q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

أقرباء المسؤول والتجاوز على المال العام

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

نتيجة لقلّة المعرفة، وضآلة الوعي، وعدم السيطرة على أهواء النفس، يقع بعض القادة والحكام والمسؤولين في فخ الازدواجية بالتعامل مع الأقرباء، ويقع أقارب الحاكم في الفخ نفسه، إذ يرى هؤلاء أنهم مفضّلون على غيرهم من عامة الشعب، بالمكاسب والمنافع والامتيازات، طالما أن القائد يمت بصلة رحم لهم، غير مدركين بأن العدالة تستوجب المساواة بين الجميع، واعتماد الكفاءة والمؤهلات الاخرى، ومراعاة الضوابط التي تحاول أن تمنع حالات التمييز بين أقارب الحاكم والمسؤول من جهة، وبين عامة الناس من جهة اخرى.

فالحق والعدالة تمنع تمييز اقارب الحاكم عن غيره من الناس، إلا بالمقدار الذي يخضع للضوابط، بمعنى ينبغي التعامل مع الاقرباء مثلما يتم التعامل جميع الناس بغض النظر عن درجة القربى مع القائد أو المسؤول أيا كانت درجة صلاحياته.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام)، حول هذا الموضوع: (كان الامام علي عليه السلام لا يفرّق أقرباءه عن غيرهم، وإنما كان يساوي بينهم وبين غيرهم في مختلف المجالات).

نعم هكذا كان قائد دولة الاسلام الامام علي عليه السلام، هكذا يتعامل مع أقرب الناس إليه، كأن يكون أخوه أو ابنته او ابن عمه، فهؤلاء الأقرباء، لا يمكن أن يكون لديهم امتياز على حساب الشعب، ولك هل هذا مطبَّق الآن في الدول الاسلامية، وهل قادتها وحكامها ومسؤوليها ملتزمون بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، وإعطاء كل ذي حق حقه واستحقاقه وفقا للمؤهلات التي يتحلى بها؟. إن السياسة الصحيحة في تعامل القادة مع الأقارب، هي التي ترتكز على قاعدة العدالة، أما إذا حدث العكس فهذا السلوك يتنافى تماما مع مبادئ الاسلام والمنطق والعدل والانسانية ايضا، من هنا ينبغي على قادة المسلمين أن يتخذوا من الشخصيات القيادية الخالدة نماذج لهم في هذا المجال، كما هو الحال مع الكيفية التي تعامل بها الامام علي عليه السلام قائد دولة الاسلام الأعلى مع الأقرباء.

لذا يذكّرنا سماحة المرجع الشيرازي، قائلا في هذا المجال: (هذه هي السياسة الإسلامية الرشيدة التي طبّقها أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه وعلى أقربائه قبل أن يطبّقها على سائر الناس، ويطالبهم بالعمل عليها).

الهِباتْ في غير محلها سرقة

كثيرة هي الهبات والعطاء والمُنَح التي يغدقها بعض القادة، على أقربائهم والمقربين منهم من دون وجه حق، فالقائد او المسؤول يعلم علم اليقين انه في بعض قراراته التي يمنح فيها هبات لأناس لا يستحقونها، ومع ذلك يخطو مثل هذه الخطوات التي يجامل فيها أقرباءه على حساب الشعب، فالدينار الواحد الذي يخرج من خزينة الدولة من الحاكم لأي شخص او جهة لا تستحقه، إنما هي سرقة في حقيقة الامر، لأن جميع افراد الشعب لهم حق في هذا المال، لذلك عندما يخجل القائد او أي مسؤول كان، ويتعامل مع المقربين منه خارج ضوابط صرف الاموال، انما هو يسرق شعبه في حقيقة الأمر.

لهذا السبب يورد لنا سماحة المرجع الشيرازي هذه الحادثة التي وقعت في عهد وحكم الامام علي عليه السلام، في كتابه المذكور نفسه، إذ يقول سماحته: (عبد الله بن جعفر الطيار، ابن أخيه، وصهره على ابنته عقيلة الهاشميين زينب الكبرى عليها السلام . وكان رجلاً صالحاً مؤمناً من سادات بني هاشم، كريماً يطعم الناس، وله سفرة مفتوحة صيفاً وشتاءً، وليلاً ونهاراً. ضاقت عليه الدنيا ذات مرّة، فجاء إلى عمّه أمير المؤمنين عليه السلام وقال: يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فوالله، مالي نفقة إلا أن أبيع دابّتي؟! فقال عليه السلام لـه: لا والله، ما أجد لك شيئاً إلا أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك).

إن هذه القصة تؤكد بما لا يقبل الشك أن إعطاء القريب من مال الدولة وخزينتها، من دون استحقاق هو سرقة في وضح النهار، يُعاقَب عليها مرتكبها تماما مثلما تتم مقاضاة السارق، ولكن ما أكثر مثل هذه الحوادث و (السرقات) في واقعنا الراهن وفي ظل بعض حكوماتنا الاسلامية، لأن القائد أو الرئيس او المسؤول فيها يغدق على ابنائه واخوانه واقاربه وحتى اصدقائه كثيرا من الاموال من دون مسوّغ مقبول، سواء كان قانونيا او عرفيا او شرعيا، لذلك كان الامام علي عليه السلام قائد دولة المسلمين، يتعامل بحزم مع امور ووقائع كهذه، فهو عليه السلام يرفض أن يسرّب دينارا واحدا الى ذويه مهما كانت الحاجة، لسبب بسيط أن هذه الاموال تعود لكل المسلمين وكل الشعب.

لذلك عندما يقوم بعض القادة والحكام والمتنفذين، بمخالفة هذه القاعدة، ويمنحون اخوانهم واقربائهم أموالا من بيت المال (خزينة الدولة)، فهذا السلوك يعد نوعا من السرقة والتجاوز، وطالما يمنح الحاكم والمسؤول اموالا وهبات لمقربين له (وهو قادر على ذلك) بحكم موقعه، فإنه في هذه الحالة يسرق شعبه، ويمدّ يده من دون وجه حق على اموال الناس ويعطيها لشخص لا يستحقها، فماذا يمكن أن نسمي مثل هذا السلوك، خاصة انه يحدث الآن بصورة متكررة في بعض الدول الاسلامية؟.

هدايا المسؤول ملك للشعب

تشير مدوَّنات التاريخ حول الملوك والرؤساء والحكام بصورة عامة، الى تعامل متنوع ومختلف من حاكم الى آخر، مع الهدايا والتحف التي يحصل عليها من شتى المصادر والجهات، ومنهم من يرى فيها او يجعلها ملْكا شخصيا له، فيما يحتفظ بها بعضهم في متاحف، أما الامام علي عليه السلام في عهده، كان يرى في الهدايا التي تصل إليه ملكا للدولة والشعب، ويحيلها الى بيت المال، ليس هذا فحسب بل يمنع الاقرباء من التصرف بها او استملاكها، لأنها ملك المسلمين جميعا.

فقد أورد سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور اعلاه ما يلي: (روى المؤرّخون: «أنّه بُعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام من البصرة من غوص البحر بتحفة لا يدرى ما قيمته، فقالت لـه ابنته أم كلثوم: يا أمير المؤمنين أتجمّل به ويكون في عنقي؟ فقال علي عليه السلام لخازن بيت المال أبي رافع: يا أبا رافع أدخله إلى بيت المال. ثم قال لابنته: ليس إلى ذلك سبيل حتى لا تبقى امرأة من المسلمين إلا ولها مثلما لك»).

هكذا بهذه الصيغة وهذا التصوّر كان الامام علي عليه السلام يتعامل مع الهدايا التي تصل إليه شخصيا، ويمنع اقربائه من التصرف بها، ويدفع بها الى خزينة الدولة، لأنه يرى فيها حقا من حقوق المسلمين ولا يصح التصرّف بها، تُرى كم من قادة المسلمين ومن المسؤولين يتصرف مع الهدايا التي تصله شخصيا بهذه الطريقة، بل السؤال الأهم كيف يتصرف القادة والمسؤولون مع المال العام؟، ألم تحدث في بلداننا الاسمية تجاوزات واختلاسات هائلة طالت المال العام، ثم أليس من الواجب على السياسيين كافة وكل من يتربع في منصب ذا صلاحيات، أن يتعلم من هذا الدرس الكبير، الذي خلّفه لنا الامام علي عليه السلام، كإرث سياسي اخلاقي فريد؟.

يقول سماحة المرجع الشيرازي، موجها كلامه الى قادة المسلمين وساستهم، في هذا المجال بكتابه نفسه: (من أراد سياسة الإسلام فليتعلم من علي بن أبي طالب تلميذ رسول الله صلی الله عليه وآله). نعم لا شك ان قادة اليوم في الدول الاسلامية مطالبون بانتهاج سياسة الامام علي عليه السلام كنموذج في التعامل مع الاقرباء ومع المال العام والمناصب، ولا يصح التعامل مع هذا الملف بطريقة تؤكد انحياز القائد والمسؤول الى اقاربه وذويه، إلا بحدود الضوابط المعروفة، لأن الواقع يشير الى تعامل ينطوي على شبهات كثيرة تحوم حول القادة في بعض الدول والحكومات الاسلامية، وهو امر لا يليق بالمسلمين، طالما أنهم يمتلكون إرثا مشرِّفا في مجال حفظ المال العام والتعامل بعدالة حتى مع أقرب الناس للقائد والحاكم والمسؤول.

 

اضف تعليق