q
ويكمن الحلّ لهذه المشاكل بتطبيق هيكلية إدارة جماعية للحجّ. وبإمكان منظّمة التعاون الإسلامي، بالتعاون مع الأقلّيات والمجتمعات المُسلمة، أن تؤدّي دوراً أكبر في تنظيم الحجّ وإدارته. فالحجّ رمز للوحدة الإسلامية، وهو حقّ مشترك للمسلمين أجمعين، لذا ينبغي أن تكون عمليةُ اتّخاذ القرارات بشأن هذا المقام...
بقلم: توران كاياوغلو

منذ القرن السابع، يزور المسلمون من أرجاء العالم مدينة مكّة المكّرمة، منشأ الدين الإسلامي، لإحياء تقاليد النبي محمّد وتقاليد إبراهيم وهاجر واسماعيل أيضاً. كمنسك ديني، يتمحور الحجّ حول طاعة الله والتضحية بالذات بحثاً عن الصراط المستقيم. وكما وصفها مالكولم أكس بروعة في سيرته الذاتية، إنّها تجربة تحوّلية للملايين من المسلمين القادرين على القيام بهذه الرحلة.

بيد أنّ الحجّ هذه السنة وقع بدوره ضحيّة فيروس كورونا المستجدّ. ففي الشهر الماضي، منعت المملكة العربية السعودية الحجّاج من أنحاء العالم، ممّا قلّل كثيراً من عدد الأشخاص القادرين على أداء هذه الفريضة المقدّسة. ويُعتبر الحجّ السنوي من أكبر التجمّعات في العالم، إذ يستقطب قرابة 2,5 مليون مسلم من أرجاء العالم. لكنّ الأعداد هذه السنة ستنحصر ببضعة آلاف.

وقد اتّخذت الحكومات المُسلمة في العالم كلّه خطوات سريعة للحدّ من السفر والصلاة في المساجد للحؤول دون تفشّي فيروس كورونا المستجدّ. وفي فبراير، منعت المملكة العربية السعودية الحجّاج الأجانب من دخول البلاد. وفي تركيا، تمّ تعقّب أثر فيروس كورونا المستجدّ إلى مجموعة من الزوّار الأتراك العائدين من العُمرة في مارس. لهذا السبب، منعت تركيا بسرعة التجمّعات العامة والسفر الدولي.

وتُبيِّن هذه الإجراءات أنّ الخوف على الصحّة والسلامة تبوّأ الأولويّة أمام الفروض الدينية. وكان هذا القرار الصائب نظراً إلى أزمة الصحّة العامّة الراهنة. لكنّ قرار المملكة العربية السعودية الصائب لا ينبغي أن يمنع النقاش النقدي حول المشاكل المتأصّلة في إدارة المملكة للحجّ.

وتقدّم الظروف المؤسفة هذه السنة فرصة جيّدة للدول المُسلمة والمنظّمات الدولية لمعالجة بعضٍ من المشاكل الجوهرية التي تشوب الحجّ السنوي. ويكمن الحلّ لهذه المشاكل بتطبيق هيكلية إدارة جماعية للحجّ. وبإمكان منظّمة التعاون الإسلامي، بالتعاون مع الأقلّيات والمجتمعات المُسلمة، أن تؤدّي دوراً أكبر في تنظيم الحجّ وإدارته. فالحجّ رمز للوحدة الإسلامية، وهو حقّ مشترك للمسلمين أجمعين، لذا ينبغي أن تكون عمليةُ اتّخاذ القرارات بشأن هذا المقام الديني وإدارته مسؤوليةً جماعية لكلّ المسلمين.

الحجّ الآمن حقّ لكلّ المسلمين

الحجّ فرضٌ على كلّ مسلم قادر جسدياً ومادّياً على أدائه. لكنّ الكثير من المسلمين يُحرَمون من حقّ أداء مناسكه بسبب نقص المساحة وقدرة المملكة العربية السعودية المحدودة على التنظيم.

فعلاوة على موقع الحجّ المحدّد في مكّة، ينبغي القيام بمناسك الحجّ على مدى ستّة أيّام في شهر ذو الحجة، الشهر الثاني عشر والأخير في التقويم الهجري. وقام بهذه الرحلة 100 ألف حاجّ تقريباً في أوائل الخمسينيات، لكنّ الأعداد ازدادت بسرعة مع نموّ عدد المسلمين في العالم وسهولة السفر الجوي. وفي التسعينيّات، وضعت المملكة العربية السعودية سقفاً لأعداد الزوّار عبر فرض نظام الكوتا، وربطت عدد الحجّاج الآتين من كلّ بلد بعدد سكّانه المُسلمين. ومنذ العقد الأول من هذا القرن، قارب عدد الحجّاج نحو 2,5 مليون شخص، وهذه نسبة طفيفة من مُسلمي العالم البالغ عددهم 1,7 مليار شخص.

بسبب نظام الكوتا هذا، ينتظر الحجّاج الراغبون لسنوات أو عقود لأداء فريضة الحجّ. واعتمدت بعض الدول نظام القرعة لتحديد هوية الحجّاج المُحتملين. وينتهي الأمر بالكثير منهم بأداء هذه الطقوس المُتطلّبة جسدياً في سنّ طاعنة، هذا في حال عاشوا ما يكفي من السنين ليتمّ اختيارهم.

ثانياً، نظام صناعة القرارات للحجّ مُسيَّس بأساسه. ولا ينبغي أن تحول حكمة القرار السعودي هذه السنة من رؤيتنا العيوب في هذه العملية: لقد كان قراراً سعودياً بالنيابة عن كلّ المسلمين. ففيما تجمع الفروض الإسلامية، على غرار الصوم، نواحيَ فردية وجماعية، يطغى الطابع الجماعي على الحجّ، فهو فرض جماعيّ يقع تحت رحمة السعودية وحدها من حيث صناعة القرار والإدارة.

والسيطرة السعودية على هذه المقامات الدينية مترسّخة بالقانون والسيادة الدوليين، وليس في الدين نفسه. فتبعاً للتعاليم الإسلامية، يحقّ لكلّ المسلمين زيارة الكعبة، أي بيت الله، لأداء الحجّ. لكن منذ أوائل الثمانينيات، لجأت العائلة الملكية السعودية بشكل متزايد إلى غطاء ديني لتشريع سيطرتها، فأسمت المملكةَ العربية السعودية “خادم الحرمَين الشريفين”. ويعزّز ذلك شرعية النظام إزاء النقّاد الإسلاميين والخصوم الإقليميين، وعلى وجه الخصوص إيران، ويؤكّد سلطة المملكة العربية السعودية الحصرية على الحجّ.

وبحسب النظام الحالي، أصبح الحجّ أداة أخرى في ترسانة السياسة الخارجية السعودية، إذ تُبقي المملكة نظام الكوتا غامضاً قدر الإمكان من أجل استغلاله كأداة سياسية لمكافأة حلفائها ومعاقبة خصومها. علاوة على ذلك، بإمكان المملكة العربية السعودية تسهيل إصدار التأشيرات أو عرقلته. مثلاً، بموجب الحصار السعودي، مُنع الحجّاج القطريون فعلياً من أداء فريضة الحجّ لأنّ الكثيرين واجهوا صعوبات في الحصول على تأشيرات.

وتبرز المشاكل الصحّية ومشاكل السلامة أيضاً. فحتّى قبل جائحة فيروس كورونا المستجدّ، شكّل أداء فريضة الحجّ مخاطرَ على الصحّة العامة. فحوادث الحجّ شائعة: مبانٍ ورافعات تسقط على الحجّاج وحرائق وحوادث تدافع تؤدّي إلى وقوع إصابات ووفيات. وتبعاً للإحصاءات السعودية، من العام 2002 إلى العام 2015، مات 90,276 شخصاً من أكثر من مئة دولة في خلال أداء فريضة الحجّ أو العمرة في مكّة. ويساوي هذا العدد وفاةً واحدة لكل ألف شخص تقريباً. ولا يفسّر عُمر الحجّاج وطبيعة الحجّ المتطلّبة جسدياً معدّل الوفيات هذا بشكل كامل.

وتبيّن هذه البيانات أنماطاً تعكس تفاوتاً عالمياً. فقد بيّنت دراسة أجراها العالم السياسي روبرت بيانكي معدّلات وفيات عالية في صفوف الحجّاج الآتين من دول فقيرة. فمعدّل الوفيات ثلاثة أو أربعة أضعاف لدى الحجّاج المصريين أو الهنود مقارنة بالحجّاج الأتراك أو الإيرانيين. ويرتفع معدّل الوفيات عندما تستأثر النساء بحصّة أكبر من عدد الحجّاج من دولة محدّدة. وتُسجَّل معدلات الوفيات الأعلى في خلال العمرة التي هي أقلّ تنظيماً، كما وأنّ وضْع الأقلّيات والمهاجرين واللاجئين المقيمين في المملكة العربية السعودية أكثر هشاشة أيضاً في مكّة. ويفتقر بعضهم فرص التوظيف الرسمي، فيتّجهون بالتالي إلى الاقتصاد غير الرسمي الذي يُنشِئه تدفّق الحجّاج. ويضعهم عجزهم عن الوصول إلى الرعاية الصحّية في خطر أكبر أذا أصيبوا بمرض أو تعرّضوا لإصابة.

ويعتبر البعضُ الموتَ في الأراضي المقدّسة بركةً، إذ هو وسيلة لدخول الجنّة بعد التطهّر من كلّ الخطايا السابقة. وتَحُول هذه القناعة غالباً دون التشكيك في غياب تنظيمات السلامة وقدرة الوصول المحدودة إلى الرعاية الصحّية والإهمال الإداري أو عدم الكفاءة الإدارية. وهذه هي التفسيرات المرجّحة أكثر لتبرير معدّل الإصابات والوفيات المرتفع.

الحجّ الآمن مسؤولية كلّ المسلمين

الطريقة الفضلى لمعالجة هذه التحديات هي بتطبيق هيكلية إدارة جماعية للحجّ. فبإمكان منظّمة التعاون الإسلامي، بالتعاون مع المجتمعات المُسلمة في جميع أنحاء العالم، أن تؤدّي دوراً أكبر في تنظيم فرائض الحجّ السنوية وإدارتها.

وينبغي أن تكون إعادة تنظيم الحجّ للسماح للمزيد من المسلمين بزيارة مكّة أولويةً. وقد يساعد إجراء تغييرات تدريجية لتوسيع المساحة حول الكعبة، لكنّ هذا لن يكفي. فعلى غرار المساجد التي تسمح بصلوات متعددّة ليوم الجمعة أو العيد، يمكن أن تؤدّي الحجّ مجموعاتٌ متعدّدة غير متداخلة.

وفيما قد يصنّف البعض هذه الاقتراحات بالبِدع ويعتبرها بالتالي غير مقبولة، ليس التغيير بأمر جديد في طقوس الحجّ، إذ تتمّ نحر الأضحية الآن في المسالخ عوضاً عن أن يذبحها الحجاج في الصحراء، ويتمّ السلام على الحجر الأسود عن بعد عوضاً عن تقبليه، وتمّ التقليل من البقاء طوال الليل في مزدلفة، ويرجم الحجّاج الشباب الشيطان بالنيابة عن الحجّاج العجز.

وينبغي أن يكون القيّمون على الصحّة العامة وسلامة الحجّاج جزءاً لا يتجزّأ من تصميم الحجّ وتنظيمه وإدارته. وتمنح هذه السنة التي لا حجّ فيها فرصة لإعادة تنظيم هذا الفرض الإسلامي. فهو واجب، وبالتالي حقّ ومسؤولية، للمسلمين أجمعين.

https://www.brookings.edu

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق