الحياة سلسلة من التحديات المتتالية، يواجهها الإنسان شاء أم أبى، فهو لم يُخلق لكي يأكل ويمرح وينام، الدنيا ليست نزهة، بل هي رحلة العقبات والتحديات التي تبدأ من لحظة الولادة حتى لحظة الممات، بمعنى هي (قاعة اختبار)، يُمتحَنُ فيها الإنسان، هناك من ينجح، وهناك من يفشل في هذا الاختبار العميق...
(على الإنسان أن يتذكّر دائماً أنّ كلّ شيء لديه ليس ملْكهِ بل أمانة برقبتهِ)
سماحة المرجع الشيرازي
الحياة سلسلة من التحديات المتتالية، يواجهها الإنسان شاء أم أبى، فهو لم يُخلق لكي يأكل ويمرح وينام، الدنيا ليست نزهة، بل هي رحلة العقبات والتحديات التي تبدأ من لحظة الولادة حتى لحظة الممات، بمعنى هي (قاعة اختبار)، يُمتحَنُ فيها الإنسان، هناك من ينجح، وهناك من يفشل في هذا الاختبار العميق.
تُرى من هم الناجحون، ومن هم الراسبون في هذا الاختبار، الجواب ببساطة يعود إلى الإنسان نفسه، فإذا فهمهُ وآمن به وطبّقه عن قناعة، فإنه سوف يحوز درجة النجاح في الامتحان، وأول شرط أو قاعدة على الإنسان أن يؤمن بها هي، أن كلّ ما يمتلكه من أشياء مادية أو معنوية ليست ملْكاً له، بل تعود إلى من منحهُ إياها، إنها ملْك الخالق العظيم، وما على الإنسان إلا إعادة الأمانة إلى صاحبها.
فالأموال المنقولة وغير المنقولة والثروات المسجَلة بأسماء الناس، هي في الحقيقة ليست أموالهم، حتى الصحة التي ينعمون بها ليست ملكهم، إنها ملْك الخالق، وعلى الإنسان أن يؤمن بهذه الحقيقة، لأن هذا النوع من الإيمان يصبّ في صالحه، فحين يتشبث بفكرة أن الأموال التي يحوزها هي أمواله، سوف يكون خاسرا، لأنه قد يتعرض في قضية ما لخسارة الأموال التي بحوزته، وفي هذه الحالة سوف يُصاب بالحزن وربما الإحباط والمرض.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يأتي في إحدى محاضراته القيّمة بالمثال التالي:
(أذكر أنّ شخصين كانا يتنازعان على أراضٍ واسعة كلّ يدّعي ملكيتها. وانتهى نزاعهما إلى المحاكم، واستمرّا على هذه الحال زهاء خمس عشرة سنة. وأخيراً أصدرت المحكمة النهائية حكماً لصالح أحدهما، وخسر الآخر القضية. وكان وقْع الحكم على خاسر القضية شديداً لدرجة أنّه شُلّ ولم يستطع حراكاً، فحُمل إلى بيته، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة!).
ما هو السبيل إلى تغيير الإنسان؟
الرجل الذي أُصيب بالشلل ومن ثم فقد حياته، تعرّض لهذه النتائج الوخيمة لأنه كان مؤمنا تمام الإيمان بأن الأموال التي خسرها في قرار المحكمة هي أمواله هو، ولو كان مؤمنا بأنّ ملكيتها تعود لله تعالى لما جرى له ما جرى.
ولذلك حتى يكون الناس في مأمن من الإحباط والحزن، في حال خسروا أموالهم (بأنواعها)، حتى صحتهم، فإنهم مطالبون بأن (لا يأسوا على ما فاتهم، ولا يفرحوا بما آتاهم)، وهنا لابد من البحث عن السبل الكفيلة بترويض النفس وتجنيبها الشعور بالإحباط، حتى تتقبّل الخسارة والربح بمشاعر حيادية، بالطبع هذا الأمر ليس سهلا ولكنه يصبحُ ممكنا من خلال تدريب النفس على قبول الخسارة، وتعليمها بأن ما تمتلكه ليس ملكها.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يطرح التساؤل التالي:
(كيف يستطيع الإنسان أن يكيّف نفسه لكيلا تأسى على ما فاتها ولا تفرح بما أوتيت؟ ما هو السبيل إلى التغيير؟)
وهو تساؤل يستدعي من الإنسان بحثا وسعيا إلى الإجابة الدقيقة، كونها سوف تخلّصه من عذابات الدنيا، ومن العواقب الوخيمة التي قد يتعرض لها، في حال تشبثه بما يمتلك، وإيمانه بأنها تعود له حصريّا، على العكس مما لو كان مؤمنا بأنها ليست أملاكه، إنما هي أمانة عنده ولابد أن يعيدها في يوم ما إلى صاحبها، وهو الخالق الكريم الرحيم.
لذا يوضّح سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، الطريق الذي يقود الإنسان إلى برّ الأمان، ويخلّصه من تبعات التشبّث بالأموال والممتلكات بأنواعها المادي والمعنوي، فيقول سماحتهُ:
(هناك طريق واحد، حيث كلّ الطرق ترجع إليه، وهو ما افتتحنا به الحديث، بأن يتذكّر الإنسان دائماً أنّ كلّ شيء أمانة في رقبته، وأنّ الأمانة لابدّ من إرجاعها يوماً إلى صاحبها ومالكها الحقيقي).
إذاً نحن بحاجة إلى تربية من نوع خاص، حتى يمكننا ترويض أنفسنا، وتعليمها وتدريبها خطوة خطوة، بأن ما نربحهُ إنما هو (رزق) إلهي، لم نحصل عليه لو لا أن كتبه الله لنا، صحيح أن السعي نحو الرزق يجعله أقرب إلينا، ولكن بالنتيجة هنالك من يسعى ويركض وراء رزقه، لكنه لم يصل إليه لأسباب كثيرة لا يسع المقال لذكرها.
كذلك حتى الخسائر التي يتعرض لها الناس بمختلف أنواعها وأحجامها، يجب أن لا تلقي بالأحزان الثقيلة على الإنسان ولا تصيبه بالإحباط، لأنها أصلا لا تعود له، بل هناك مما لا يخطر على البال كالسفر مثلا، فقد يسعى أحدهم للسفر إلى مكان ما، لأداء مهمة معينة سياحية أو تجارية أو سواها، وقد لا يتم السفر لأسباب كثيرة، فهل على الإنسان أن يُصاب بالإحباط، وأن يتذمر أو يستشيط غضبا بسبب عدم تحقّق السفر؟؟
حلول تطبيقية لابد من الإحاطة بها
كلا ليس هناك ما يوجب الإحباط أو الحزن، حتى لو كانت كل أسباب السفر مهيّأة بشكل دقيق، من أموال وقطع تذاكر وحجز فنادق وما شابه، فحتى السفر ليس ملْك الإنسان، هكذا علينا أن نؤمن بهذا الأمر، فإن وصلنا بأنفسنا إلى هذه الدرجة من الإيمان والقبول، فإننا لا يمكن أن نأسى ولا نتعرض للإحباط ولا نحزن على خسارة السفر أو سواه، مما يمكن أن يتعرّض له الإنسان طالما كان على قيد الحياة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذه النقطة:
(المال أمانة والعلم أمانة والجاه أمانة وكذا الصحّة والأولاد والأهل والزوجة والعقار وجسمه وروحه وكلّ شيء عنده هو أمانة، حتى السفر مثلاً لو كانت وسائله مهيّأة له ولكنه لأسباب لم يتحقق لا ينبغي له أن يحزن لأنّه كان أمانة! وإذا استطاع الإنسان أن يركّز على هذا الأمر فستخفّ الوطأة عنده شيئاً فشيئاً حتى يبلغ مرتبة يصدق عليه أنّه لا ييأس على ما فاته ولا يفرح بما أتاه).
نحن أمام مهمة قد تكون شاقّة نسبيا، إنها مهمة تدريب النفس على الفقدان، وهذا لا يقتصر على فقد الأموال أو الأرزاق بأنواعها، بل حتى تدنّي الصحة البدنية، علينا أن نعتاد عليها ونقبلها، ولا نحزن بسببها، وعلينا أيضا أن نقلل ما أمكننا ذلك من مشاعر الإحباط النفسي الذي ينتج عن الشعور بالتدهور الصحي، فطالما أن الصحة ليست ملكك، وأنها تعود إلى الله تعالى، فهذا يعني أنك ليس محقّا في حزنك وحسراتك وآلامك النفسية.
صحيح أن هذا الألم قد يكون فطرياً، أي أنه يندمج بالخَلْق التكويني للإنسان، إلا أنّ الإنسان يمكنه تجاوز هذه العقبة الكبرى بتدريب النفس بالتدريج، قد لا ينجح الأمر بصورة فورية أو سريعة، ولكن بالمران المتأني الصبور المتواصل، يحصل الإنسان على حصانة ضد الإحباط، لأنه بات يؤمن بأن ما موجود في حوزته هو لله وليس لهُ.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا: (إنّ تألّم الإنسان لفقدان بعض الأشياء ـ كالصحّة مثلاً ـ أمر فطريّ، ولكن التربية تخفّف الوطأة على الإنسان وتزيل الألم المضاعف).
ويضيف سماحته قائلا:
(تارة يتألم الإنسان بدنياً بسبب مرض ألمّ به، وتارة يتألم نفسياً نتيجة الشعور بفقدان الصحة، وهذا أيضاً شيء طبيعي، ولكن التركيز على الألم النفسي والتحسّر وما أشبه هي الأمور التي تنهض التربية بإزالتها كلّما تذكّر الإنسان أنّ كلّ ما يملكه حتى صحّته وبدنه وروحه أمانة وليس هو مالكها الحقيقي).
تُرى هل نحتاج إلى هذا النوع من ترويض النفس حقاً، وهل أننا في رحلتنا الدنيوية العصيبة مطالَبون بهذا النوع من التدريب النفسي الإيماني؟، الجواب واضح ونظن أنه من صالح الإنسان أن لا يأسى على ما خسره، ولا يفرح بما ربحهُ للأسباب التي سبق ذكرها، ولكن في كل الأحوال يواجه البشر صعوبة في ذلك، بعضهم يُخفق وآخرون ينجحون، وعلينا أن نذهب بإصرار نحو النجاح في ترويض أنفسنا في حالتيّ الخسارة أو الربح..
اضف تعليق