يصف سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، العنف بأنه (استخدام القوة المعتدية) كما ورد ذلك في الكتاب القيّم الموسوم (من عبق المرجعية)، ولعل هذا الوصف او التعريف يختصر كثيرا من مظاهر العنف في مضمونه، وقد عانى عالمنا الراهن من ظاهرة العنف بصورة كبيرة، حيث يطول العنف وتوابعه بشكل يومي، أرواحا بريئة، ويدمر مدنا ودولا في مناطق كثيرة من العالم، لاسيما تلك الدول غير المستقرة ومن ضمنها وربما اكثرها عنفا دول معروفة في الشرق الاوسط، وغالبا ما يقع العنف تحت أسباب يجهلها الإنسان البسيط، ولكنها في الواقع مفهومة للمتابع المختص والذكي، إذ ينتج العنف عن حالات تصارع الارادات الدولية والاقليمية الخفية والمعلنة، ولا شك أن الاطماع والمصالح الكبرى هي التي تقف وراء الكثير من مظاهر العنف.
ولا شك أن هناك اسبابا مباشرة للعنف واخرى غير مباشرة، من الاسباب المباشرة تلك الوسائل المشددة التي تلجأ اليها الحكومات المستبدة وحكامها، فيقف خلفها الاستبداد والقمع والبطش بأنواعه، وبعضها نتيجة الجهل وانتشار الافكار المتطرفة التي تفاقم العنف بصورة غير مباشرة، فالحرمان والفقر وظلم الحكام، تعد اسباب مشتركة لصناعة العف.
كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (تكمن جذور العنف في الجهل والعصبية، والفهم الخاطئ للدين، والاستبداد والديكتاتورية والحرمان الاجتماعي، والظلم من قبل الحكومات والأفراد الذي يولّد العنف المضاد، وغلق قنوات الحوار البنّاء، أو ضيق هذه القنوات).
وهذا يستدعي اتخاذ إجراءات للوقوف بالضد من موجات العنف بأشكالها كافة، وهذا الهدف يتطلب مكافحة فعلية للعنف، مع القيام بحملات توعية تستهدف زيادة وعي الجميع من أن السلبيات التي يفرزها العنف كثيرة ومعقدة، وينبغي التصدي لها بقوة، من خلال وضع الخطط اللازمة لتحقيق هذا الهدف الجوهري، متمثلا بالقضاء الكلي والجاد على جميع مظاهر الجهل، كونه مصدرا لإنتاج العنف ونشر التطرف ومضاعفة التعصّب في التعامل مع الجوانب الفكرية والمادية المختلفة.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب في الكتاب المذكور نفسه: (يمكن مكافحة العنف في المجتمع من خلال تعميم ثقافة اللاعنف، وتوضيح أن العنف نار تحرق الكل ولا تستثني أحداً).
الاضرار النفسية والاجتماعية للعنف
لا تنحصر نتائج العنف بالخسائر او التضحيات المادية فقط، بل تتعدى ذلك الى الجوانب النفسية والاجتماعية، على الرغم من ان الجانب المادي يكون ظاهرا وملموسا او مرئيا، بينما الاضرار النفسية وإن كانت غير مرئية، لكنها ذات اثر قد يفوق التأثير المادي في الاضرار التي يتسبب بها، لذلك ينبغي أن تتنبه الجهات المعنية الى هذا الجانب، لاسيما في مجال الحريات والعدالة الاجتماعية وتوفير فرص العمل وكل ما يتعلق بتحقيق عدالة في توزيع الثروات بين المواطنين للحد من آثار الفقر، وتقليل الأذى الذي يحدث نتيجة للحرمان، على ان يشترك في تحقيق هذه الاهداف، لجان ومنظمات رقابية تشرف عليها وتديرها وتسهم فيها جهات الضغط كافة من منظمات المجتمع المدني وسواها.
لذلك نقرأ رأيا لسماحة المرجع الشيرازي في المجال يقول فيه: لابد للمعنيين من بيان (مضار العنف النفسية والاجتماعية والدينية، وتوفير الحريّة للمجتمع وإرساء دعائم العدالة الاجتماعية، وتوفير الفرص للجميع، وإعطاء حقوق الفقراء والمحرومين، وبالرقابة الاجتماعية، وقيام الأنظمة العامة التي تحمي المجتمع من حاملي راية العنف، وفتح قنوات الحوار البنّاء بين الأفراد والمجتمعات).
وقد يخطر في بال البعض أن هناك فوائد لاستخدام العنف ضد الاطراف المناوئة، لكن سرعان ما ستثبت النتائج ان العنف لا يمكن أن يحقق نتائج ذات بعد استراتيجي، فضلا عن كون العنف يشكل خطرا على الاهداف المقدسة، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (العنف ضارّ بالأهداف المقدّسة الكبرى على المدى البعيد، وإن فرض أنه حقّق بعض المكاسب الآنية السريعة).
ولعل اخطر ما يمكن أن ينتج عن العنف هو حالات التشويه التي يمكن أن يلحقها بالاسلام علما أن كلمة العنف في عصرنا أصبحت مصطلحا شائعا مجرَّما ومذموما، وهو يشمل مجالات عدة: في المجال الأسري: في العلاقة بين الزوج وزوجته، وبين الوالدين والأولاد، وبين رب الأسرة وربتها والخدم، وفي المجال الاجتماعي في العلاقة بين أرباب العمل والعمال، وبين الأقوياء والضعفاء بصفة عامة، وفي المجال التربوي في العلاقة بين المعلمين والتلاميذ وفي المجال التشريعي في تشديد العقوبات على المجرمين، ولكن على العموم ان العنف الذي يتم اللجوء إليه من قبل بعض التنظيمات المتشددة التي تنسب نفسها للاسلام، يعطي نتائج عكسية، من حيث تشويه المبادئ الاسلامية الصحيحة، اذ ينظر الغرب وغيرهم الى الاسلام من خلال حالات التطرف التي لا تمثله في اي حال من الاحوال.
لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا: (من أضرار العنف... أنه يشوّه صورة الإسلام في الأذهان، ويعطي ذريعة للأعداء كي يسمّوا الإسلام بالعنف والهمجية والوحشية، ويخلقوا حاجزاً نفسياً بين الناس والإسلام).
اعتماد أسلوب الحوار أولاً
لا شك أن الحوار هو البديل المناسب للعنف، أو انه أحد أهم السبل التي تعمل على تقليص مساحة العنف، لأن الحوار كما نعرف هو ثقافة ايضا، بينما العنف يمثل ثقافة ذات ميول متشددة، وهي نوع من اساليب الحياة ومناهجها، فالثقافة والتربية والافكار، يمكن بمجموعها أن تمثل عاملا مساعدا، اما لنشر ثقافة الحوار او لنشر ثقافة العنف، وهذا دليل قاطع على تأثير التربية في هذا المجال، لذلك يمكن أن تسهم التربية باعتماد العنف كمنهج في ادارة الحياة الفردية والمجتمعية، او يمكن ان يكون الامر عكس ذلك عندما يتم اعتماد الحوار.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب في الكتاب المذكور نفسه: إن (العنف ثقافة، كما أنه تربية، ولعل دور التربية في العنف لا يقلّ عن دور الثقافة).
ولكن هنالك انواع من القوة او ما يمكن ان نطلق عليه مصطلح (استخدام القوة)، يكون مشروعا في حالات معينة، بمعنى آخر هناك استخدامات معينة للقوة لا تدخل ضمن اطار العنف، بل يمكن اعطاء مثل هذه القوة غطاء مقبولا يدخل في حدود الاضطرار لاستخدام القوة، مثال ذلك عندما يضطر الفرد او المجتمع كله للدفاع عن المقدس أو عن الوطن ضد الاعتداءات التي تستهدف البلاد من خارج الحدود من داخلها.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (لا يمكن أن نعتبر الدفاع عن الوطن والعقيدة والمال والنفس من بواعث العنف ولكن بشرط عدم فاعلية جميع الخيارات السلمية). بمعنى ينبغي استخدام جميع الوسائل البديلة لاستخدام العنف، والتأكد من انها لم تأتي بالنتيجة المرجوّة، عند ذلك يلجأ الفرد او المجتمع الى استخدام القوة اضطرارا وليس اختيارا، بسبب الاخطار التي تواجهها البلاد او يواجهها الافراد، لا سيما عندما يكون الطرف الآخر معتديا، ورافضا لجميع مبادرات الحلول السلمية بما يحفظ حقوق الاطراف المتحاربة او المتضاربة في المصالح وما شابه، فالأصل هنا هو نبذ العنف وعدم اللجوء إليه، واعتماد الحوار وصولا الى الحلول التي تكفل حقوق الجميع.
اضف تعليق