنموه البدني في ساحات ونوادي رياضية، كما يحتاج لتنمية فكرية في مكتبات ومؤسسات ثقافية، نفس الشيء ينسحب على الطالب الجامعي وعلى المرأة، وعلى الطفل، وحتى على الشيخ الكبير وجميع شرائح وافراد المجتمع.

عندما يستوعب التنظيم متطلبات وحاجات الجماهير من خلال تنظيمات وهيئات وجمعيات تتنوع بتنوع الحاجات الموجودة فانه يعزز من قوة التنظيم السياسي لديه من خلال ما تضخه هذه الجماهير من دعم ومساندة، ليس فقط في الاستجابة لنداء التجمعات والتظاهرات في الشوارع، وانما في الحملة الانتخابية وعند صناديق الاقتراع، ثم الدفاع عنه بعد الفوز، وحتى في حال عدم الفوز فيكون التنظيم ذو قاعدة جماهيرية تمكنه من ممارسة دور المعارض والمقوّم للأداء السياسي.

اضف تعليق