من سجايا الانسان الفطرية التي أوجدها الله تعالى ضمن البنية النفسية للبشر، توقهُ للحرية، فما أن يولد الانسان طفلا، حتى تولد معه بوادر البحث عن التحرر، لذلك يقول العلماء والعارفون، طالما أن الله تعالى خلق الانسان حرا، فلا يصحّ التجاوز على هذه الملكة الالهية التي وُهبت للانسان، ولا يصح سلبها او التجاوز عليها في أي حال من الاحوال ومهما كانت المبررات، فالحرية في واقع الحال هي الاشتراط الاول لتقدم البشرية، وفي غياب الحرية لا يوجد فكر حر ولا اكتشاف ولا اختراع، وان من المستحيل للانسان ا يصل الى ما وصل إليه الآن في عصره الراهن، لو لا أن استقى من الحرية فوائد الاكتشاف والتحرر.
ولا شك أن الحرية تأخذ مسارين دائما، فهناك حرية لا مادية، وأخرى تتعلق بالملموس المادي، وهذان المساران عبارة عن حالتان متلازمتان للحرية، كما هو الحال في المنظور الاسلامي لحرية الفكر والعمل، بمعنى ينظر الاسلام الى الحرية من وجهتين، الاولى هي حرية الفكر، والثانية هي حرية العمل، وفي كلا الحالتين يبقى الانسان هو سيد القرار او ينبغي ان يكون الامر كذلك.
كما يؤكد سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في الكتاب الموسوم بـ (من عبق المرجعية) إذ يقول سماحته حول هذا الجانب: (هناك حريّتان موجودتان في الإسلام، حريّة الفكر حيث يقول تعالى: (لا إكراه في الدين)، وحريّة العمل؛ للقاعدة المسلّمة لدى الفقهاء: الناس مسلّطون على أنفسهم).
وانطلاقا من هذا المنظور الاسلامي للحرية بشقيها العملي والفكري، كان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) ينظر الى حرية الانسان وفق هذا المنظار الذي يأبى الضغط على انسان لكي يحدد فكره في اتجاه معين، فالانسان في الحقيق واستنادا الى حريته هو سيد الاختيار، وهو الذي يتعاطى مع الفكر مثلما يرى ويفهم ويقتنع، ومن ثم يتخذ القرار الذي يراه في صالحه عن قناعة فردية وايمان لا يتكون بقوة السيف او الضغوط الاخرى. هكذا هو الاسلام في حقيقة الامر، ينظر الى الفكر رؤية مقدسة لا يجوز المساس بها او التجاوز عليها، وهذا هو منهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث التأكيد على ان حرية الفكر خط احمر بالنسبة للاسلام.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في الكتاب المذكور نفسه: (كان لرسول الله صلى الله عليه وآله الصديق المسيحي والجار اليهودي، دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام، مع أنه كان الحاكم الأعلى في الجزيرة العربية، وكان بيده السيف والمال).
الحرية أكثر تقديساً من الشهادتين
لكي نفهم مكانة الفكر الحر في المنظور الاسلامي، لابد ان نعرف كيف يتعامل الاسلام مع حرية الرأي والفكر واعلان ما يبطن الانسان، وحتى يقطع الاسلام دابر التشكيك حول هذا الموضوع فقد منح الحرية نوعا من التقديس ودرجة واضحة من القداسة، حتى لا تكون عرضة للتهديد او التجاوز من لدن السلطات بمختلف اشكالها، فالحرية كما يتبين لنا وفق الاسلام خط احمر غير قابل للانتهاك.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتاب (من عبق المرجعية): إن (حريّة الرأي في نظام الله وقانون الإسلام أكثر تقديساً حتى من الشهادتين، فالإسلام يريد أن يجعل الناس أحراراً).
وكما نفهم أن الاسلام وضع قاعدة اساسية للحرية، ينبغي الالتزام بها، حتى يكون الانسان حرا فيما يفكر ويسلك ويقول، وهذه القاعدة تحمي الانسان نفسه، الانزلاق في مهاوي الزلل، ألا وهي قاعدة عدم إلحاق الضرر بالآخر، بمعنى، أنك عندما تكون حرا في القول والسلوك عليك أن لا تنس قاعدة عدم إلحاق الضرر بالآخر، وما عدا ذلك فأنت حر في الفكر والسلوك، لذا يتعامل الاسلام مع الظالم بصورة حازمة لا مجال للتساهل فيها كونها تلحق الضرر بالآخرين.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع بكتابه نفسه: (يضرب الإسلام بشدّة على يد الظالم ومن يريد إلحاق الضرر بالآخرين، فإذا ضمنت ذلك فأنت حرّ في كل أمورك).
كذلك هناك حرية من نوع آخر تضاهي حرية الفكر وقد تكون لها ترابط مع حرية العمل، ونعني بها حرية الحركة والانتقال من مكان الى آخر، ففي الاسلام يكون حر التنقل والحركة حتى يكون بمقدوره الانتاج والابداع، من دون وضع قيود على حركته، طالما كان شرط عدم ايقاع الضرر بالآخرين متوافر لديه، لكن ما نلاحظه في عالم اليوم أن حركة الانسان مقيَّدة كثيرا وهناك قوانين وضوابط مانعة لهذه الحركة تحت ألف سبب وسبب، في حين يبقى الانسان حر الحركة في الاسلام اذا تجنّب إلحاق الضرر بالناس.
في هذا الصدد يقول سماحة المرجع الشيرازي في الكتاب المذكور نفسه: (خذوا أكثر بلدان العالم اليوم حرية كفرنسا والولايات المتحدة مثلاَ، ترى القيود الكثيرة للسفر منها وإليها، فهذه القيود موجودة في كل دول العالم، وإن كانت في بلداننا أشدّ، أما الإسلام فلا يوجد فيه مثل هذا!).
الامام علي (ع) وحرية الرأي
إن الحرية التي منحها الله تعالى للإنسان لا يمكن أن تكون بلا هدف، لأن الابداع الانساني يتوقف على منح الانسان حرية التفكير والرأي والحركة وما شابه، كما ان حركة الاشياء كلها قائمة على الحركة وتأثير الاسباب بالنتائج، حتى المطر عندما يسقط من السماء على الارض له هدف مسبق يصب في صالح الانسان، لذلك فإن الله تعالى اطلق يد الانسان حرة في الارض بما يخدمه كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله الذي ورد على شكل تساؤل: (لماذا خلق الله الأمطار؟ هل لتنزل على أرض جرداء وتذهب هكذا هباء؟! أم لكي تسقي الأرض ويستثمرها الإنسان، لقد خلق الله الأرض والمطر والإنسان وربط بينهم، وأطلق يد الإنسان ليحصل على بركات السماء والأرض).
لذلك كانت ولا تزال وستبقى الحرية شرطا للابداع ولتحقيق التطور البشري، كونها مطلوبة في جميع الاحوال وفي جميع العهود والأزمنة، وهذا ما نجده حتى في حكومة الامام علي عليه السلام، فعلى الرغم من انه امام معصوم من الخطأ لكنه منح الجميع حرية الرأي والتفكير والعمل واتاح مبدأ التعددية، والهدف من ذلك جعل الامور تتساوق مع فطرة الانسان حتى يكون أكثر انتاجا على الصعد المادية والفكرية.
نقرأ في هذا الخصوص قولا لسماحة المرجع الشيرازي توضيحا للأبعاد التي تنتج عن منح الحريات كاملة للناس حتى لو كان الحاكم معصوم من الخطأ، إذ يقول سماحته: إن (الإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه مع أنه معصوم لا يخطئ ولا يطغى، قد سمح بالحريّة والتعددية والتعبير عن الرأي، فكيف إذا استبدّ وتفرّد غير المعصوم في الحكم؟!).
لذا كانت ولا تزال الحرية في المنظور الاسلامي مقدسة، لما لها من تأثير حاسم في تطوير حياة الانسان وتطوره، كما أنها نعمة على الانسان أن يستثمرها أفضل الاستثمار وأن لا يقف حجر عثرة امامها، لأنه بذلك كمن يحاول أن يقف بوجه مجرى مائي متدفق لا يمكن إيقافه!، وهكذا هي الحرية في المنظور الاسلامي سيل متدفق يمضي الى الامام دائما، ولكنه يمتلك في بنيته شرط عدم الحاق الضرر بالآخر، فعلى الانسان أن يتنبه لذلك ويسعى بجدية تامة لتوظيف الحرية بكل اشكالها لصالحه.
وأخيرا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (الحريّة نعمة إلهيّة عظمى ينبغي اغتنامها على أحسن وجه).
اضف تعليق